Skip to main content

فيالق الصحراء: الرومان في أفريقيا

يرى راءول ماكلوكلين أنَّ نهر النيل والتعطُّش إلى التجارة والأراضي هو ما قاد جيوش روما إلى التوغُّل في أفريقيا.

 كانت الإمبراطورية الرومانية واحدةً من الأنظمة الحاكمة القوية العديدة في العصر الكلاسيكي. وكان الرومان مُدرِكين لهذه الحقيقة، ورأوا شواهد على العالم الفسيح المحيط بهم في المراكز الحضرية الصاخبة؛ حيث كان يُشعَل البخور العربي على المذابح في دور العبادة، وتضاف التوابل الهندية لإكساب أطعمةِ البحر المتوسط نكهةً. وكان كثير من أثرياء الرومان يرتدون ملابس من الحرير الصيني، ويشترون واردات أفريقيا التي كان من بينها العاج والأبنوس باهظا الثَّمن المجلوبان من مملكة ميروي.

وكما هو الحال مع جارتها الشمالية مصر، كان لمملكة ميروي تاريخ طويل ومعقَّد يسبق الفتح الروماني للبحر المتوسط بعِدَّة قرون. فقد اعتمدت مملكة ميروي الغنيَّة والخِصْبة على نهر النيل الذي كان يتدفَّق من منابعَ عميقةٍ داخل أفريقيا؛ فالنيل الأبيض ينبع على بعد مسافة تُقدَّر بحوالي ٤٠٠٠ ميل جنوب ساحل البحر المتوسط، ويتدفَّق شمالًا لينضم إلى النيل الأزرق بالسودان الذي يتسم بخصوبة تربته؛ ومن هناك يجري في مجموعة من المنحدرات النهرية تُعرَف باسم «شلالات النيل» قبل أن يدخل مصر بالقرب من مدينة سيرين الحدودية القديمة (أسوان حاليًّا).

كانت ميروي جزءًا من منطقة تُعرَف باسم النوبة؛ حيث يتدفق النيل عبر وُدْيان ضيقة تحفُّها المنحدرات على الجانبين. ووصف المصريون الأوائل النوبة بالأرض القَفْر، لكنها كانت تنتج الذهب، وكان سكانها يجلبون البضائع الأفريقية للشلال الأول، وكانت هذه البضائع تضمُّ العاج وجلود النمور، إضافةً إلى العبيد والعاج والبخور الصومالي. وفي زمن الفراعنة كانت تلك الأراضي تحت سيطرة شعبٍ أفريقي يُسمَّى الكوش، وكانت عاصمتهم تُسمَّى نبتة (شمال السودان). ومعظم التاريخ المبكر من حضارة كوش مدوَّن بالهيروغليفية المصرية، لكن الإغريق أيضًا وصلتهم بعض القصص عن هذا الشعب، وأطلقوا على شعب الكوش اسم «أثيوبيا»؛ وهو الاسم الذي أخذه الرومان ولفظوه «إثيوبيا».

كان الكوشيون من أطول الشعوب قامةً في العالم القديم، وكان محاربوهم يُشتَهرون بقوَّتهم، وكانوا يختارون الأقوى بين المتبارين ليكون ملكًا لهم. وورد ذكرهم في قصص الإغريق بأنهم يمتلكون أجسادًا بقَوام ممشوق مميَّز وبنية رياضية وبشرة داكنة للغاية. وخدموا في الجيش المصري كرُماةِ سهامٍ متخصصين؛ لأن طولهم وقوتهم مكَّناهم من حمل الأقواس المصنوعة من خشب النخيل التي كان طولها يصل إلى ستة أقدام. كما حملوا أيضًا رماحًا وهِراواتٍ مسنَّنة مصنوعة من الخشب المعقود. ووَفْقًا لبعض الروايات الكلاسيكية، فإن كثيرًا من هؤلاء المحاربين كانوا يرتدون ملابس مصنوعة من جلود النمور والأسود؛ ممَّا كان يعطيهم مظهرًا مميَّزًا على أرض المعركة. واستخدموا أصباغ الحروب باللونينِ الأحمر والأبيض، ويصف هيرودوت مظهرهم المميَّز فيقول: «دهَنُوا النصف الأول من أجسادهم بالجبس والنصف الآخر بالزُّنْجُفْر.» ويقول المؤرِّخ ديودوروس:

عندما كانوا يستنفدون سهامهم كانوا يكملون المعركة بالهِراوات الخشبية. وكانوا يسلِّحون نساءهم أيضًا، ووضعوا حدًّا عمريًّا لخدمة الإناث، وكانت عادة أغلبهم وضع حلقة برونزية في الشفاه.

