Skip to main content

مولد الأفكار الغريبة: كيف تشكل مخاوف المجتمع اضطراب الوسواس القهري

يُبتلَى معظم الناس بأفكار دخيلة، بدءًا من أفكار القتل إلى المخاوف غير العقلانية، لكن عندما استمرَّ خوف ديفيد آدم من الإصابة بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية، أُصِيب بالوسواس القهري.

 كان ونستون تشرشل يواجه دافعًا مُلِحًّا للقفز من الشرفات وأمام القطارات القادمة نحوه، أما عالِم الرياضات كورت جودل — الذي عاش في القرن العشرين — فكان التسمُّم الغذائي غير المتعمَّد هو أشد مخاوفه؛ سواء أكان الطعام من ثلاجته أو من أي مكان آخَر، ما أدَّى به في النهاية إلى تجويع نفسه حتى الموت. كذلك كان ألفريد نوبل يرتعب بشدة من احتمال دفنه حيًّا، حتى إن آخِر كلمات وصيته كانت: «أُعلن بوضوحٍ عن رغبتي في أن تُشَقَّ شراييني بعد موتي، وعندئذٍ — وقتما يؤكِّد أطباء أكفاء وجودَ علامات الموت الواضحة — أوصي بحرق جثتي.»

لا يتحدث معظم الناس عن الأفكار الغريبة الشبيهة بتلك الأفكار، على الأقل حتى يطلب الأطباء النفسيون ذلك منهم؛ ففي العام الماضي، كشفَتْ دراسةٌ أُجرِيت على ما يزيد على ٧٠٠ طالبٍ من شتى أنحاء العالم أن ٩٠٪ من الناس تخطر لهم أفكارٌ تزعجهم، وتصدمهم، وتربكهم. فالكثير منَّا يفكِّر في الاندفاع بالسيارة خارج حدود الطريق، بينما يدَّعِي ثلثنا أنهم يفكِّرون في سرقة الأموال، كذلك يشعر أكثر من ٤٠٪ بدافعٍ مُلِحٍّ للقفز من الأماكن العالية، وهو دافع شائع للغاية، حتى إنه يُعرَف باسمٍ خاصٍّ به؛ وهو ظاهرة الأماكن المرتفعة. ويطلِق علماء النفس على تلك الأفكار والدوافع الملحَّة اسم «الأفكار الدخيلة».

تختفي الأفكار الدخيلة لدى معظم الناس بنفس سرعة ظهورها، لكنها تظل باقيةً لدى البعض. إن فهم هذا الاختلاف ربما يغيِّر حياتنا؛ لأننا عندما نعجز عن طرد أفكارنا الغريبة، قد نصاب بالبؤس والمرض النفسي. وفي حالتي، تحوَّلَتْ أفكاري الغريبة إلى اضطراب الوسواس القهري.

يسمع معظم الناس عن اضطراب الوسواس القهري، ويميلون إلى اعتباره عادةً سلوكية غريبة، لكنه في الحقيقة مرض خطير يسبِّب العجز، ويتَّسم — إلى حدٍّ كبير — بالمعاناة النفسية من الأفكار الغريبة المتكرِّرة، وكذلك بالطقوس الجسدية مثل غسل اليدين المتكرِّر. وتمثِّل تلك السلوكيات القهرية لدى كثيرٍ من الناس محاولةً للتخلُّص من أفكارهم الدخيلة.

لكن من أين تأتي الأفكار الدخيلة؟ يعتقد علماء النفس أن الدماغ البشري يحوي شيئًا يُدعَى «مولِّدَ أفكارٍ إدراكيًّا»، قد يساعدنا في الأحوال العادية في حلِّ المشكلات عبر أخذ جميع الخيارات الممكنة بعين الاعتبار، حتى الخيارات السخيفة.

لا توجد أدلة مباشِرة تدعم هذه الفكرة؛ نظرًا لصعوبة اختبارها، إلا أن الدراسات الاستقصائية تشير بالفعل إلى ميل الأفكار الدخيلة للظهور فجأةً في بعض المواقف، عندما نعاني من التوتر مثلًا.

