أصبحت احتمالات إصابتنا بالخرف في سنِّ الشيخوخة أقلَّ من أي وقت مضى، بل وثمة أساليب كذلك قد تمكِّننا جميعًا من تقليل فرص التعرض لهذا الخطر أكثر وأكثر.
تُوفِّي جدِّي لأبي قبل ولادتي مباشَرةً، وكانت القصص التي يرويها أبي عنه تستحضر في الذهن صورة رجل قوي العقل والجسد؛ إذ كان من المحاربين القدامى ممَّن شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وتميَّزَ بطابعٍ صاخبٍ مع رفاقه الذين يحتسي معهم الشراب، أما في البيت فكان ربَّ أسرةٍ محافِظًا.
إن مدى كفاءة أداء عقولنا في سنِّ الشيخوخة من أهم العوامل التي تحدد جودة حياتنا.
لكن مقارَنةً بتلك القصص كانت خاتمة حياته حزينة موجزة؛ إذ قضى أيامه الأخيرة يعاني من خرف الشيخوخة وتدهور الصحة.
عندما سألتُ أبي مباشَرَةً عن تلك الفترة من حياة جدي، كان يتذكَّر أن أباه كان يجلس صامتًا لساعات يرشف ببطء وإلى ما لا نهاية كوبًا فارغًا من الشاي، بينما لا يعي أيًّا مما يجري حوله. إلا أن والديَّ يفضِّلَان عدم الإسهاب في سرد التفاصيل، وتعلِّق أمي قائلةً: «كلُّ ما هنالك أن الناس قبل أربعين عامًا لم يكونوا مهتمين بالخرف.»
لكننا اليوم نتحدث كثيرًا عن الخرف؛ فمع استمرار ارتفاع متوسط الأعمار المتوقَّع، وبعدما أصبحت الجموع التي وُلِدت مع طفرة المواليد في الخمسينيات والستينيات على عتبة الشيخوخة، تُواجِه بلدانُ الغرب ظاهرةً يُطلَق عليها أحيانًا تسونامي الخرف الوشيك. وقد أصبح الأمر ملحًّا، حتى إن مدينة لندن استضافت الشهر الماضي أول قمة لمجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى حول هذا الموضوع؛ حيث اتفقت أغنى ثماني دول في العالم على تنسيق جهودها البحثية لمواجهة هذه المشكلة.
ستواجِه أنظمة الرعاية الصحية ضغطًا شديدًا بفعل هذا الوباء؛ ففي المملكة المتحدة تَفُوق التكلفة السنوية لرعاية المصاب بهذه الحالة المرضية متوسِّطَ الراتب في البلاد. وعلى المستوى الشخصي، يفقد طول العمر جاذبيته إذا كان العمر سينتهي بهذه الطريقة.
لكن إذا أمعنَّا النظر في هذه الظاهرة، سنجد أن جميع تلك التنبؤات القاتمة اعتمدَتْ على افتراضٍ مركزي يقتضي استمرارَ إصابة الأفراد بالخرف بذات معدل الإصابة السابق، وهو افتراض معقول — فالسن هو عامل الخطر الرئيسي لهذا لمرض الخرف — لكنه ربما يكون خاطئًا تمامًا؛ إذ ظهرت بعض الأدلة التي تشهد على انخفاض معدل الخرف في البلدان المتقدمة.
لكن نظرًا لارتفاع متوسط عمر السكان في بلدان الغرب؛ قد لا يكفي ذلك لمنع زيادة إجمالي عدد المصابين بالخرف، وبالتالي ما زلنا في حاجةٍ إلى التخطيط وفقًا لذلك على المستوى المجتمعي. لكن احتمالات إصابتنا بهذا المرض انخفضت على ما يبدو، وهو أول خبر جيِّد نسمعه بخصوص الخرف.