أثناء عهد المملكة الجديدة (١٥٥٢–١٠٧٠ قبل الميلاد) فتح الفراعنة المصريون النوبة وتوغَّلوا جنوبًا حتى الشلال الرابع، وفرضوا على المجتمع الكوشي الكثير من أنظمتهم وعاداتهم السياسية. وتبنَّت الطبقة الحاكمة الكوشيَّة الثقافة المصرية، وعندما بدأت قوة الفراعنة في الاضمحلال في القرن الثامن قبل الميلاد، قاد الكوشيون جيوشهم الأفريقية شمالًا للسيطرة على مصر. وأسَّس ملوك الكوش أسرةً حاكمةً من الفراعنة الأفارقة حكمت كلتا المملكتين ما بين ٧٥١ و٦٥٦ قبل الميلاد.

وبعد أن غزا الآشوريون مصر في عام ٦٧١ قبل الميلاد انسحب الكوشيون عائدين إلى النوبة. وفي عام ٥٩٢ قبل الميلاد نقلوا عاصمتهم جنوبًا في مكانٍ يُطلَق عليه ميروي، يقع بين الشلال الخامس والشلال السادس. وفي ذلك المكان أسس الكوشيون معابدَ راقية البناء، واتبعوا الممارسات المصرية في الدفن؛ حيث شيَّدوا أهراماتٍ من الأحجار عاليةً شديدةَ الانحدار لدفن موتاهم من الملوك.

عندما فتح الملك الفارسي قمبيز الثاني مصر في عام ٥٢٥ قبل الميلاد، أرسل الجواسيس جنوبًا ومعهم الهدايا عارضًا صداقته على الملك أماني نتاكليبت ملك ميروي، الذي استهزأ بكلِّ الهدايا ما عدا الخمر، واتَّهم الفرس بالخداع. ويصف هيرودوت كيف أشهر الملك قوسًا ضخمةً، وقال:

عندما يستطيع الفرس وضْعَ وتَرٍ لهذه القوس، يمكنهم القدوم لقتالنا، لكن عليهم إحضار الكثير من الجنود؛ لأن الإثيوبيين لا يموتون بسهولة. وإلى أن يأتي هذا الوقت، على ملك الفرس أن يشكر الآلهة على أننا، نحن أبناء إثيوبيا، لا نشتهي أراضيَ ليست ملكنا.

وعلى الرغم من ذلك، قاد قمبيز جيشه جنوبًا لمهاجمة ميروي، لكن الفرس لم يكونوا مستعدين للزحف في الصحراء لمسافة طويلة، وعادوا أدراجهم عندما نفِدَت مؤنهم. ورغم ذلك، يبدو أن جزءًا من شمال النوبة أُضِيف إلى الإمبراطورية الفارسية؛ لأن الملك داريوش (٥٢٢–٤٨٦ قبل الميلاد) أخذ الجزية من هذه المنطقة، وكان الجنود يُجنَّدون للقتال لمصلحة الفرس. ويروي هيرودوت أنه عندما أراد خشايارشا غزو اليونان في عام ٤٨٠ قبل الميلاد، كان هناك فرقة كبيرة من القوات الأفريقية ضمن صفوف جيشه. وزار هيرودوت مصر في عام ٤٥٠ قبل الميلاد وسافر جنوبًا حتى مدينة سيرين وجزيرة إلفنتين — وتعني الأفيال — عند الشلال الأول، وربما اكتسبت تلك الجزيرة اسمها نظرًا لدورها في تجارة العاج، أو لأن الصخور الضخمة الموجودة على شواطئها تشبه الهيئة المحدَّبة للأفيال الرابضة.

كانت كليوباترا السابعة البطلمية (حكمت من ٥١ إلى ٣٠ قبل الميلاد) آخر حكَّام الإغريق في مصر. ففي آخر حرب أهلية في الجمهورية الرومانية، انهزمت كليوباترا والقائد الروماني ماركوس أنطونيوس على يد أوكتافيوس ابن يوليوس قيصر بالتبنِّي، الذي بحلول عام ٣٠ قبل الميلاد كان قد ضمَّ مصر وجعلها أغنى المقاطعات في الإمبراطورية الرومانية وأكثرها إنتاجًا. وفي عام ٢٧ قبل الميلاد أصبح أوكتافيوس أول إمبراطور روماني يحمل اسم «أغسطس».