على صعيد آخَر، نشر علماء الأعصاب في ألمانيا عام ٢٠١٢ دراسةً لمسح دماغي تشير إلى تكوُّن الأفكار الدخيلة في المناطق المسئولة عن اللغة بالدماغ، ويقدِّرون أن تلك الأفكار الغريبة قد تزداد انتشارًا لدى مَن تُجرَى بداخلهم عمليات «حوار داخلي» فعَّالة، رغم أن الارتباط بين الفكر واللغة يمثِّل قضيةً فسلفيةً قدر ما هي علمية. ويدفع البعض بأن الأفكار تتطلَّب لغةً، بينما يقترح آخَرون أن اللغة مجرد سبيل تسلكه الأفكار لدخول العقل والخروج منه.

لكن ما نعرفه حقًّا هو أن الأفكار الدخيلة قد تَرِدُ بذهننا دون أن نشعر برغبةٍ في الاستجابة لها. فوجود فكرة مزعجة حول ممارسة الجنس مع طفل لا تجعل من أحدهم مريضًا بالاشتهاء الجنسي للأطفال، كما أن دافعًا ملحًّا وغيرَ مرغوب فيه لضرب شخص ما بمطرقةٍ لا يجعل من أحدهم بلطجيًّا أو قاتلًا.

يعتمد اضطراب الوسواس القهري الذي أعاني منه على أفكارٍ دخيلة حول احتمال إصابتي بفيروس نقص المناعة البشرية؛ فأُجري تحاليل الدم استجابةً لدافع قهري كي أتأكَّد من عدم إصابتي بالفيروس، وأضبط سلوكي لضمان عدم تعرُّضي له في المستقبل. اعتدتُ رؤية الفيروس في كل مكان؛ متربِّصًا فوق فرش الإنسان، والمناشف، والصنابير، والهواتف؛ ولذا أمسح الأكواب والزجاجات، وأكره مشاركة المشروبات مع أحد، وأغطي كلَّ خدش وسحج بلاصقاتٍ طبية متعدِّدة، كما تستوجب دوافعي القهرية، في حال إصابتي بخدشٍ من مسمارٍ صَدِئ أو قطعة زجاج، تغليفَ أيٍّ من هذين في ورق ماصٍّ، وإجراء الفحص بحثًا عن قطرات دم ملوثة ربما تكون قد لطختهما من قبلُ. وكذلك أفحص مقاعد القطار خشيةَ وجودِ إبر حَقْن عليها، ومقاعد المراحيض خوفًا من جميع أنواع الملوِّثات.

وبصفتي صحفيًّا، فإنني أقابل العديد من الناس وأصافحهم، فإذا كان إصبعي مجروحًا أو لاحظت أن شخصًا أتحدَّث إليه يضع ضمادة أو لاصقًا طبيًّا فوق جرح، تطرد أفكاري حيال المصافحة وكيفية تجنُّبها أية أفكار أخرى. وبرغم أن جانبي العقلاني يدرك أنه لا يمكنني التقاط عدوى الفيروس في تلك المواقف، فإن الأفكار ومشاعر القلق تغمرني.

إنني لا أخشى فيروس نقص المناعة البشرية كما يُعرَف الآن: فيروس هشٌّ يؤدِّي إلى عدوى يمكن السيطرة عليها ببعض العقاقير، وإنما أخشى مرضًا ظهر أواخر ثمانينيات القرن العشرين وشكَّل تهديدًا خطيرًا، حتى إن حكومة المملكة المتحدة تحرَّكت لمواجهته عبر بثِّ إعلانات تليفزيونية تصل لمنازلنا، وتعرض شواهد قبور مُقبِضة للصدر تحمل شعار «الإيدز: لا تَمُتْ بسبب الجهل.»

لم تقتصر هذه الظاهرة عليَّ فحسب، بل إن جيلًا بأكمله أُصِيب بصدمة؛ إذ كتبتْ عالمة النفس الأمريكية جوديث رابوبورت في كتابها «الفتى الذي لم يستطع التوقُّف عن الاغتسال» أنه مع حلول عام ١٩٨٩ كان ثلت مرضى الوسواس القهري لديها يركِّزون على فيروس نقص المناعة البشرية ومرض الإيدز، وكان المرض يبدو على حدِّ قولها «في غاية الرعب واللامعقولية، وكأنه وليدُ أسوأِ خيالات مرضى الوسواس القهري.»