تعمل الأبحاث حاليًّا على اكتشاف سببِ تلك الاتجاهات، من أجل الحفاظ عليها بل ربما تعزيزها أيضًا. يقول كور كريستينسن — اختصاصي الوبائيات في جامعة جنوب الدنمارك بمدينة أودنسه، والذي ترأَّسَ بعضًا من الأبحاث: «أعتقد أن ذلك يعطينا سببًا لتفاؤل حذر؛ إذ توجد على ما يبدو إمكانات هائلة لتحقيق مزيدٍ من التقدم؛ ما لم نضيِّعها.»
إن مدى كفاءة أداء عقولنا في سنِّ الشيخوخة من أهم العوامل المحدِّدة لجودة حياتنا. ولا مفر تقريبًا من الإصابة بتدهور طفيف في القدرات المعرفية مع تقدُّم العمر. وبالنسبة لمعظم الناس، هو منعطف تنازلي معتدل في الكفاءة العقلية، وهو ما يسبِّب الإحباط لكنه ليس ذا تأثير كبير.
إذا كان هذا التراجعُ العقليُّ أَزْيَدَ من المعتاد بالنسبة لعمر الفرد لكن ليس بالدرجة التي تتعارض وحياته اليومية، يُصنَّف باعتباره اعتلالًا معرفيًّا بسيطًا. وتُعتبَر هذه الحالة مؤشِّرًا بالغَ الخطورة على احتمال الإصابة بالخرف.
خرف الشيخوخة انهيار عام للعقل والشخصية، مصحوب باضمحلال في الذاكرة والانتباه والتحكم العاطفي. ومن بين جميع الأمراض المرتبطة بالتقدم في العمر، فإن الخرف من وجهة نظري أكثرها إثارةً للخوف؛ فهو مرض يُهِين المصابَ به ويُدمي قلوب المحيطين به.
تقريبًا ثلثَا حالات الخرف يسبِّبها مرض ألزهايمر، الذي يقتل الخلايا العصبية تدريجيًّا مُحوِّلًا إياها إلى تكتلات مميزة من البروتين. ويأتي الخرف الوعائي في المرتبة الثانية من حيث الشيوع، والذي ينتج عن تدهور الأوعية الدموية في الدماغ، وغالبًا ما يتضمَّن سكتات دماغية طفيفة. توجد أنواع ثانوية أخرى أقل شيوعًا، إلى جانب الاعتقاد المتزايد بأن الخرف لدى الأشخاص الطاعنين في السن يشتمل عادةً على مزيج من أنواع مختلفة من الأمراض.
لطالما كان معروفًا أن خطر الإصابة بالخرف يتزايد على نحوٍ ملحوظٍ — وبلا هوادة على ما يبدو — مع تقدُّم العمر. يظهر عدد قليل جدًّا من الحالات قبل سن الستين، وفيما بين سن الستين والسبعين تظل هذه الحالة المرضية محدودة فيما لا يتجاوز ١٪ تقريبًا من المرضى تعساء الحظ، لكن بعد هذه المرحلة تزداد الاحتمالات سوءًا بدرجة كبيرة؛ إذ يتأثر ٥٪ ممَّنْ تتراوح أعمارهم بين السبعين والثمانين بالمرض، ومع تجاوُزِ سن الثمانين يرتفع خطر الإصابة ارتفاعًا حادًّا بدرجة تزيد عن ذي قبل (انظر الرسم البياني).
معدلات الخرف غير المتوقعة
أدَّتِ الزيادة المطردة في متوسط العمر المتوقَّع إلى الانتشار الواسع للتنبؤات الزاعمة بقرب حدوث زيادة حادة في حالات الخرف …
متوسط العمر المتوقَّع عند الولادة في إنجلترا وويلز.
لكن دراسة حديثة ألقَتْ بظلال من الشك على تلك التنبؤات مع انخفاض معدل الإصابة بالخرف لدى مَن تجاوزوا سن ٦٥ عامًا، على مرِّ العشرين عامًا الماضية.
انتشار الخرف.
