Skip to main content

الأغلبية والأقلية: أغسطس وتيبيريوس والمثل الرومانية

يبحث تي بي وايزمان كيف شكلت المُثل الجمهورية الرومانية، والصراع بين الحزبين الأرستقراطي والشعبي حياة القائد الروماني المنتصر أغسطس وإرثه، وكذا خليفته المختار تيبيريوس.

 منذ ألفي عام، في الثامن عشر من أغسطس عام ١٤ ميلاديًّا في مدينة نولا على بعد نحو ٢٠ ميلًا شرق نابولي، كان القيصر أغسطس في سكرات الموت. كان واعيًا بما يكفي ليجري حوارًا خاصًّا طويلًا مع ابنه بالتبني ووريثه تيبيريوس، الذي استُدعي على وجه السرعة ليقطع البحر الأدرياتيكي تاركًا مسئولياته العسكرية. لم يكن ثمة إلا موضوع واحد للمناقشة: كيف سيقوم الحكم في روما وإمبراطوريتها؟ لا يستطيع سويتونيوس كاتب سيرة أغسطس، وهو مؤلف دقيق وواسع الاطلاع، توقع ما قيل في هذا الحوار، لكنه يضيف هذا التعليق:

أعلم أن ثمة اعتقادًا شائعًا بأن تيبيريوس عندما رحل عقب هذا الحوار السرِّي، سمعه أعوان أغسطس الشخصيين وهو يقول: «مسكين شعب روما؛ فهم بين شقي الرحى!»

نُقش حجر فرنسا الكريم في أثناء حكم تيبيريوس في عام ٢٣ ميلاديًّا تقريبًا، ويُظهِره وهو جالس على العرش في حين يطير أغسطس مرتديًا وشاحًا ومُتوَّجًا فوقه.

نُقش حجر فرنسا الكريم في أثناء حكم تيبيريوس في عام ٢٣ ميلاديًّا تقريبًا، ويُظهِره وهو جالس على العرش في حين يطير أغسطس مرتديًا وشاحًا ومُتوَّجًا فوقه.

ومن خلال إطلاعه على الأرشيفات الإمبراطورية، علم سويتونيوس أيضًا أن خطابات أغسطس السرية إلى تيبيريوس أظهرته بصورة أكثر إيجابية، فنقل عنه مجموعة من الفقرات؛ منها هاتان الفقرتان:

من فضلك اعتن بنفسك. فإذا سمعنا أنك مريض فقد يقضي هذا عليَّ وعلى والدتك، وستتعرض إمبراطورية الشعب الروماني كلها للخطر. أدعو الآلهة، إذا لم تكن تكره الشعب الروماني، أن تحفظك لنا وتمنحك موفور الصحة، الآن وفي كل وقت.

ربما يجد القراء في العصر الحديث أسلوب الخطاب هذا مثيرًا للدهشة، فهل كان بالفعل أغسطس الإمبراطور وتيبيريوس خليفته؟ وما دخل الشعب الروماني بهذا؟

بالطبع لهم دخل كبير. إن استخدام لقب «إمبراطور» لأي من أغسطس أو تيبيريوس، يعد مفارقة تاريخية مضللة للغاية. ولمعرفة السبب علينا العودة إلى ثلاثة قرون مضت.

في القرن الثالث قبل الميلاد، وهي أقدم فترة لدينا معلومات موثوق بها عنها، كان مصطلحا «الشعب الروماني» و«الجمهورية الرومانية» مترادفين، فكان كل المواطنين الرومان سواسية، وفقًا لما أقره رومولوس منذ بداية تأسيس روما، وكانت السلطة السياسية والقيادة العسكرية، حتى وإن كانتا من نصيب أحفاد الأسر الأرستقراطية القديمة، تهدفان إلى مصلحة الشعب الروماني وتحت سيطرته.

