ما الحد الأدنى من الأغراض التي نحتاجها في مجتمع استهلاكي حديث؟
آلافُ الأشخاص في الولايات المتحدة ينشرون صورًا على موقع التواصل الاجتماعي إنستجرام، مستخدمين الهاشتاج #edc(وهو اختصارٌ يعني «الأغراض التي نحملها يوميًّا»). وتُظهِر هذه الصور الأدوات والأسلحة والأغراض التي يصطحبونها معهم يوميًّا. وينشر الرجال صورَ محتويات جيوبهم عبر الهاشتاج #pocketdump — الذي يعني أمتعة الجيب — (وبلغ عدد صور هذا الهاشتاج في الوقت الحالي ١٧٩٠٠ صورة)، في حين أن النساء يفضِّلْنَ على الأرجح استخدامَ الهاشتاج#whatsinmybag — أي أغراض حقيبتي — (وبلغ عدد صوره ٢٥٤٥٠).
يحمل معظمنا أغراضه الضرورية بحق في حقائبه أو جيوبه.
إن الأغراض الأساسية متشابِهة بوضوح عند كلتا المجموعتَيْن؛ فالممتلكات التي نجعلها الأقرب إلينا يوميًّا لها فائدةٌ خاصة وواقعية وخصوصية وأهمية رمزية. وبما أننا جنس بشري صانع للأدوات، فإن ما نحمله معنا يمثِّلنا، وما نحمله معنا قد يرشدنا إلى ما نحتاجه فعليًّا، بعيدًا عن فوضى الاستهلاك المفرط.
وبالنسبة لأخصائي علم نفس تطوُّري مثلي، فمن الطبيعي التساؤل حول إن كان بإمكاننا الربط بين الأغراض التي نستخدمها يوميًّا وتلك التي استخدمها أسلافنا الأوائل، مِمَّنْ كان بقاؤهم على قيد الحياة ذاته هو الذي يحدِّد معظم ممتلكاتهم.
من المؤسف أننا ليس لدينا أي صور لما قبل التاريخ تحمل هاشتاج #pocketdump أو #whatsinmybag، ولكننا لدينا بعض الأدلة المفيدة من أوتزي الذي عاش منذ قرابة ٥٣٠٠ سنة وعُثِر على جثته المحفوظة في الجليد في جبال الألب الإيطالية عام ١٩٩١، ومنذ ذلك الحين عرفنا الكثير عنه؛ بدءًا من جينومه والبروتينات المنتَجة في مخِّه، وصولًا إلى تركيب ميكروبات أمعائه وجُرحه الناتج عن الإصابة بسهم مميت. كما أن ممتلكات أوتزي كانت محفوظةً بعنايةٍ في الجليد، وتمثَّلَتْ في مجموعة متنوعة من الثياب والأدوات والأسلحة ومعدات إشعال النيران والإمدادات والملابس الواقية من البرد التي تلائم أدواره المختلفة كجندي وصيَّاد ومخيِّم ومستكشِفٍ رحَّال.
رغم أن معظم ملابس أوتزي تبدو بدائيةً لأي شخص في العصر الحديث — فهو نفسه لم يكن من أسلافنا الأوائل — فإنه، من الناحية التشريحية، كان يمتلك مخَّ إنسانٍ حديثٍ داخل جسد إنسانٍ من العصر الحديث. وفيما يتعلَّق بالمقياس الزمني، نجد أن الفترة التي تفصل بيننا وبين سقراط ليست أطول من تلك التي تفصل بين سقراط وأوتزي؛ ومن ثَمَّ من المفترض أن نجد أوجه شبه بين ما كان أوتزي يحمله وما نحمله نحن من أغراض أساسية.
أغراضنا
العديد من أوجه الشبه واضحٌ؛ فالصُّوفان وحجر الصوَّان اللذان استخدمهما أوتزي في إشعال النيران يتشابهان مع القدَّاحة. وقِطَع الفطور السنادية التي تنمو على أشجار التامول كانت لها خصائص المضادات الحيوية والطفيلية — إلى جانب قدرتها على وقف النزيف — شأنها شأن العقاقير الحديثة مثل أموكسيسيلين والأقراص الطاردة للديدان والضمادات اللاصقة.