لطالما بدا الأمر محتومًا من الناحية المنطقية؛ فكلما زاد عدد الأفراد الأكبر من ٨٠ عامًا، سيزيد عدد الأفراد المصابين بالخرف، ومن المتوقَّع غالبًا أن يصل عدد المصابين بالخرف على مستوى العالم إلى ثلاثة أمثال العدد الحالي بحلول عام ٢٠٥٠.
أخبار جيدة دون شك
على الرغم من ذلك، ظهرت على مدار السنوات القليلة الماضية بعض المؤشرات الدالة على اختلاف الأرقام الفعلية مع الصورة السابقة. أشارت الأبحاث إلى أن الخرف كان في سبيله للتراجُع، إلا أن هذه الدراسات لم تكن حاسمةً، إما لكونها صغيرةً أكثر مما ينبغي أو لكون نتائجها غير قاطعة من الناحية الإحصائية.
لكن الآن نشرت مجلة ذا لانسيت الطبية البارزة دراستين شملَتَا آلاف الأشخاص في غضون فترة زمنية بلغت بضعة أشهر، وهاتان الدراستان تتحديان المعتقد السائد.
قارَنَتْ إحدى الدراستين بين استقصاءين حول أرقام المصابين بالخرف في المملكة المتحدة، أُجرِيَ أحدهما قبل الآخَر بعشرين عامًا. توصَّلَ الاستقصاء الأول — الذي أُجرِيَ من عام ١٩٩٤ — إلى وجود حوالي ٦٥٠ ألفَ مصابٍ بهذه الحالة المرضية. ومع زيادة متوسط عمر السكان على مرِّ السنوات الفاصلة، كان من المفترض أن يُسفِرَ تكرارُ ذاتِ الاستقصاء — بذات الاختبارات والتعريفات — عن وجود ما يقرب من ٩٠٠ ألف مصاب بالخرف، لكن العدد جاء ناقصًا بفارق يزيد على ٢٠٠ ألف مصاب. وبالنظر إلى كيفية تأثير المرض على فئات عمرية بعينها، بدا أن الخرف يصيب الأفراد في مرحلة متأخرة من العمر (انظر الرسم البياني).
كانت النتيجةُ مفاجأةً سارة لكارول براين — اختصاصية الوبائيات في جامعة كامبريدج، والتي ترأَّسَتْ هذه الدراسة — فعلَّقَتْ قائلة: «لقد كانت تجربةً إيجابية للغاية.» بينما وصفت افتتاحية مجلة ذا لانسيت — التي صاحبت نشر الدراسة — النتائج بكونها «أخبارًا جيدة دون شك».
أما الدراسة الأخرى فتناوَلَتْ صحةَ مجموعتين من المواطنين الدنماركيين في منتصف العقد العاشر من عمرهم، وُلِدوا بفارق عقد من الزمان في عامَيْ ١٩٠٥ و١٩١٥. طُلِبَ من هؤلاء المشاركين ممَّنْ في العقد العاشر من عمرهم إتمامُ مجموعة من الاختبارات الجسدية والعقلية. وبينما كان مستوى الصحة الجسدية متماثلًا لدى المجموعتين، فإن مَن وُلِدوا عام ١٩١٥ تفوَّقوا بجلاء في الاختبارات المعرفية على أقرانهم المولودين قبلهم. يعلِّق كريستينسن — الذي ترأَّسَ الدراسة — على ذلك قائلًا: «لم يكونوا أقوى لكنهم كانوا أذكى، إن الدراستين تتكاملان تكاملًا رائعًا.»
لكن بطبيعة الحال يظل السؤال المهم ها هنا هو: لماذا يحدث هذا التغيُّر؟ لم تُصمَّم أيٌّ من الدراستين لكشف الأسباب الكامنة وراء أي اتجاهات، لكن في وسعنا تقديم بعض التخمينات المدروسة؛ إذ يبدو أن العوامل الرئيسية ها هنا هي التوجُّهات الطويلة الأمد المتمثِّلة في ارتفاع مستوى الرخاء والتعليم وتحسُّن الصحة؛ وكلها مقومات مفيدة للدماغ.