لكن قوضت الحرب مع هانيبال (٢١٨–٢٠١ق.م) فكرة المساواة؛ فقد كانت هزيمتا روما الكارثيتان بسبب خطأ قادة «شعبيين» (فلامينيوس وفارو)، بينما كان الرجلان المسئولان عن استراتيجية الدفاع الصامدة التي منعت هانيبال من الفوز في الحرب، وعن الهجوم الجريء الذي هزمه في النهاية (فابيوس ماكسيموس وكورنيليوس سكيبيو على التوالي) أرستقراطيين من الأسر النبيلة القديمة. نُسب إلى مجلس الشيوخ الفضل في مكانة روما الجديدة بوصفها القوة العظمى في غرب البحر المتوسط، وكانت هزيمة المقدونيين على يد أرستقراطي آخر هو أميليوس باولوس، الذي قاد في عام ١٦٧ قبل الميلاد جيوش آخر خلفاء الإسكندر الأكبر إلى تحقيق نصر روماني.

عملت أرباح الإمبراطورية على تفاقُم الفَرْق في الثروة بين قمة المجتمع الروماني وقاعه، وبحلول النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد كان كثير من الأرستقراطيين في مجلس الشيوخ لديهم من الغطرسة ما يجعلهم يعتقدون أن الجمهورية تخدم مصالحهم وحدهم. عندما قُتل ممثلون منتخبون قانونيًّا للعوام دون أن ينال الجناة جزاءهم؛ بسبب طرحهم قانونًا ضد المصالح السياسية والاقتصادية للنخبة الأرستقراطية، كما حدث في أعوام ١٣٣ و١٢١ و١٠٠ و٨٨ قبل الميلاد، كان الاستقطاب حتميًّا في سياسة الجمهورية، وأدى الاغتيال السياسي مباشرة إلى حرب أهلية.

أصبحنا نعرف الكثير بوجه خاص عن هذه الفترة المأساوية بفضل خطب وحوارات وخطابات شيشرون (١٠٦–٤٣ق.م) الباقية حتى الآن، الذي كان يرى أن المواجهة الأيديولوجية حقيقة لا مفر منها، قال: «في هذه الدولة كان دومًا ثمة نوعان من السياسيين، اسمًا وفعلًا؛ هما: المنتمون إلى الحزب الشعبي والمنتمون إلى الحزب الأرستقراطي. الأول يتحدث باسم العامة ويمثلهم، والثاني ينوب عن النخبة.» من أطلق عليهم شيشرون اسم النخبة وصفهم على نحو أكثر دقة المؤرخ المعاصر له والأصغر سنًّا سالوست على أنهم «قلة من أصحاب النفوذ.»

في عهد شيشرون كان للحزب الشعبي بطل مرهوب وهو يوليوس قيصر. عندما عبر نهر روبيكوني وقدم إلى روما في عام ٤٩ق.م كان هدفه المعلن هو «تحرير الشعب الروماني مما يتعرض له من قمع على يد زمرة من قلة من الرجال.» عند فوزه في الحرب الأهلية عفا عن أعدائه المهزومين وصرف حارسه الشخصي، واعتمد على قَسَم كل أعضاء مجلس الشيوخ بالحفاظ على سلامته، إلا أن «زمرة» الحزب الأرستقراطي حنثوا بيمينهم وقتلوه في الخامس عشر من مارس عام ٤٤ق.م، فطالب الشعب الروماني بالثأر وأثاروا الشغب في جنازته.

لم يكن ليوليوس قيصر أي أبناء، لكنه تبنَّى في وصيته ابن ابن أخته أوكتافيوس (أغسطس)، وهو شاب كان يتلقى في هذا الوقت التعليم العسكري وفن الخطابة في اليونان. كان السؤال هو هل سيقبل أوكتافيوس هذا الميراث: لقب «القيصر» ومهمة الأخذ بالثأر؟ لقد قبِل به وقال وهو يسرد إنجازاته عقب نحو ٦٠ عامًا:

في سن التاسعة عشرة كونت وحدي وعلى نفقتي جيشًا حررت به الجمهورية من ظلم زمرة مهيمنة.