خوف لا عقلاني

يعرض ردُّ الفعل هذا لخطر فيروس نقص المناعة البشرية مثالًا على كيفية انعكاس مخاوف وتوتُّرات المجتمع انعكاسًا دقيقًا على الوساوس؛ ففي عشرينيات القرن العشرين، أعلن أطباء في الولايات المتحدة عن وجود طفرة فيما أطلقوا عليه فوبيا الزهري، التي تزامَنَتْ مع حملةٍ لتسليط الضوء على مخاطر المرض. وشهدت حقبتا الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ارتفاعًا كبيرًا ومفاجئًا في المخاوف اللاعقلانية من مادة الأسبستوس، في الوقت الذي شهد بداية الانتباه لمخاطر تلك المادة بين العامة. ومع حلول الثمانينيات والتسعينيات، تصدَّرَ فيروس نقص المناعة البشرية المشهد.

لكن في هذا القرن الجديد، وجد المجتمع موضوعًا آخَر يصبُّ عليه هواجسه؛ ففي عام ٢٠١٢، أعلن علماء أستراليون عن أول حالات اضطراب الوسواس القهري لدى أناسٍ تستحوذ عليهم أفكارٌ تتعلَّق بالتغيُّر المناخي، الذي يُعَدُّ شبحَ الألفية الجديدة المخيف، ويطرح — مثله مثل فيروس نقص المناعة البشرية في الثمانينيات — تهديدًا كونيًّا غير مؤكَّد، تُصوِّره وسائل الإعلام الجماهيرية بتفاصيل صارخة.

وعلى هذا النحو، تستطيع العوامل الثقافية الخارجية توجيه الموضوعات التي سيركِّز مريض الوسواس القهري هواجسه عليها، وفقًا لمايروِن جونز، مديرة عيادة اضطرابات القلق التابعة لجامعة سيدني، والتي ترأَّسَتِ الدراسة الأسترالية. وتضيف جونز: «بما أن الخوف من التلوُّث والمرض من المشاعر المتكرِّرة لدى مرضى الوسواس القهري، فمن المنطقي أن تكون التغطية الإعلامية لوباء نقص المناعة البشرية قد تسبَّبَتْ في إثارة تلك المخاوف الجديدة لدى بعض الأشخاص، وعلى الأرجح تسبَّبَتْ أخبار التغيُّر المناخي في ظهور أنواع المخاوف التي عانى منها الأفراد في الدراسة التي أجريتها.»

بعض هؤلاء الأفراد يقلقون حيال تسبُّب درجات الحرارة المرتفعة في تبخُّر المياه التي يضعونها لحيواناتهم الأليفة؛ ومن ثَمَّ يفحصون أطباق المياه مرارًا وتكرارًا، بينما يشعر آخَرون بقوًى تدفعهم للتأكُّد من أن الصنابير وسخانات المياه والأفران مغلقةٌ، ليس خوفًا من عواقب تركها على أنفسهم، بل بسبب إدراكهم لتأثير إهمالهم على مصادر المياه وانبعاثات الغازات الدفيئة؛ ومن ثَمَّ مصير الكوكب. أحد المرضى كان مهووسًا بفكرة أن الاحترار العالمي سيتسبَّب في انهيار منزله؛ فكان يفحص حواف الجدران والمواسير والسطح بدافع قهري بحثًا عن شقوق، وكان يفتح أبواب بيته الخشبية ويغلقها باستمرارٍ للتأكُّد من أن التغيُّر المناخي لم يُصِب البيت بجحافل النمل الأبيض.