إن فكرة قدرة التعلُّم والتفكير على صدِّ الأمراض الجسدية التي تسبِّب الخرف كانت ولا تزال تثير جدلًا، وهو ما يعلِّق عليه ياكوف ستيرن — عالم النفس العصبي في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك الذي قضى آخِر ٢٥ عامًا في بحث هذه الفكرة: «كان الأمر غير تقليدي للغاية في البداية.»
أثارت هذه الفكرةُ اهتمامَه في ثمانينيات القرن العشرين، عندما زعم أحد زملائه أن أصحاب المهن ممَّنْ حظَوا بتعليم عالٍ، يقل على الأرجح احتمال إصابتهم بمرض ألزهايمر. لكن المتشككين اعتقدوا بحتمية وجود تفسيرات أخرى، ربما كان أداء تلك الفئات أفضل في الاختبارات المعرفية المستخدَمة لتشخيص ألزهايمر ليس إلا، أو ربما كان انخفاض الدخل الذي يصاحبه نقص التعليم يرتبط بعوامل خطر أخرى.
لكن تلك الاحتمالات استُبعِدَتْ مع المزيد من الدراسات، وبدأت الفكرة تلقَى دعمًا بأن الأنشطة العقلية تخلق حالةً من المرونة في مواجهة التدهور في الشبكات الدماغية المرتبط بتقدُّم العمر. ويساعد هذا «الاحتياطي المعرفي» الدماغَ على الاستمرار في أداء وظيفتها رغم التدهور الجسدي المعتدل، كما تزعم النظرية. يقول ستيرن: «لا يتوقف الدماغ نهائيًّا عن العمل لمجرد إصابة المرء بحالة مرضية، بل إن الدماغ يحاول أن يبذل قصارى جهده.»
من حسن حظ نظرية الاحتياطي المعرفي، أنْ تحسَّنَ بالفعل مستوى تعليم السكان على مدار النصف الأول من القرن العشرين في كثيرٍ من بلدان الغرب — من ضمنها المملكة المتحدة والدنمارك — عبر تحسين طرق الحصول على التعليم، وعبر الارتفاعات المتكررة في سن التسرب الدراسي. يعتقد كلٌّ من براين وكريستينسن أن التعليم على الأرجح يمثِّل جزءًا من تفسير نتائجهم.
هل من الممكن استمرار هذا الاتجاه؟ لقد ارتفع سنُّ التسرب الدراسي في المملكة المتحدة — على سبيل المثال — لمستوى أعلى من الوقت الذي كان يرتاد فيه المشاركون في الدراسة البريطانية المدرسة. وخلال العقود الأخيرة واصَلَتْ أعداد متزايدة من الأفراد تعليمها حتى التعليم العالي، وسيتضح مع الوقت إنْ كان سيتسبَّب ذلك في مزيدٍ من التحسُّنات أم لا، أو ربما يوجد حدٌّ أقصى للحماية التي يوفِّرها التعليم في المراحل المبكرة من حياة المرء.
بالطبع فات أوان إجراء أي شيء بالنسبة للتعليم المدرسي الذي حصل عليه كثيرٌ منَّا، إلا أن الاحتياطي المعرفي لا يتراكم عبر التعليم الرسمي فحسب؛ إذ يتأثَّر كذلك بالمتطلبات الذهنية لوظائفنا والأنشطة العقلية التي نمارسها طوال حياتنا. يعلِّق ماركوس ريتشاردز — اختصاصي الأمراض الوبائية في «وحدة الصحة مدى الحياة والشيخوخة» التابعة لمجلس الأبحاث الطبية في لندن: «إن الوظائف المعرفية تظل قابلةً للتعديل طوال حياة المرء، ومن ثَمَّ لم يَفُتِ الأوان قطُّ على تولِّي زمام حمايتها.»