إن صدى إعلان القيصر هذا واضح لا يخطئه أحد؛ فقد أصبح هذا الشاب القيصر أيضًا. (يميل المؤلفون حديثًا إلى إطلاق اسم «أوكتافيون» على أوكتافيوس، لكنه لم يستخدم هذا الاسم قط.) انتخبه الشعب الروماني مع اثنين من زملائه الأكبر سنًّا؛ ليتولى القيادة العليا على نحو استثنائي لمدة خمس سنوات؛ من أجل تدمير القتلة وحلفائهم. تحقق هذا إلى حد بعيد في معركة فيليبي (٤٢ق.م)، وهُزم آخر أعضاء الحزب الأرستقراطي الشديدي المقاومة في صقلية بعدها بست سنوات. في هذه الأثناء رُفع القيصر المتوفَّى رسميًّا إلى مصافِّ الآلهة وأطلق عليه اسم «ديفوس يوليوس».

من المهم أن ندرك أننا عندما نطلق على منفذي عملية الاغتيال بروتس وكاسيوس «جمهوريين»، كما يفعل بعض المؤلفين حديثًا، فإن هذا يعني أننا نقر بالتعريف المتحامل للحزب الأرستقراطي لماهية الجمهورية أو شكلها المفترض. أصبح القيصر الصغير، تمامًا مثل والده، بطل الشعب الروماني. من هذا المنطلق صارع زميله السابق في الحكومة الثلاثية، ماركوس أنطونيوس، الذي تحالف مع كليوباترا ملكة مصر. أدت هزيمتهما وانتحارهما في ٣٠ق.م إلى جعل أغسطس سيد العالم الروماني بلا منازع.

عقب عمليات القضاء على الأعداء الضرورية، كُتب على أحد العملات المسكوكة أن أوكتافيوس في عام ٢٨ق.م «استعاد القوانين والعدالة من أجل الشعب الروماني»، واستُؤنف العمل السليم بالدستور في الجمهورية. حددت أصوات الشعب المنتخبين للمناصب القضائية والتشريعات الموافق عليها، فإذا كان القضاة المنتخبون والقوانين الموافق عليها تتوافق مع رغبة القيصر، فإن الشعب الروماني يقرها. لقد كان قائدهم، حيث فرض سيطرته على الأرستقراطيين، وكان ابن ديفوس يوليوس، ومن عام ٢٧ق.م أصبح القيصر أغسطس، وهو اللقب الإضافي التبجيلي الذي يشير إلى السلطة التي تباركها الآلهة، ومن عام ٢٣ق.م أصبح يتمتع بجميع سلطات ممثل العوام، وهو ما يرمز إلى دوره بوصفه حامي الشعب.

كان منصب أغسطس منصبًا فريدًا، وأصبحت سلطته ليس ثمة ما يضاهيها، لكنه لم يكن «إمبراطورًا»؛ فقد كان معنى لقبه «القائد المنتصر»، وكانت الجيوش التي يقودها من اختيار تصويت الشعب الروماني، ولا تستمر مدى الحياة، بل تتغير عقب فترات محددة. يستطيع الشعب الروماني التوقف عن دعمه في أي وقت، لكن إذا فعلوا فإن هذا سيعيد حكم الأقلية، ويعود بهم إلى الحرب الأهلية.

لم ينجب أغسطس وزوجته ليفيا أي أطفال، لكن كانت لديه ابنة تدعى جوليا، وكان لدى ليفيا ولدان من زيجاتها السابقة. تزوجت جوليا — التي كانت تقول: «أنا لا أنسى أبدًا أني ابنة القيصر!» — من مركوس أجريبا، أقدم صديق لأغسطس وحليفه الموثوق، وأنجبت له ولدين تبنَّاهما أغسطس فيما بعدُ وأصبحا جايوس قيصر ولوسيوس قيصر. كان ولدَا زوجته ليفيا — تيبيريوس ودروسوس — أكبر منهما بعشرين عامًا، وسرعان ما قادا الجيوش التي حققت النصر في ألمانيا والبلقان، إلا أن دروسوس وافته المنية في سن صغيرة في عام ٩ق.م.

كان والد تيبيريوس عضو مجلس شيوخ أرستقراطي عمل تحت قيادة يوليوس قيصر، لكنه فيما بعدُ صوَّت لصالح اقتراح للحزب الأرستقراطي بأن يحصل قَتَلة يوليوس قيصر على مكافأة عن هذا العمل. ربما كان الشعب الروماني يتذكر له هذا، فالأكيد أنهم لم يحبوا تيبيريوس. لقد اتَّسم بالغطرسة وقلة الكلام والتفاني العابس، فكان بذلك مثالًا على الأرستقراطي الروماني التقليدي.