ومثلما تتبدَّل المخاوف الثقافية وتتغيَّر، تتبدَّل كذلك الأفكارُ الدخيلةُ لدى المصاب بالوسواس القهري وتتغيَّر. فَلْنتناول على سبيل المثال حالة ميفيس، وهي مريضة فحَصَها الأطباءُ النفسيون في لندن في سبعينيات القرن الماضي. عانت ميفيس من الوسواس القهري طيلة ٣٥ عامًا، وقضَتْ جلَّ حياتها — في مرحلة البلوغ تقريبًا — في أداء عددٍ من طقوس التنظيف لمواجهة مخاوفها من التلوُّث؛ ففي أربعينيات القرن العشرين، عانت ميفيس من هوس الإصابة بالزهري؛ ومن ثَمَّ كانت تدعك جسدها وتعقِّمه لتفادي المرض، وكانت كذلك تتجنَّب الذهاب إلى أحياء كاملة في المدينة التي عاشَتْ بها، كما كانت توجِّه عنايةً خاصة لتحاشي السير فوق الواقيات الذكرية المستعمَلة الملقاة في الشارع. وحين حلَّ السرطان محلَّ الزهري كأحد المخاوف المرتبطة بالصحة العامة في ستينيات القرن العشرين، أصبحت ميفيس منشغلةً بفكرة احتمالية إصابتها بأورام، وبدأت مخاوف الإصابة بالزهري تتلاشى، لكن طقوس التنظيف استمرت كما هي، وأصبح الاغتسال المتكرِّر يهدف الآن إلى تفادي السرطان، على حدِّ قولها.

كثيرٌ من مرضى جونز المهووسين بالتغيُّر المناخي كانوا يعانون الوسواس القهري منذ فترة طويلة، وهي تصف ذلك قائلة: «إن تلك المواضيع تمثِّل في أغلب الأحيان تغيُّرًا في مخاوفهم يرجع على الأرجح إلى التغطية الإعلامية.»

بالطبع ليس كلُّ مَن نشأ في ثمانينيات القرن العشرين ابتُلِي بأفكار دخيلة استحواذية عن فيروس نقص المناعة البشرية، لكن إذا كانت الأفكار الدخيلة ظاهرة شائعة، وإذا كان في وسعها التسبُّب في الإصابة باضطراب الوسواس القهري، فلماذا إذن لا ينتشر الاضطراب أكثر من ذلك؟ إن قريبًا من ٢ إلى ٣٪ من الناس تُقدَّر إصابتهم بالوسواس القهري في مرحلةٍ ما، وهي نسبة ضئيلة من أولئك الذين تنتابهم أفكارٌ غريبة.

يفسِّر ستانلي ركمان — الأستاذ بجامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر، كندا، والمتخصِّص في اضطراب الوسواس القهري — ذلك قائلًا: «المشكلة لا تكمن في الأفكار ذاتها، بل في طريقة تفسير الناس لها.» إذ يعتقد علماء النفس أن تحوُّلَ الأفكار الغريبة غير الضارة إلى وسواس قهري، ينتج عن أساليب تفكير تُعرَف باسم المعتقدات المختلَّة، التي تُكتسَب عادةً في مرحلة الطفولة. على سبيل المثال، العديد من الأفراد يبالغون في تقدير الآثار السلبية لأفعالهم؛ مما قد يؤدِّي إلى القلق.

معظمنا يعاني من المعتقدات المختلة إلى حدٍّ ما، رغم أن ذلك لا يضمن إصابةَ أحدٍ ممَّن يعاني منها بالوسواس القهري، بل يمكن أن تساعد أنواعُ المعتقدات المختلة المختلفة في تفسير نطاق أعراض الوسواس القهري. على سبيل المثال، قد تدعم صفةُ الكمالية حاجةً قهريةً لمراعاة التناسُق، بينما المبالغة في تقدير خطرٍ ما قد يشجِّع على التحقُّق اللاإرادي بحثًا عن وجود أتربة وأمراض.