وبالمثل أيضًا، فإن ملابس أوتزي وأمتعته تبدو لنا من ضروريات الحياة اليومية؛ فسروال أوتزي البالي، الذي اتخذه من جلد الماعز وبدا عليه كثرة الإصلاح، مماثِلٌ للبنطلون الجينز الذي نفضِّله، وحذاؤه المصنوع من جلد الأيل — ذو النعل المصنوع من جلد الدببة — يُشبِه الأحذية العالية الرقبة المناسبة للأرض الوعرة. هذا إضافة إلى أن حقيبة الظهر الجلدية التي كان يرتديها أوتزي تُشبِه الحقيبة المُستخدَمة في الوقت الحالي لحمل أغراضنا الضرورية أينما كنَّا.
لكن الأسلحة التي استخدمها أوتزي هي حقًّا التي تتعلَّق بجوهر البحث عن ممتلكاتنا الضرورية؛ أَلَا وهو القدرة على الحصول على الطعام. كان قوسه الطويل أحدَ ممتلكاته المهمة، ولو ظلَّ أوتزي على قيد الحياة لفترةٍ طويلةٍ تتيح له الانتهاء من صناعة هذا القوس، لَأصبح هذا القوس سلاحًا مهولًا قادرًا على اصطياد الحيوانات من على مسافةٍ تصل إلى ٤٠ مترًا. وعلى المنوال ذاته، كانت فأس أوتزي — المزوَّدة بشفرة من النحاس الصافي نوعًا ما — أغلى ممتلكاته وأعلاها قيمةً؛ فكان بإمكانه قَطْع الأشجار وفَلْق الحطب والدفاع بها عن نفسه في مواجهة البشر والحيوانات المفترسة. وبالمثل، فالأمان والشعور بالدفء من ضرورياتنا الأساسية أيضًا.
مما لا شك فيه أننا، في معظم أنحاء العالم، لم نَعُدْ بحاجة إلى فأس أو قوس طويل من أجل الحصول على الطعام وتحقيق الأمان، وهنا نصل إلى جوهر الأشياء التي نحتاجها في الوقت الحالي حقًّا؛ فنظرًا لوجود المتاجر الكبرى والمستشفيات وأقسام الشرطة والجيوش في العصر الحديث، نجد أن النظائر الحقيقية لهذه الأسلحة هي بطاقة السحب وبطاقة التأمين الصحي ورخصة القيادة وجواز السفر. وباعتبارها أشياءَ ملموسة، فهي مجرد قطع من الورق والبلاستيك لا يمكنها إيذاء ذبابة، لكن باعتبارها وسائل تكنولوجية لتحديد الهوية، فإنها ترتبط بجميع المخاطر والوعود التي تقدِّمها نُظُم واسعة خاصة بالتمويل والطب والأمن والحكومة. وبذلك، فإن البطاقات الموجودة في محفظة إحدى الشخصيات المرموقة التي تعيش في نيويورك، أو حقيبة نقودها، هي التي تخوِّل لها المطالبة — على نحوٍ محدودٍ وإن كان فعَّالًا — بالموارد التي يقدِّمها كلٌّ من مصرف سيتي بنك، ومركز جبل سيناء الطبي، وقسم شرطة نيويورك، والبحرية الأمريكية.
هناك جانب آخَر في حياة أوتزي تتضح فيه احتياجاتنا الحالية، على الرغم من أنه لا يُعَدُّ من الممتلكات المحمولة. فمنذ آلاف السنين، عاش أقران أوتزي في مستوطنات دائمة، عادةً أعلى قمم التلال؛ سعيًا للحماية من المغيرين، ولو كان أوتزي من الشخصيات المرموقة في عصره، لعاش في منزل كالمنازل الحديثة الفخمة، في مجمَّع سكني له بوابات وحراسة مشدَّدة. وفي عصرنا هذا، معظم ما يحتوي عليه الهاشتاج #pocketdump أو#whatsinmypurse من صورٍ تُنشَر لمفاتيح منازل؛ فهذه الملكية المحمولة المنتشرة بين الجميع هي مفتاح الدفء والمأوى والأمان، وسبيل الوصول إلى بقية أغراضنا.