كان جايوس كورنيليوس جالوس أحد الزملاء العسكريين لأغسطس، وعُيِّن أول حاكم للمقاطعة. إلى جانب انتماء كورنيليوس لطبقة الفرسان، فقد كان أيضًا شاعرًا حظي على بالغ استحسان فيرجيل، وتنبَّأ أوفيد له بأنَّ «صيته الأدبي سوف يذيع عبر كلِّ المناطق الخاضعة لسلطته العسكرية، وإن كان سيدوم أطول من هذه السلطة.» وعندما تولَّى جالوس مهامَّ منصبه في مصر قاد القوات الرومانية جنوبًا لإخماد ثورة في سيرين. وخلال هذه العمليات عَبَرَ الشلال الأول واستولى على معبد جزيرة فيلة شمال النوبة. وقَبِل الحاكم المحلي شروط الرومان، ووصل نوَّاب الملك تريتكاس ملك ميروي إلى مقابلة جالوس.

واحتفالًا بفتوحاته، شيَّد جالوس نُصْبًا تَذْكاريًّا يحمل نقوشًا بثلاث لغات في جزيرة فيلة، حملت النقوشُ رسائلَ مكتوبة بالهيروغليفية المصرية واللاتينية والإغريقية. وسجَّل النقش المكتوب بالإغريقي كيف حصل جالوس على لقب «بروكسينيا» (شريك سياسي) من سفراء ميروي. أما النص اللاتيني فزعم فيه أنه قَبِل دخول ميروي تحت الحماية الرومانية كدولة تابعة لها. واصل جالوس الاحتفال بفتوحاته بتشييد آثار فخمة، ويصف ديو كاسيوس كيف «وضع صورًا لنفسه في كلِّ مكانٍ تقريبًا بمصر، وأنه كتب قائمة بإنجازاته على الأهرامات نفسها.» ورغم ذلك، بعد عامين من تولِّي جالوس منصبه اتُّهم بازدراء الإمبراطور، وعندما تبرَّأ أغسطس من صداقته أصبح جالوس مهدَّدًا بالعديد من الدعاوى القضائية الخاصة، فانتحر بدلًا من مصادرة ممتلكاته العائلية. وبوفاته أصبحت أيُّ تسوية مستقبليَّة بين روما وميروي مُعلَّقة.

وفي عام ٢٧ قبل الميلاد كان لأغسطس ثلاثة فيالق مكوَّنة من ١٥٠٠٠ فرد تقريبًا متمركِزة في مصر. ورغم ذلك، كثير من هؤلاء الجنود نُقِلوا خلال محاولة الفتح الروماني لجنوب شبه الجزيرة العربية. وأتاحت هذه المحاولة الفرصة أمام حكام ميروي لتحدِّي النفوذ الروماني في المنطقة، وفي عام ٢٥ قبل الميلاد شنُّوا هجومًا عسكريًّا واسع النطاق على جنوب مصر. ويقول المؤلف الإغريقي سترابو: «تجرَّأ الإثيوبيون على ذلك؛ لأن جزءًا من القوات الرومانية المتمركِزة في مصر كان قد استُدعي لشنِّ الحرب على العرب.»

كان هناك حامية رومانية صغيرة مكوَّنة من ثلاث كتائب، قِوامها حوالي ١٥٠٠ جندي، متمركزة في جزيرة إلفنتين لحفظ النظام بالقرب من سيرين. وقاد تريتكاس ٣٠٠٠٠ محارب شمالًا نحو الشلال الأول؛ حيث هاجم جزيرة فيلة. واستولى الجيش الميرويُّ على سيرين، وهاجم الحامية الموجودة في الجزيرة، ودمَّر رموز الإدارة الرومانية. ويقول سترابو — الذي كان يعيش في الإسكندرية في ذلك الوقت — إن الأفارقة «استرقُّوا السكان ودمَّروا تماثيل القيصر أغسطس» قبل العودة جنوبًا ومعهم السجناء الرومان وآلاف من الأسرى المصريين.

وعندما وصل أول أنباء الهجوم إلى الإسكندرية، انطلق بترونيوس القائم بأعمال الحاكم إلى الحدود المصرية ومعه قوة انتقامية مكونة من ١٠٠٠٠ جندي مشاة و٨٠٠ فارس. وفي ذلك الوقت كان الجيش الميرويُّ قد انسحب إلى مدينة بسلكيس (دكة) التي تقع على بعد ٦٠ ميلًا جنوب الشلال الأول. لاحقهم بترونيوس وأرسل مبعوثين للاستفسار عن سبب شنِّهم الحرب وطلب عودة الأسرى، لكنَّ المبعوثين لم يجدوا أحدًا مسئولًا عن قيادة الجيش الميروي.