استولت الشركات التي تنتج ألعاب الكمبيوتر التي «تدرِّب الدماغ» على هذه الفكرة. مما لا شك فيه أن التدريب على مهمة حاسوبية سيُحسِّن من أداء الفرد لها، كما سيخبرك أي لاعب. لكن قدرة تلك المهارات على مساعدة الدماغ في أداء وظيفته بشكل عام — كما تدَّعِي الإعلانات — لا تزال محل شك بالإضافة إلى زمن دوام أيٍّ من تلك الفوائد.
ومنذ ثلاثة أشهر فحسب ظهرت أول دراسة توضِّح قدرة إحدى ألعاب الكمبيوتر على تحقيق فوائد تتجاوز إطار اللعب؛ إذ تمكَّنَتْ لعبة مصمَّمة لمساعدة الناس على تحسين أدائهم للمهام المتعددة، من تعزيز قدراتهم على الانتباه بجانب ذاكرتهم العملية لمدة ستة أشهر على الأقل. لكن قبل أن نضع أملنا في ذلك المنهج لا نزال نحتاج إلى دراسات أكبر تمتدُّ لفترات زمنية أطول، وبالتأكيد نحتاج إلى دراسات تقيس كذلك معدلات الخرف.
في نفس الوقت، توجد وسائل أخرى أقل إثارةً للجدل — وأكثر إمتاعًا على حدِّ زعم البعض — لتكوين احتياطي معرفي؛ مثل ممارسة هوايات تتطلب مجهودًا ذهنيًّا شاقًّا؛ مثل: لعبة الورق المعروفة باسم البريدج، أو العزف على آلة موسيقية. وعلاوة على ذلك قد يحمي المرءَ تمتُّعُه بحياة اجتماعية متكامِلة من إصابته بالخرف، وفقًا للعديد من الدراسات.
بل إن مجرد الوجود في هذا العالم الحديث — بما فيه من هواتف محمولة وتدفُّق دائم للمعلومات من الوسائط المتعددة — قد يكون أشد تحفيزًا للعقل مقارَنةً بخمسين عامًا مضَتْ، أو كما يقول ستيرن: «أصبحت الحياة الآن مستنزَفة معرفيًّا إلى حدٍّ كبير بالنسبة للجميع.»
لكن التحفيز العقلي ليس زادَ الدماغِ الأوحدَ؛ إذ توجد كذلك أنواع من الزاد الجسدي تأتي على هيئة أكسجين وطاقة ومغذيات ينقلها الدم. وقد أظهرت الأبحاث على الحيوانات أن الأوعية الدموية السليمة لا غنى عنها للحفاظ على مستوًى جيد من الأداء المعرفي مع تقدُّم العمر؛ إذ لا تُقلِّص خطر الإصابة بالخرف الوعائي فحسب بل كذلك بأنواع الخرف الأخرى. تقول براين: «من غير المنطقي ألَّا نعتقد أن للعوامل المرتبطة بالأوعية الدموية دورًا ما.»
قطعًا أخذت معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية في بلدان الغرب تنخفض منذ سبعينيات القرن العشرين، على الأرجح نتيجة لمزيج من العوامل؛ من ضمنها: تحسُّن الوعي بمخاطر التدخين، وارتفاع نسبة الكوليسترول، وأنماط الحياة التي تتطلب الجلوس كثيرًا، بجانب اتساع انتشار استخدام العقاقير التي تتحكم في ضغط الدم. كذلك قارَنَتْ إحدى الدراسات التي أشارت إلى انخفاض نِسَب الخرف — قبل الدراسة الأخيرة المنشورة في مجلة ذا لانسيت — بين تدفُّق الدم في دماغ الأفراد ونتائج التصوير بالرنين المغناطيسي، ووجدوا أن الأشخاص الأصغر سنًّا يتمتعون بأوعية دموية أكثر صحةً (دورية نيورولوجي، المجلد ٧٨، صفحة ١٤٥٦).