على الرغم من أن معظم ممتلكات أوتزي تبدو عملية تمامًا، فقد كان من الواضح أن بعضها اتَّسَمَ بشيءٍ من الحيوية والإثارة. أحد الأمثلة على ذلك سُترتُهُ المخطَّطة؛ إذ صُنِعت من شرائط من جلد الماعز، أحدها غامق والآخَر فاتح، فكان نمطها لافتًا للنظر آنذاك. وفي الوقت الحاضر، قد يرتدي المدنيُّون المطَّلِعون على أحدث خطوط الموضة سترةً ضيِّقةً عند الخصر من جلدٍ يبدو باليًا تعلوه أجزاءٌ فاتحة وغامقة؛ إنها سترة عملية بلا شك، ولكنها أنيقة وعصرية ولافتة للانتباه. بالإضافة إلى ذلك، كانت لفأس أوتزي قيمةٌ عاليةٌ على نحوٍ شبه مؤكَّد؛ فمن بين أبناء عشيرته المدفونين بطريقة تقليدية، وُجِد أن نسبةً منهم — تقلُّ عن واحد من بين كل خمسة أشخاص — قد دُفِنت معهم فئوسٌ مُشابِهة؛ وبذلك ندرك أنه لا مفر من أن تقع الأغراض — حتى الأساسية — في المنطقة الرمادية التي تختلط فيها الاحتياجات مع الرغبات. إن الأغراض التي نحملها معنا، شأنها شأن فأس أوتزي بالضبط، تتخطى طابعها العملي لتصبح رمزيةً إلى حدٍّ بعيدٍ؛ تمامًا مثل الآي فون ٥ إس، ومفاتيح السيارة البي إم دبليو، والواقيات الذكرية الكبيرة، وأحمر الشفاه ماركة كلينيك.
العالم بين أيدينا
وأخيرًا، إن أحد أغراضنا الضرورية الأكثر تطوُّرًا، وهو الهاتف الذكي، ليس له نظيرٌ فعليٌّ في أدوات أوتزي. يُمكِّنُنا هذا الجهاز من الوصول إلى أي علوم إنسانية، وشراء أي سلع أو خدمات، وطلبِ أي شكل من أشكال المساعدة. بالإضافة إلى ذلك، يمكننا التحدُّث مع أي شخص ممَّن يملكون هواتف — وعددهم ٥ مليارات — وتحديد مكاننا من خلال نظام تحديد المواقع العالمي، وطلب الطعام من موقع «يلب»، وتأجير سكن من موقع «إيربنب»، وإيجاد شريك الحياة من موقع ماتش دوت كوم. إذا كانت الفأس النحاسية التي كان أوتزي يحملها هي الرمز الأكثر تمييزًا لمكانته بين عشيرته، فإن الهاتف الذكي هو رمزنا الأكثر تمييزًا لمكانتنا الاجتماعية.
من الواضح أن أدواتنا التكنولوجية أفضلُ وأخفُّ وزنًا وأكثرُ متانةً — على المستوى المادي — من الأدوات التي كان أوتزي يستخدمها؛ فالأحذية العالية الرقبة التي نرتديها في عصرنا الحديث تتفوق على حذاء أوتزي غير محكم النعل، والأموكسيسيلين يقضي على البكتيريا على نحوٍ أفضل من فطر التامول.
مع ذلك، فإن القوة الحقيقية لأغراضنا الأساسية التي يسهل الحصول عليها تنبع من النظم الإيكولوجية الفيزيائية والاجتماعية والمعلوماتية التي تتيح لنا الأغراضُ الوصولَ إليها؛ فمفاتيح السيارة والمنزل، وبطاقات السحب، وجوازات السفر، والهواتف الذكية، ليست مجرد أجهزة، بل هي أدوات إدخال وإخراج تسمح لعقولنا وأجسادنا بالاتصال بالحضارة الحديثة؛ إذ يتيح مفتاحُ سيارةٍ واحدٌ استخدامَ محرِّكٍ بقوة ٣٠٠ حصان، وتسمح بطاقةُ أويستر واحدةٌ بالتنقُّل لمسافة ٤٠٠كم كاملةً عبر مترو أنفاق لندن، ويتيح هاتف آي فون واحدٌ خدماتٍ تُقدَّر بتريليونات الدولارات؛ من إجراء اتصالات، والدخول على الإنترنت، والوصول إلى البنية التحتية للأقمار الصناعية الخاصة بنظام تحديد المواقع العالمي.
يمكننا من خلال هذه الأغراض الأساسية الوصول إلى شبكات واسعة من التعاون البشري والمساءلة المتبادلة والمكانة الاجتماعية الرمزية، بمقاييس لا يمكن لأوتزي وأقرانه تخيُّلها.
من ثَمَّ، فإن ما نحتاجه هو تقريبًا ما نحمله. عندما تغادر منزلك المرة القادمة — مُصطحِبًا حقيبتك ومفاتيحك وهاتفك ومحفظتك — فكِّر فيما تحمله معك؛ إنه قوةُ جنسٍ بأكمله ومعارفه ومكمن اعتزازه، مُجمَّعة في عددٍ قليلٍ من الأشياء.