كان تريتكاس قد تُوفِّي فجأةً بسبب المرض أو الإصابة، وقال ممثلو مملكة ميروي لبترونيوس: إن الهجوم كان انتقاميًّا ردًّا على انتهاكات حكام الأقاليم المصريين (المديرين). وزعموا أن المسئولين تجاوزوا سلطاتهم المتعارف عليها بأن فرضوا ضرائب جائرة. فشرح لهم بترونيوس أن حكام الأقاليم المصريين خاضعون للإمبراطور الروماني وسيعاقبون على انتهاكاتهم. وطلب المندوبون ثلاثة أيام للتداول، ربَّما على أمل أن ترسل لهم العائلة المالكة في ميروي التعليمات. ورغم ذلك، فعندما انقضت المدة الزمنية دون ردٍّ، أخذ بترونيوس بزمام المبادرة وهاجم بسلكيس.

تجمَّع محاربو الميروي في بسلكيس، وكان كلٌّ منهم يحمل درعًا مستطيلةً كبيرةً مصنوعةً من جلد الثيران غير المدبوغ، ومسلحًا بمجموعة من البُلَط والرماح والسيوف. وكانوا يفوقون الرومان عددًا بنسبة ثلاثة إلى واحد تقريبًا، لكن سترابو يقول إن «تنظيمهم كان سيئًا وتسليحهم كان ضعيفًا» مقارنةً بجنود الفيلق المُرتدِين دروعًا قوية والمتلقِّين تدريبات عالية. وأُجبرت القوات الميروية على الانسحاب والهروب؛ إما إلى المدينة أو إلى الصحراء. هرب بعض المحاربين من المعركة بالسباحة في النيل عند مخاضةٍ بها عدد قليل من التماسيح، وفيها تيار النهر ضعيف. وأعادوا التجمع على جزيرة صغيرة، لكن الرومان أحضروا أطْوافًا وقوارب وعبروا النهر وأخذوهم أسرى.

أسَرَ بترونيوس العديد من القادة العسكريين الأفارقة، الذين أخبروه بأن ملكةً تُدعَى الكنداكة تولت مقاليد السلطة في ميروي. وتقول نقوش ميروي: إن «الكنداكة» (كدكي) كان لقبًا ملكيًّا، وإنه يعني — على الأرجح — «الأم الملكة»؛ لأنه يظهر بجوار الكلمة الميرويَّة «الحاكم» (قوري). ويُقال إنه في هذه الفترة كان هناك ملكة تُدعَى أماني ريناس، وكانت وصية على أمير صغير اسمه أكينداد، كان يقيم في العاصمة السابقة نبتة. ويصفها سترابو قائلًا: «كانت ذكورية الشخصية، عوراء العين.» ويمكن أن يكون المقصود بشخصيتها الذكورية هو طول قامتها أو حضورها المسيطر بوصفها قائدة حرب.

وعندما علم بترونيوس أنَّ الأسرى المصريين أُخِذوا إلى نبتة، بدأ الزحف جنوبًا صوب أرض مجهولة. وعانت القوات الرومانية من الكثبان الرملية الشاسعة أثناء تقدمها على طول ضفاف نيل النوبة. وعند منتصف الطريق تقريبًا بين الشلال الأول والشلال الثاني، وصلوا إلى مدينة بريمنيس (قصر إبريم) المحصنة الموجودة على قمة منحدر يطل على النيل. واستولى الرومان على المدينة في هجومهم الأول، ثم استمروا في زحفهم وأخذوا يستولون على عدد من المدن ويطردون منها الحاميات الميروية.

وعند اقتراب الجيش الروماني من نبتة، أرسلت أماني ريناس الرُّسل طالبين وضْعَ نهاية للأعمال العدائية، إضافةً إلى «عرْضٍ بإعادة الأسرى والآثار المأخوذة من سيرين»، إلَّا أن بترونيوس رفض التفاوض وهاجم المدينة على الفور. وهرب أكينداد، لكن مئات من سكان المدينة أُسروا ليُنقَلوا إلى مصر كعبيد.

حتى ذلك الحين كان الرومان قد زحفوا لمسافة ٨٧٠ ميلًا جنوب سيرين، وكان أمامهم ما يزيد على ٧٠ ميلًا للوصول إلى العاصمة في ميروي. وكان الصيف الأفريقي على الأبواب، ولم يكن بترونيوس يعلم أي نوع من الأرض ينتظرهم؛ ولذلك، رأى أنه قد أنزل بهم ما يكفي من القصاص وعاد إلى مصر. وعن هذا يقول سترابو:

بعد أن أحرقوا نبتة بالكامل واسترقُّوا سكانها، عاد بترونيوس محمَّلًا بالغنائم. وأقرَّ أن المناطق الموجودة فيما وراء تلك المدينة من الصعب اجتيازها.

ويضيف ديو كاسياس قائلًا:

لم يتمكن بترونيوس من مواصلة التقدم بسبب الرمال والحرارة. ولم يكن هناك أيُّ فوائد يجنيها من البقاء في المكان الذي كان فيه مع كامل قوَّاته؛ ولذلك انسحب مصطحِبًا معه الجزء الأكبر من جيشه.