تقدِّم الاستراتيجية القومية للتعامُل مع الخرف في المملكة المتحدة النصيحةَ التالية: «ما ينفع القلب ينفع العقل.» والرسائل المتضمنة ليست بجديدة: تجنَّبِ التدخينَ، وحاوِل الحفاظَ على لياقتك، وتابِعْ مستويات ضغط الدم والكوليسترول لديك. لكن الأدلة الحديثة تشجِّعنا أكثر من أي وقت مضى على إيلاء الانتباه.
وعلاوةً على ذلك، تجلَّتْ مزايا التمرينات الرياضية لا في الدراسات القائمة على الملاحظة فحسب — حيث اتضح أن الأفراد الأكثر نشاطًا يقلُّ معدل إصابتهم بالخرف — بل كذلك في التجارب العشوائية؛ مما يقدِّم دليلًا من أفضل الأدلة. بعبارة أخرى، الأفراد الذين طُلِب منهم ممارسة المزيد من التمرينات الرياضية عانَوا من تدهور عقلي أقل مع تقدُّمهم في العمر.
رغم ذلك، يوجد عامل آخَر في غاية الأهمية يؤثِّر على صحة أوعيتنا الدموية، أَلَا وهو الأطعمة التي نتناولها. في بداية القرن العشرين كان سوء التغذية منتشرًا في المملكة المتحدة؛ فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى كان تقريبًا نصف الرجال الذين استُدعوا للخدمة العسكرية غير لائقين لهذا السبب. عانَى الناس من نقص الفيتامينات وغيرها من المغذيات الدقيقة بجانب نقصٍ عامٍّ في السعرات الحرارية.
لكن الأنظمة الغذائية تحسَّنَتْ بوضوح على مرِّ العقود اللاحقة بفضل ارتفاع مستويات الرخاء وتدابير الصحة العامة؛ مثل الوجبات المدرسية المجانية. ولحسن الحظ أصبح الآن سوء التغذية لدى الأطفال نادرًا في المملكة المتحدة، لكن هل نستطيع استخدام النظام الغذائي لتحسين صحة الدماغ وصولًا لمستويات أعلى؟
فوائد الأسماك
تُعتبَر الفيتامينات المضادة للتأكسُد مثل فيتامين ج وفيتامين ﻫ وفيتامين ب، وحمض الفوليك، والأحماض الدهنية أوميجا ٣ — التي توجد بغزارة في الأسماك — أكثر أنواع المغذيات الواعدة التي يُنصَح باستهدافها. لكن في الوقت الذي تشير فيه الدراسات القائمة على الملاحظة إلى أن تناوُلَ كميات أقل من اللازم من تلك المواد يزيد من خطر الإصابة بالخرف، فإن التجارب العشوائية التي بحثَتْ إضافةَ المزيد منها إلى النظام الغذائي — على هيئة مكمِّلات غذائية — لم تُظهِر أي فوائد؛ فلتلك التجارب تقييدات رغم كل شيء كما يذهب ريتشاردز، فالقليل منها يمتد لما يزيد عن بضعة سنوات، بينما «تتراكم تلك المكمِّلات الغذائية لدى الأفراد على مدار عقود.»
مع ذلك، يعزف معظم الباحثين عن التوصية بأي شيء سوى نصائح التغذية التقليدية لصحة القلب، أَلَا وهي الالتزام بحمية البحر المتوسط الغنية بالفواكه والخضروات، مع الإكثار من الأسماك وعدم الإكثار من اللحوم الحمراء أو الأطعمة المرتفعة السعرات العديمة القيمة الغذائية.
من ناحية أخرى، ينصبُّ جلُّ اهتمام الباحثين على الإسراف في الاستهلاك الغذائي، لا على نقص التغذية. فعلى عكس ممَّنْ وُلِدوا في النصف الأول من القرن العشرين، تشتهر الأجيال اللاحقة بما اكتسبته من زيادة في الوزن، واليوم يعاني الغرب من مستويات غير مسبوقة من مرض السكر، الذي يعرِّض الأفراد كذلك إلى الإصابة بالخرف، وفقًا للأبحاث الحديثة، بل إن البعض يصف مرض ألزهايمر بأنه نوع من «مرض السكر يصيب الدماغ».