وبناءً على النموذج الإدراكي المعترَف به حول كيفية الإصابة باضطراب الوسواس القهري، فإن أهم المعتقدات المختلة فيه هي الشعور المتضخم بالمسئولية؛ فغالبًا ما يؤمن المصابون بهذا الاضطراب أنه إذا كان في وسعهم التأثير على نتيجةٍ ما، فإن ذلك يجعلهم مسئولين عنها. على سبيل المثال، قد يجمع أحدهم قطع الزجاج المكسورة؛ لأنه إذا جُرِح شخصٌ آخَر بسببها، فسوف يشعر هو بالمسئولية عن ذلك. ويثير ذلك مجموعةً متسلسلة من الأفكار الثانوية الملتوية، مثل «إن ورودَ هذه الفكرة على ذهني يعني أني أرغب في تنفيذها»، أو «إذا فشلتُ في منع الأذى، فذلك إذن لا يقلُّ سوءًا عن إحداث الأذى المباشِر.»

أحد ردود أفعالنا حيال الأفكار الدخيلة المتكرِّرة هو محاولة التخلُّص منها بالقوة، لكن عددًا لا يُحصَى من الدارسات أثبَتَ صعوبةَ كبح الأفكار غير المرغوب فيها — إن لم تكن استحالته — وأن هذه الأفكار غالبًا ما تعاود الظهور فيما بعدُ، بل إن كبحَ فكرةٍ ما قبل النوم قد يجعلها تظهر مجددًا في أحد الأحلام.

وفي مواجهة انقضاض الأفكار غير المرغوب فيها، يغيِّر معظمُ المصابين بالوسواس القهري من سلوكهم، ويطوِّرون دوافع قهرية أو سلوكيات متكررة.

يستخدم المصابون بالوسواس القهري دوافعهم القهرية بطريقتَيْن: إحداهما الإجابة عن سؤالٍ ما؛ ومن ثَمَّ إذا كان يطاردك هاجسُ تَرْك الباب الخلفي غير موصَّد، فإن تحقُّقًا قهريًّا — لكن مطمئنًا — من هذا الأمر سينهي المسألة. والطريقة الأخرى تتضح حين يستخدمها آخَرون لمنع الأفكار من الظهور مقدمًا، كما في حالة فتاة تبلغ من العمر ١٤ عامًا وتعاني من أفكار استحواذية حول دخول الديدان إلى جسدها؛ إذ تحاشَتِ الخطر عبر تجنُّب فتح فمها للتحدُّث طوال ١٠ أشهر.

في بعض الأحيان، لا توجد علاقة ظاهرة بين طبيعة الدوافع القهرية وموضوع الوساوس؛ فقد يشعر مرضى الوسواس القهري بالاضطرار إلى الطَّرْق على أسطح الأشياء أو العدِّ أو التمتمة بكلمات غامضة لأنفسهم، بهدف إبطال العواقب المتخيَّلَة المترتِّبة على فكرةٍ دخيلةٍ ما؛ مثل أن صديقهم الأقرب سيموت.

ويعتقد ركمان أن الأفكار الدخيلة قد تلعب دورًا في أمراض نفسية أخرى كذلك؛ فَلْتنظر على سبيل المثال إلى فكرة دخيلة حول طعن سيدة عجوز في الشارع، إذا أقَرَّ أحدهم بمسئوليته عن هذه الفكرة فقد يصاب بالوسواس القهري، لكن إذا ألصقها بشخص آخر أو بالشيطان أو بالمخابرات المركزية الأمريكية، فقد تتحوَّل الفكرة إلى فصام. ويعلِّق ركمان على ذلك قائلًا: «إن سمة الفصام الرئيسية هي الإخفاق في محاولة مقاومة الأفكار.»

ومع تطوُّر أدوات تصوير الدماغ، بدأ علماء الأعصاب في مراقبة الأفكار الدخيلة المرتبطة بالوسواس القهري أثناء ظهورها عبر الصور الرقمية. لا يزال مكمن الخلل بعيدًا عن الوضوح، لكن استنادًا إلى تلك الدراسات تُعتبَر أشهر النظريات هي نظرية قصور الدوائر التي تصل بين ثلاث مناطق دماغية: القشرة الجبهية الحجاجية — المسئولة عن معالجة المعلومات الحسية — والعُقَد القاعدية التي تحدِّد السلوك الملائم، والمهاد البصري الذي ينظِّم السلوك الجسدي ثم يرسل رسالةً إلى المناطق السابقة لتأكيد التنظيم.