وقبل عودته أقام بترونيوس حامية رومانية قِوامها ٤٠٠ رجل في مدينة بريمنيس الواقعة على قمَّة المنحدر الصخري، وترك لهم مؤنًا تكفيهم لعامين. وانتهت الحملة العسكرية التأديبية برُمَّتها في غضون شهور.

عندما عاد بترونيوس إلى الإسكندرية أرسل التقارير وغنائم الحرب إلى روما، وكان من بين تلك الغنائم ألف سجين أفريقي. ومع إضافة الأراضي الجديدة إلى الإمبراطورية، بدا للرومان أنَّ السلام تحقق، لكن بعد عامين؛ أي في عام ٢٢ قبل الميلاد، قادت أماني ريناس جيشًا كبيرًا شمالًا إلى الشلال الثاني. ورغم ذلك لم تهاجم الحصن الموجود في بريمنيس، وهذا الأمر منح بترونيوس وقتًا للوصول بآلات الحرب والتعزيزات. وعندما علمت أماني ريناس بوجود قائد روماني رفيع المستوى، أرسلت مبعوثين لإعادة فتح باب المفاوضات.

طالبت أماني ريناس بتسويةٍ سلميةٍ دائمة، وطلبت المزيد من المعلومات عن روما. وأوضح بترونيوس، ربما من منطلق إدراكه للمصير الذي لاقاه جالوس، أنه على مبعوثيها تقديم مطلبهم مباشرةً للإمبراطور. «ولما زعم المبعوثون أنهم لا يعلمون من يكون هذا «القيصر» أو أين يمكنهم إيجاده»، أرسل معهم بترونيوس مرافقين. في ذلك الوقت كان أغسطس في جزيرة ساموس اليونانية، يعقد تسوية دائمة مع الإمبراطورية البارثية، وكان قد استقبل للتوِّ سفراء من الهند. وعامل الإمبراطور المبعوثين الميرويين بحفاوة، وأجاب كافة طلبات أماني ريناس بما فيها انسحاب الرومان من الأراضي النوبية، التي تطالب مملكة ميروي بأحقِّيتها في ملكها. ويقول سترابو: «عندما حصل السفراء على كلِّ ما طلبوه، تجاوز أغسطس المدى بكرمه فأعفاهم من الجزية التي كان قد فرضها عليهم.» ربما اقتنص أغسطس الفرصة ليُظهِر حِنكته السياسية، أو ربما أدرك أن النوبة سيكون من الصعب نشر الحاميات فيها. علاوة على ذلك، فحُسْن العلاقات الدبلوماسية مع ميروي كان له فائدة مالية؛ إذ تمكَّن الرومان من جباية ضرائب جمركية مربحة من البضائع العابرة من النوبة إلى مصر.

بحلول عام ٢٠ قبل الميلاد كانت القوات الرومانية قد تركت مدينة بريمنيس النوبية، وانسحبت لمسافة ٦٠ ميلًا شمالًا نحو هايرا سيكامينوس (المحرقة). واستعادت مملكة ميروي نفوذها على المنطقة، وأصبحت مسئولة عن حماية طريق النيل من قبائل الصحراء المعادية. لقد كانت إعادة احتلال سلمية، لكنَّ المحاربين الميرويين أطاحوا رمزيًّا بتماثيل الإمبراطور، وقطعوا رءوسها في المدن التي استعادوها. وأحد هذه التماثيل وُضع على عتبة أحد معابد إله النصر الميروي. وفي عام ١٩١٠ اكتشف فريق من الأثريين من جامعة ليفربول الرأس البرونزي في أنقاض ميروي القديمة. ويوجد هذا الرأس حاليًّا في المتحف البريطاني، وعلى الرغم من فقدان السطح المعدني اللامع للتمثال بريقه، فإن عينيه الزجاجيتين الملونتين ما زالتا تحدِّقان في حيوية ووضوح.

عند ضريح في جنوب ميروي، اكتشف الفريق نفسه لوحتين حجريتين تخلدان ذكرى الانتصار العسكري؛ ولما كان الكلام المنقوش عليهما بالكتابة الميروية المتصلة، لم يتمكن من فك رموز أيِّ شيء منهما سوى أسماء الأعلام فقط. تخلِّد اللوحتان انتصار أماني ريناس وأكينداد على أرمي (روما). وفي عام ١٩١١ أثناء تنقيب أثريين بريطانيين في معبدٍ قريب، اكتشفوا رسومًا جدارية تُظهِر جلْبَ مساجين أجانب إلى ميروي. وقد دمَّرت الفيضانات موقع تلك الرسوم القديمة، لكن النُّسخ المرسومة بالألوان المائية التي رسمها الدارسون الزائرون، تؤكد تفاصيل المشهد. وتُظهِر تلك الصور أسرى شُقْر الشعر، بيض البشرة، يرتدون ملابس تشبه الملابس الرومانية، مكبلين بالأغلال، مُجبَرين على النزول على رُكَبهم جثيًّا أمام أحد آلهة ميروي.