وبما أنه لا أحد يعرف الإسهامات النسبية لكلِّ العوامل المحتمَلَة التي قد تُفسِّر سببَ انخفاض معدلات الخرف — النظام الغذائي، التعليم، الصحة — فمن المستحيل التنبُّؤ يقينًا بمعدلات المرض في المستقبل. مع ذلك من المرجح أن تؤثِّر الزيادة في السمنة ومرض السكر على الاتجاهات المستقبلية، وهو احتمال يتابعه الباحثون في مجال الخرف «بترقُّب قلق» على حدِّ وصف ريتشاردز.
يرى أشد الباحثين تشاؤمًا أن الزيادة السريعة في عاملَيِ الخطرِ المتلازِمَين هذين توجب علينا التوقُّف عن القول بانخفاض معدلات الخرف، بل القول بانخفاضها فحسب بين جيلين خاضعين للملاحظة. لتلك الأسباب — وبالنظر كذلك إلى زيادة أعمار الأفراد فحسب — لا بد أن تستعدَّ أنظمةُ الرعاية الصحية. تقول براين: «لا نزال في حاجة إلى مجتمع مهيَّأ للتأقلُم مع وجود عدد كبير من كبار السن، سواء المصابون بنوع من الاعتلال المعرفي أو غير المصابين به. ولا تزال هذه التوصية سارية حتى إن أشارت دراستنا إلى انخفاضٍ مرتبطٍ بسنٍّ معينة.»
قد يفسِّر ذلك سببَ التجاهل النسبي للدراستين الحديثتين المنشورتين في مجلة ذا لانسيت خلال المؤتمر الصحفي الذي انعقد في مؤتمر قمة الثماني الصحفي حول الخرف، والذي حضرتُه الشهر الماضي؛ إذ ربما تتسبَّب دراسات كتلك في إضعاف رسالة المؤتمر التي تدعو إلى الحاجة لمزيد من تمويل الأبحاث كمسألة ذات أولوية. بالتأكيد يعاني الخرف من تجاهل بحثي مقارَنةً بغيره من الأمراض، وذلك مقارَنةً بعدد الأفراد المصابين بها، ويُعتبَر الوعد الذي شهدته القمة بتوفير المزيد من التمويل أمرًا ضروريًّا.
مع ذلك تشير الدراسات الجديدة إلى أن البحث في مجال الإجراءات الوقائية قد يكون استثمارًا موفَّقًا. فعلى الرغم من أننا لا نستطيع اختيار زمن ومحل ميلادنا ولا آبائنا، فإننا نملك بالفعل قدرًا من التحكم في أسلوب حياتنا.
لم يتلقَّ جدِّي — الذي وُلِدَ عام ١٨٩٨ — أيَّ تعليم مدرسي تقريبًا، وحارَبَ في الحرب العالمية الأولى وتحمَّلَ قسوة الظروف أثناء الحرب العالمية الثانية. وُلِدْتُ أنا عام ١٩٧٧ وتلقَّيْتُ تعليمًا على مدار عقدين، وعشتُ حياة مريحة إلى حدٍّ كبير. ومن ناحية أخرى، بينما كان يكسب جدِّي قُوتَه من حفر القبور، أقضي يومي في العمل جالسًا معظم الوقت.
مع ذلك، منذ أن بدأتُ البحثَ اللازم لهذا المقال زادَ إحساسي بالتفاؤل حيال احتمالات تمتُّعي بحياة صحية ومستقلة في شيخوختي، وأحببتُ فكرة أنه باستطاعتي تحسين تلك الاحتمالات؛ فمؤخرًا بدأت أمشي — قدر المتاح — بدلًا من ركوب المترو، وأراعي تناول قدرٍ كافٍ من الأسماك والخضروات.
فمن وجهة نظري لا يتساوى أبدًا التدهور الجسدي جرَّاء تبعات نمط حياة غير صحي مع التدهور العقلي الأشد وطأةً.