في هذا النموذج الخاص بالسلوك الاستحواذي، يبدأ اضطراب الوسواس القهري عندما يخرج المهاد البصري عن السيطرة ويرسل تعليمات غير ملائمة إلى القشرة الجبهية الحجاجية، متسبِّبًا في المعضلة التالية: تشير المعلومات الواردة من الحواس إلى أن كل شيء على ما يرام، لكن الإشارات الصادرة من المهاد البصري تفيد العكس. ويستمر السلوك الجسدي الناتج — الطقس — حتى عندما تخبر الحواس القشرة الجبهية الحجاجية بعدم وجود داعٍ له.

على مدار قرون، طلب الناس العون لمواجهة الكرب الذي تسبِّبه الأفكار الدخيلة (انظر الإطار الزمني). وفي المقابل تعرَّضوا للاحتجاز، أو أُعلِنَ جنونهم، أو تلقَّوا جرعات ضخمة من عقاقير مسبِّبة للهلوسة، أو عانَوا من تحاشي الناس لهم، أو تعرَّضت أدمغتهم للصعق بالكهرباء.

تاريخ اضطراب الوسواس القهري: ابتُلِي الناس بأفكار غير مرغوب فيها عبر الأزمان.

تاريخ اضطراب الوسواس القهري: ابتُلِي الناس بأفكار غير مرغوب فيها عبر الأزمان.

لكن الأمور تحسَّنَتْ منذ ذلك العهد؛ فيبدو أن مضادات الاكتئاب التي تُدعَى مثبِّطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية تخفِّف الأعراض لدى حوالي ٤٠٪ من المصابين بالوسواس القهري، برغم أن سبب نجاحها ما زال غير واضح. وفي غضون ذلك، أتاحت النماذج الإدراكية للوسواس القهري علاجات نفسية تحاول كسر هذه الحلقة؛ إذ يساعد المعالجون الأفرادَ على تحديد معتقداتهم المختلة، وتغيير طريقة تفكيرهم بالمعنى الحرفي للكلمة. وتُعرَف هذه الطريقة باسم العلاج السلوكي الإدراكي.

وفي عام ٢٠١٢، جمع علماء من تينيسي وتكساس نتائج ١٦ تجربة موجَّهة تستخدم عينات عشوائية لاختبار العلاج السلوكي الإدراكي للوسواس القهري، واستنتجوا أن العلاج كان أكثر فاعليةً من عدم فعل أي شيء.

وبالحديث عن نفسي، فقد خضعتُ للعلاج السلوكي الإدراكي، وتعلَّمت مراقبة أفكاري الدخيلة حين تظهر وتختفي، وتكمن المهارة ها هنا في تجنُّب الاستجابة لمحتوى أفكاري. الأمر صعب لكن يمكن تنفيذه عبر الممارسة ومراعاة التيقُّظ شبه الدائم، وقد ساعدني بالفعل. كذلك فإنني أتعاطى العقاقير، لكن أكثر ما ساعدني كان نسخة مصوَّرة من قائمة تجمع عددًا من الأفكار الغريبة، أعطاها لي معالجي النفسي في إحدى الجلسات الأولى. تُبرز القائمة أفكارًا مثل ممارسة الجنس مع الحيوانات، والقتل، وزنا المحارم، والمرض، وإيذاء الأطفال، مثلما تظهر في اضطراب الوسواس القهري. وبعدها أخبرني بالمفاجأة التالية: جميع تلك الأفكار نشأت في عقول ٩ من ١٠ أشخاص طبيعيين وأصحاء تمامًا.

كان ذلك اكتشافًا ساعدني على تقليل إحساسي بغرابة الأطوار، ووضعني على أول طريقِ الشفاء الطويل. فإذا تحدَّثَ المزيد من الأشخاص عن أفكارهم الغريبة، فإن عددًا أقل سيعاني التعاسة الشديدة بسببها. وأنا شخصيًّا مستعدٌّ الآن لفعل ذلك.

10 Dec, 2015 05:12:46 PM
0

لمشاركة الخبر