ما بين عام ١٩٦٠ وعام ١٩٧٠، بُني السد العالي في أسوان وغُمر وادي النيل ما بين الشلال الأول والشلال الثاني لإنشاء بحيرة ناصر. أما الحصن الواقع على قمة المنحدر عند بريمنيس فظلَّ كجزيرة، وأخذ الأثريون يُجرون عمليات التنقيب في الموقع. وإلى جانب العملات المعدنية، والمصابيح، وأوراق البردي، وبقايا الملابس التي عثروا عليها، وجدوا أيضًا الآلاف من قاذفات الأحجار التي كانت تُستخدم في مجانيق الحصن في عهد بترونيوس. أغرب ما وجدوه بين البقايا الرومانية هو جزء من مخطوطة بردي تُعَدُّ واحدة من أقدم المخطوطات الباقية المكتوبة باللاتينية. وتضم بعض الأبيات الشعرية من كتابات كورنيليوس جالوس، حاكم مصر المشين. تمثل تلك المخطوطة كلَّ ما تبقى من أعماله التي كانت محلَّ احتفاء في يومٍ ما، وتشير إلى تطلُّع يوليوس قيصر إلى غزو بلاد فارس (٤٤ قبل الميلاد). وكتب كورنيليوس جالوس فقال:

سيحالفني الحظُّ أيها القيصر، عندما يسيطر ذكرك على التاريخ الروماني. وعندما تعود سوف أُعجَب بمعابد الآلهة الكثيرة المزدانة بتذكارات انتصارك.

واغتِيل يوليوس قيصر على يد زملائه قبل أن يتمكن من شنِّ أية غزوات أخرى، وكان قدر كورنيليوس جالوس أن يحظى بميتة مخزية على يديه. ورغم ذلك، فقد حمل جندي مجهول تلك الكلمات مصدرًا للإلهام في الحرارة الجافة التي تتميز بها بريمنيس القديمة.

كانت ميروي، بل النوبة بأسرها في واقع الأمر، تعتمد على النيل والفيضان الذي يحدث بسبب روافده الرئيسية. ولم يكن أحد يعلم من أين يبدأ النيل، ولا إلى أيِّ مدًى يمتد في أفريقيا، وظلَّ لغزًا أدهش الرومان. ويوضح بلينيوس الأكبر فيقول: «لم نتأكد بعدُ من منابع النيل، فهو يجري في صحراوات حارقة لمسافة طويلة للغاية، ولم يستكشفه سوى مستكشفين مدنيين. أما نحن فقد اكتشفنا كافة البلدان الأخرى بسبب الحرب.»

كانت حكايات الرومان عن الأشياء التي قد تكون موجودة في أفريقيا الوسطى، تصورات خيالية؛ إذ كانت هناك حكايات عن «غابات وارفة تعج بأشجار الأبنوس»، «وجبل يُعرَف باسم عربات الآلهة يرتفع ارتفاعًا شاهقًا وتتوهج منه نيران سرمدية» (هو على الأرجح بركان إرتا أليه). وقد كرر بلينيوس قصصًا عن «شعب البيجمي الذي يعيش بين المستنقعات حيث ينبع النيل»، وقصصًا عن «بان، إله المراعي، وساتير، المصاحب له، اللذين يقطنان الأدغال الظليلة» الموجودة في تلال إثيوبيا.

بحلول عام ٦٠ بعد الميلاد كان الإمبراطور نيرون ومستشاروه يبحثون عن أنواع جديدة من العوائد لتمويل خطط الإنفاق. وبدت الأراضي في أفريقيا إضافةً جذَّابة للإمبراطورية؛ إذ بدت مصادرَ ثروة وفيرة جديدة، وطريقًا لمناطق لم يتمَّ غزوها. فقرر نيرون إرسال حملة لتحديد فرص المجازفة العسكرية في أفريقيا ولاكتشاف منبع النيل. وجُنِّد جزء من المستكشفين من الحرس الإمبراطوري تحت قيادة كبار السنتريون إضافةً إلى أطربون. وفي عام ٦١ بعد الميلاد غادرت المجموعة الأراضي الرومانية في مصر متجهة جنوبًا؛ ليحظوا بمقابلة ملك ميروي أمانيخابال.