حل السلام والرخاء مرة أخرى في الجمهورية عقب انتهاء الحروب الأهلية، واعتمد الاستقرار فيها على التأثير غير الرسمي لرجل واحد. كيف يمكن التعبير عن هذا من الناحية الدستورية؟ لقد افترض الإغريق ببساطة أن روما كانت مملكة وخاطبوا أغسطس «بصاحب الجلالة». كان من المستحيل أن يتقبل الشعب الروماني هذا؛ فقد أُجبر آخر ملك لهم منذ ٥٠٠ عام على الرحيل وأُقرت الجمهورية بانتفاء السلطة الملكية؛ لذلك أطلقوا عليه لقب «القيصر»، وهو اسم عائلته بالطبع، لكنَّ له صدًى فريدًا. في حالة والده، عبَّر عن هذا التفرُّد وضعُه غيرُ المسبوق كإله، ومعبده الذي يطل بازدراء على باقي مباني المنتدى الروماني. لقد علم الجميع أنه عندما يحين الوقت سيتخذ أغسطس أيضًا مكانة الإله عقب وفاته. لكن حتى يحين هذا الوقت فهو مجرد «مواطن قائد».

في عام ٢ق.م، عقب مرور ٤٠ عامًا على معركة فيليبي، أراد عامة الشعب الروماني تكريم حاميهم، الذي بلغ من العمر آنذاك ٦١ عامًا، في احتفال خاص. رفض أغسطس هذا؛ لأن مثل هذا العرض لا بد أن يأتي من جميع المواطنين، بما في ذلك مجلس الشيوخ. وقد حدث هذا. سجَّل هذا الحدث في قائمة إنجازاته على أنه قمة ما أنجزه، فقال:

عندما كنت قنصلًا للمرة الثالثة عشرة، مدحني مجلس الشيوخ والفرسان وكافة الشعب الروماني بأني والد دولتنا.

كان المتحدث الرسمي في مجلس الشيوخ أحد كبار القناصل السابقين الذي حارب إلى جانب مغتالي القيصر في معركة فيليبي. نقل سويتونيوس، الذي لديه معرفة وثيقة بالوثائق، حديثه عن «اتفاق مجلس الشيوخ مع الشعب الروماني»، وأورد كلمات أغسطس نفسه:

لقد حققت الآن كل ما صليت من أجله، وليس لدي الآن ما أطلبه من الآلهة الخالدين إلا أن يسمحوا لي بأن أحتفظ بهذا الاتفاق بينكم حتى نهاية حياتي.

إذا كان الجدل الأيديولوجي الطويل غير المثمر بين الأغلبية والأقلية قد انتهى فعليًّا، فإن هذا يرجع إلى وجود أغسطس المستمر ومكانته المتميزة. لقد كان من هذه الناحية بالفعل أبَ هذه الدولة، لكن ماذا سيحدث عندما يموت؟

في عام ٢ق.م، كان جايوس قيصرًا في الثامنة عشرة من عمره، وأخوه لوسيوس في الخامسة عشرة. استشهد مؤلف لاحق بخطاب أرسله أغسطس في عام ١ ميلاديًّا إلى جايوس. أظهر هذا الخطاب أن أغسطس يتوقع من الاثنين إدراك مسئولياتهما وتولِّي جايوس «منصبه» في الجمهورية في الوقت المناسب. إنها ليست مهمة سهلة، خاصة على شابين يحظيان بتملق شعبي، لكن في النهاية لم يوضع أي منهما في اختبار حقيقي؛ إذ توفي لوسيوس في عام ٢ ميلاديًّا، وجايوس في ٤ ميلاديًّا. دمر هذا أغسطس تمامًا، فلم يكن لديه بديل؛ لذا تبني تيبيريوس كولد له ووريثه.