وقد كتب السياسي سينيكا، الذي كان حريصًا على أن تكون له حظوة لدى نيرون، فقال:

لقد سمعت بنفسي من أفواههم تلك القصة التي رواها المسئولان الموفدان لاكتشاف منابع النيل بموجب أمر من إمبراطورنا الصالح نيرون، الحاكم المكرِّس نفسه لكافة أشكال الفضائل، لكنه مهموم بشكل خاصٍّ بالوصول إلى الحقيقة.

أما بلينيوس فيلمِّح للقصد الحقيقي من تلك الحملة عندما كتب:

أرسل مؤخرًا الإمبراطور نيرون فريقًا استكشافيًّا من قوات الحرس الإمبراطوري تحت قيادة أطربون. ويبدو أن الإمبراطور يفكر، في واقع الأمر، في شنِّ هجوم على إثيوبيا إلى جانب بقية حروبه الأخرى المُنشغل بها.

تظاهر الفريق الروماني أنهم دبلوماسيون ومستكشفون، وسجلوا المسافات والمنابع خلال رحلة شاقة تُقدَّر بنحو ٩٤٥ ميلًا من سيرين إلى ميروي. واستخدمت المجموعة نصوصًا إغريقية ومصرية لإعداد قائمة من ٢٥ مركزًا حضريًّا على النيل النوبي، لكنهم اكتشفوا أن معظم تلك المراكز قد هُجرت منذ أمدٍ بعيد نظرًا لتدهور الظروف البيئية. وقالوا إنه «في الأوقات الحالية لا يوجد أيٌّ من تلك المواقع على أيٍّ من ضفتي النهر.» وعند فحص الأنقاض عن كثب أكثر، أدرك الرومان أن هذا التدهور قد حدث منذ عدة قرون. وظن بلينيوس أن النوبة ربما دمرتها الصراعات القديمة بين الملوك الأفارقة والفراعنة المصريين. وقال: «لم تكن روما هي ما حوَّلت ذلك البلد إلى صحراء، لقد استُنزِفت إثيوبيا؛ إذ تناوبت عليها فترات من السيطرة والخضوع في سلسلة من الحروب مع مصر؛ لأنها كانت بلدًا مشهورًا وقويًّا حتى منذ زمان حروب طروادة (القرن التاسع قبل الميلاد).

وفيما وراء الشلال الرابع والشلال الخامس، عبر المستكشفون جزرًا في النيل تحفُّها الأشجار من الجانبين، يسكنها طيور الدرَّاء والنسانيس وقردة البابون. وانتهت الصحراء النوبية بالقرب من أطراف ميروي؛ حيث تصبح الأراضي خصبة ومليئة بالغابات. ولاحظوا أنَّ «الأعشاب الأكثر خضرة يبدأ ظهورها بالقرب من المدينة، وأن أطراف الغابة تظهر للعيان حيث يمكن رؤية آثار أقدام الخراتيت والأفيال.» وعلم الرومان أنه كان هناك بلدات أخرى في المنطقة يتصل بعضها ببعض عن طريق روافد نهريَّة وطرق بريَّة.

وفي ميروي حظي الفريق الروماني باستقبال في البلاط الملكي، وحاز الموافقة على مهمة استكشاف الأطراف الجنوبية للنيل. وقدَّم لهم الملك الدعم، بما في ذلك من خطابات توصية؛ لضمان المرور الآمن عبر الدول التابعة له في الأجزاء الجنوبية من ملكه. ومن المحتمل أن يكون قد قدَّم للرومان المرشدين وربما مرافقين عسكريين أيضًا. ويقول سينيكا: «لقد أمدهم الملك بالدعم، ومنحهم خطابات تعريف للحكام المجاورين. وبعد ذلك انطلقوا في رحلتهم الطويلة إلى وسط أفريقيا.»

ومن ميروي سافر الفريق الروماني لمسافة ٦٠٠ ميل إلى النيل الأبيض، حتى وصلوا إلى بحر الجبل الشبيه بالمستنقع والموجود حاليًّا في جنوب السودان، وهو أرض رطبة نتنة الرائحة تعج بالسرخسيات وسيقان البردي وطبقات كثيفة من النباتات المتعفنة. وفي موسم الأمطار يغطي بحر الجبل منطقةً كبرى من مساحة إنجلترا بمستنقع رطب شاسع يعج بالناموس وغيره من الحشرات الأخرى. وكانت الحيوانات الكبيرة الوحيدة الموجودة في نهر الجبل، هي التماسيح وأفراس النهر التي كانت تحتل البِرَك الطينية الموجودة في امتداده الفسيح. وكان على الأشخاص الذين يدخلون هذه المنطقة تحمُّل الحرارة الشديدة، ومواجهة خطر الإصابة بالمرض والموت جوعًا.

واكتشفوا أن بحر الجبل أعمق من أن يتمَّ عبوره على الأقدام في أمان، وأن مياهه كانت أيضًا ضحلة وليست بالعمق الذي يمكِّن من استكشافها باستخدام القوارب. «وصل الرومان إلى منطقة في المستنقعات حيث لا تستوعب سوى قارب صغير يُقِلُّ شخصًا واحدًا.» وعند هذه المرحلة يئس الفريق من إيجاد ولو منبعًا محددًا للنيل، وعادوا أدراجهم على مضض لإبلاغ الإمبراطور في روما بالنتائج التي توصلوا إليها. وقد وصلوا، على الأرجح، إلى منطقة تبعد حوالي ١٥٠٠ ميل جنوب الحدود الرومانية المصرية.

وعندما عاد المستكشفون إلى إيطاليا، قالوا لسينيكا:

وصلنا إلى مستنقعات شاسعة لا يعرف حدودها حتى السكان الأصليون؛ ولم نتمكن من معرفة حدود هذا المكان. فالنهر يعج بنباتات كثيفة متشابكة، ومياهه لا يمكن اجتيازها على الأقدام بسبب كثافة النباتات النامية في الوحل.

وسأل نيرون بنفسه الجنود عن منبع النيل، فقالوا له باحتراز: «لقد رأينا شخصيًّا صخرتين ينبع منهما قدر هائل من الماء.» أما سينيكا فكان متشككًا في الأمر، ورغم ذلك التزم الصمت، وظنَّ أن هذا ربما يكون أحد أنهار عديدة تنبع من منبع تحت الأرض. وفي ضوء التقارير التي قدَّمها الفريق أعدَّ رسَّامو الخرائط الرومان مخططًا يوضح الطرق الرئيسية إلى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ويصف بلينيوس هذا المخطط بأنه «خريطة إثيوبيا الترسيمية المقدمة مؤخرًا للإمبراطور نيرون.»

ورغم كل هذه التقارير عن الصحاري والمستنقعات، استمرت طموحات نيرون في فتح أفريقيا وأرسل مبعوثين من الإمبراطورية إلى مملكة ميروي لتحديد فرص اتخاذ إجراءات إضافية. ويوضح ديو كاسيوس أن الإمبراطور كان يأمل في أن «تخضع له تلك المنطقة طواعية» من خلال عملية زيادة الاتصالات السياسية. لكن جواسيس نيرون قد أبلغوه أن «إخضاع تلك المناطق سيتطلب وقتًا أطول وجهدًا أكبر.» وفي الوقت نفسه، كان الإمبراطور قد أقام عروضًا مسرحية في روما، ظهر فيها محاطًا تمامًا بالرعايا الأفارقة. ويصف ديو كاسيوس كيف أعدَّ نيرون، على شرف ملك أرمينيا الذي جاء لزيارة روما، «احتفالية فخمة للغاية ومكلِّفة جدًّا»، وفي أحد أيام تلك الفاعليات لم يُسمح إلا للإثيوبيين — رجالًا ونساءً وأطفالًا — بدخول المسرح.»

بدأت تجهيزات الحرب عندما نقل نيرون وحدات عسكرية إلى مصر بما فيها الفيلق الخامس عشر الأبولي ووحدة ألا سيليانا المعاوِنة المُشكَّلة حديثًا. وفي عام ٦٤ بعد الميلاد نفى نيرون كاسينا توسكوس، حاكم مصر، لأنه تجرأ واستخدم الحمام الإمبراطوري الذي بناه نيرون ليستخدمه عند وصوله إلى الإسكندرية. ويصف تاسيتس كيف أصبح نيرون مهووسًا «بخططه السرية إزاء المقاطعات الشرقية، لا سيما مصر»، وأنه في إحدى المناسبات أخبر المواطنين في روما أنه راحل إليها.

وتأجَّل رحيل نيرون بعد أن غلبه الخوف عند زيارة معبد فيستا في روما؛ حيث بدأ يرتعد. وزعم نيرون أن شعبه يحتاج وجوده. وكان من الممكن أن يشنَّ حملته على أفريقيا، لكن في عام ٦٦ بعد الميلاد انصبَّ الانتباه العسكري الروماني على الثورة اليهودية الكبرى في الشرق الأدنى. وأُطِيح بنيرون وانتحر في عام ٦٨ بعد الميلاد، وغرقت الإمبراطورية في الحرب الأهلية في «عام الأباطرة الأربعة». أما الطموحات الرومانية في احتلال وامتلاك ثروة الممالك الأفريقية البعيدة فظلت غير محقَّقة.

14 Dec, 2015 02:42:15 PM
0

لمشاركة الخبر