كره الناس تيبيريوس حتى يوم وفاته، ليس من أجل ما فعله — على العكس؛ فقد أفنى نفسه في قيادة جيوشهم وحماية إمبراطوريتهم — لكن لما كان عليه؛ فقد كان غير اجتماعي وغير جذاب ولا يتمتع بشخصية أخاذة. أصبح الآن الأرستقراطي تيبيريوس كلوديوس منوطًا بحمل اللقب السحري «القيصر». فما رأي ديفوس يوليوس فيما جرت به المقادير؟ وقعت في السنة التالية زلازل وأغرق نهر التيبر المدينة، وعندما لم يلب المحصود من الذرة الاحتياجات أيضًا، حدثت مجاعة دامت عدة سنوات.

يُقال إن أغسطس فكر في الانتحار، لكنه كان يعلم أن تيبيريوس، الذي يتصف بالوفاء والكفاءة والطاعة، هو خياره الوحيد، هذا إن لم تشعل وفاته صراعًا على السلطة يعيد كابوس الحرب الأهلية.

لذا كان ثمة كثير من الأمور بين هذين الرجلين ليتحدثا فيها ذاك اليوم في مدينة نولا في شهر أغسطس عام ١٤ ميلاديًّا، وليفكر فيها تيبيريوس خلال سيره الطويل عائدًا إلى روما خلف النعش. لم تكن هناك مشكلة دستورية؛ ففي العام الماضي حصل تيبيريوس بالاقتراع على السلطات التنفيذية نفسها التي تمتع بها أغسطس للفترة المحددة نفسها؛ لذا كانت لديه سلطة الحفاظ على الأمن القومي على المدى القصير. لكن هل سيتمكن من أداء دور أغسطس بالمعنى الأوسع؛ بقيادة الجمهورية عن طريق الإعلان عن وجهات نظره، وحماية الشعب من التصرفات غير المقيدة للمعارضة الأرستقراطية؟ هذا ما أراد الجميع معرفته.

عرفوا هذا في ١٧ سبتمبر في الاجتماع الأول لمجلس الشيوخ عقب جنازة أغسطس وتأليهه رسميًّا (انضم ديفوس أغسطس إلى ديفوس يوليوس وأصبح إلهًا أيضًا)، وعقب انتهاء أيام الحداد الضرورية. أوضح تيبيريوس أنه لا يعتزم مضاهاة أسلوب أغسطس في الحكم؛ فقد أراد من مجلس الشيوخ والقضاة أن يضطلعا بمسئولياتهما في الحكم. انتاب أعضاء مجلس الشيوخ الرعب الشديد؛ فقد اعتادوا أن يضع المواطن القائد السياسة بالتعاون مع مستشاريه، كما أنهم توقعوا أن يخلف تيبيريوس أغسطس بوصفه حاكمًا غير رسمي للدولة. إلا أنه كان عضوًا قديم الطراز في الحزب الأرستقراطي يسلم بحقيقة أن الجمهورية بإمكانها حكم نفسها.

عقب جدل شديد وغير منظم وانفعالي، وافق في النهاية على قبول مسئولية غير محددة «حتى يأتي الوقت الذي تفكرون فيه في أن تجعلوني أرتاح في سني الكبير هذه.» عقب ١٢ عامًا، قرر تيبيريوس في سن ٦٧ أن هذا الوقت قد حان وتقاعد في كابري.

لم تستطع الجمهورية حكم نفسها. كان تيبيريوس لا يزال القائد المنتصر؛ فهو القائد العام العسكري (على أساس الفترة المحددة نفسها القابلة للتجديد) والمسئول الأساسي في روما. أما نائبه الذي ناب عنه في كل شيء ما عدا اللقب فلم يكن جمهوريًّا على الإطلاق. لقد كان سيجانوس قائد الحرس الإمبراطوري الروماني، الذين أسكنهم تيبيريوس ثكنات معدة خصوصًا خارج جدران المدينة القديمة. تمثلت وظيفة هذا الحرس في حماية الشعب الروماني، فقد أقسموا على الولاء للقيصر. ومعنى هذا القسم قيامهم بهذه الوظيفة، لكنهم فعليًّا كانوا حامية روما. وفي عام ٢٩ ميلاديًّا، استخدم سيجانوس هذا الحرس، لصالح سيده، في تدمير رموزٍ محبوبة لدى الناس: حفيدة أغسطس أجريبينا الكبرى، واثنين من أبنائها الثلاثة؛ هما: نيرون ودروسوس.

تاق الناس بشدة إلى موت تيبيريوس، وعندما حدث هذا في النهاية — عن عمر يُناهز ٧٧ — في عام ٣٧ ميلاديًّا، وأُحضر نعشه عبر طريق أبيا إلى روما مثلما حدث مع أغسطس منذ ٢٣ عامًا، لم يستقبله الشعب بالحزن بل بالفرح، فصاحوا: «إلى التيبر يا تيبيريوس.» وهكذا تحققت نبوءة أغسطس وهو على فراش الموت.

لم يكن لقب القيصر في هذا الوقت يعني أن يصبح المرء إمبراطورًا، فلم يكن هناك قصر ولا ملابس ملكية ولا بروتوكول محكم. بدأت الأحوال تتغير مع خليفة تيبيريوس، ابن أجريبينا المتبقي على قيد الحياة، جايوس قيصر، الملقب ﺑ «كاليجولا». لقد كان جايوس مسرفًا وساديًّا وغير متحمل للمسئولية، وكان يتباهى بسلطته كأنه طاغية، وتوقع أن يعبده الناس كإله في حياته. في عام ٤١ ميلاديًّا، عقب بقائه في الحكم أربع سنوات، قُتل على يد مجموعة من ضباط الحرس الإمبراطوري الذين ضاقوا ذرعًا بتصرفاته. انتهز مجلس الشيوخ الفرصة لإعلان أن «استبداد حكم القياصرة» قد انتهى، وأن معابد ديفوس يوليوس وديفوس أغسطس ستُهدم.

لم تدم الفكرة سوى نحو ٢٤ ساعة؛ فقد عثر جنود الحرس الإمبراطوري، الذين كانوا أقل مثالية من ضباطهم، على «قيصر» ليقسموا أمامه بالولاء، وهو عم كاليجولا كلوديوس. لقد تصادف أن وصلتنا رواية موثوق بها من شاهد عيان (أوردها المؤرخ اليهودي يوسيفوس كمثال على العناية الإلهية؛ لأن كاليجولا لو عاش لحوَّل المعبد بالقدس إلى مركز لعبادته)، ويخبرنا هذا المصدر بأن الشعب الروماني قد صُدم بمقتل كاليجولا ولم يؤيد على الإطلاق طموح مجلس الشيوخ لإعادة عقارب الساعة إلى الخلف:

لقد استاء الناس من مجلس الشيوخ. لقد كانوا يعتبرون أن القادة المنتصرين يحدُّون من جشع أعضائه ويحمون الشعب منهم. لقد سعدوا بتولي كلوديوس الحكم ظانِّينَ أنه إذا تولى السلطة فإنه سينقذهم من الصراع البغيض الذي حدث في عهد بومبيوس.

كان بومبيوس «بومبيوس الأكبر» قد تولى قيادة قوات الحزب الأرستقراطي ضد يوليوس قيصر في أثناء الحرب الأهلية ٤٩-٤٨ق.م، وبعد مرور ٩٠ عامًا كان الشعب الروماني لا يزال مدركًا للمخاطر الممكنة.

لقد روض يوليوس قيصر وولده أغسطس أعضاء حكومة الأقلية. أما الآن فقد أصبح السبيل الوحيد لحماية نصر الحزب الشعبي هو جعل منصب «القيصر» منصبًا رسميًّا في ظل ملكية وراثية معترف بها. أصبح كلوديوس، الذي لم يكن قيصرًا بالميلاد ولا بالتبني، أول من يحمل هذا الاسم بوصفه لقبًا يحمله القائد المنتصر، وهو القائد العام للفيالق، ومن ثم لكل شيء آخر. لقد أشار هذا إلى نهاية أيديولوجية. لم يكن هناك مفر من «الصراع البغيض»، لكنه أصبح هذه المرة صراعًا على السلطة؛ تدبير مكائد قاتلة أو نشوب صراع مسلح بين خصوم يتنافسون على منصب الإمبراطور؛ وهكذا ساد حكم الأغلبية على حكم الأقلية، لكن بثمن فادح!

02 Dec, 2015 03:24:11 PM
0

لمشاركة الخبر