(١) مقدمة
هيباتيا السكندرية هي أول عالمة رياضيات تتوافر لدينا عنها معرفةٌ مفصلة وأكيدة إلى حَدٍّ معقول. على الرُّغم من وفرة المواد المتاحة عنها، فإن معظم هذه المواد إما خيالية أو مُغْرِضة أو ليس لها مصادر أو خاطئة تمامًا. وأوجُه القصور هذه واضحةٌ، حتى في الأعمال التي قد نأمُل أن تكون جديرة بالثقة، على سبيل المثال، المادة المدرجة في «قاموس السيرة العلمية» . وحتى عند توافر معلومات أكثر حرصًا ودقةً ، يشعر المرء بالإحباط إزاء قلة المعلومات التي يتلقاها عن رياضيات هيباتيا.
هذا المقال سيوجِّه عناية القارئ إلى أفضل المصادر التي يسهُل الوصول إليها، وسيصف ما يُعرَف عن إسهامات هيباتيا في علم الرياضيات.
(٢) الخلفية التاريخية
نحو عام ٣٣٠ قبل الميلاد، غزا الإسكندر الأكبر شمال مصر، وأسَّس مدينة (الإسكندرية) في دلتا النيل من خلال أحد نوابه (بطليموس الأول سوتر). وسرعان ما أصبحت هذه المدينة مقرًّا لمتحف الإسكندرية، الذي كان بمنزلة معهد للتعليم العالي، وأشبه بجامعات العصور الوسطى التي جاءت بعده بحوالي ١٥٠٠ عام. كان إقليدس أحد «أساتذة» الرياضيات الأوائل (وربما أولهم على الإطلاق).
استمر المتحف لقرون عديدة. وفي سنة ٣٠ قبل الميلاد، استغلَّت الإمبراطورية الرومانية انتحار كليوباترا واحتلت الإسكندرية، لكن هذا الحدث لم يقضِ على تراث المدينة الإغريقي أو تقليدها الفكري. وفي السنوات التالية، بزغ نجم اثنين من أعظم أواخر علماء الرياضيات الإغريق في الإسكندرية. كان ديوفانتوس في أوْج نشاطه الفكري حوالي عام ٢٥٠ ميلاديًّا، وهي الفترة التي ألَّف فيها كتابه «علم الحساب». وبعد عدة أجيال، عمل بابوس (من ٣٠٠ تقريبًا إلى ٣٥٠ ميلاديًّا تقريبًا) في المتحف أيضًا.
كان ثيون السكندري — وهو عالم رياضيات لاحق — آخر شخص عُرف على وجه التأكيد بصلته بمتحف الإسكندرية. ونظرًا لأنه رصد حادثتَي كسوف شمسي وخسوف قمري، ونظرًا للإنجازات التي تُحسب له في عهد ثيودوسيوس الأول؛ يُعتقد أنه كان في أوج نشاطه في العقد ما بين عامي ٣٦٠ إلى ٣٧٠ ميلاديًّا. وكان ثيون على الأرجح آخر «رئيس» للمتحف. وكانت هيباتيا ابنته تنتمي للمدرسة الأفلاطونية المحدثة؛ وهي مؤسَّسة تعليمية أخرى.
كانت مدينة الإسكندرية في حوالي عام ٤٠٠ ميلاديًّا عبارةً عن خليط مضطرب من الثقافات. كان المسيحيون يمثلون الأغلبية، لكنهم كانوا منقسمين على أنفسهم، وكان ثمة أشخاص اعتبرهم المسيحيون «وثنيِّين»، وكانت هذه الفئة تشمل الكثيرين، بدءًا من المؤمنين بآلهة الأولمب، إلى المنتمين لمدراس مختلفة تتبع الفكر «الأفلاطوني المحدث». وعلاوة على هؤلاء كان يوجد أيضًا يهود وغنوصيون (عارفيون).
كانت الإمبراطورية الرومانية — التي كانت الإسكندرية جزءًا منها — تتعرض لضغط خارجي من الهون والقوط الغربيين؛ فانقسمت في عام ٣٩٥ إلى الإمبراطورية الغربية (ومقر حكمها روما) والإمبراطورية الشرقية (ومقر حكمها القسطنطينية). وكانت المسيحية هي الديانة الرسمية، وقد أُعلِنَ ذلك تحت حكم قسطنطين، لكن وقعت انتكاسات، وعلى وجه التحديد، حكم يوليان المرتد الإمبراطورية الموحَّدة في الفترة بين عامي ٣٦١ إلى ٣٦٣.
وفي الوقت الذي تُوفِّيَت فيه هيباتيا، كان أوريستيز واليًا على الإسكندرية، وكان مسيحيًّا متفهمًا للرؤى الأخرى، لكن سلطته كانت تواجه تحديًا من كيرلس (القديس كيرلس السكندري)، الذي لم يكُن يتمتع بالقدر نفسه من التسامُح، والذي تولى منصب الأسقف عام ٤١٢ ميلاديًّا. وكانت الانقسامات التي اكتنفت المدينة تُنذِر بالانفجار لتتحول إلى عنف طائفي، وكانت المكتبات العظيمة التابعة لمتحف الإسكندرية تتعرض للتدمير الواحدة تلو الأخرى. وقد احترقت آخر تلك المكتبات في عام ٣٩٢ عندما اضطرمت النيران في معبد سيرابيس خلال أحداث شغب. وقد أُزهقت روح هيباتيا في اضطرابات مماثلة في العقد الثاني من القرن الخامس الميلادي، فقُتلت دون محاكمة على يد مجموعة من المسيحين الغوغاء ومُزِّقَت إرْبًا بوحشية.
عقب ذلك — وعلى الأرجح بسببه — انتقل زخم فكر وتعليم المدرسة الأفلاطونية المحدَثة من الإسكندرية إلى أثينا. وهنا يجدر بنا أن نذكر ثلاثة أسماء؛ أولًا: بروكلوس (٤١٠ تقريبًا–٤٨٥)، كان آخر أعظم علماء الرياضيات الباقين من الحضارة الإغريقية، وكان يتردد على المدرسة الأفلاطونية المحدَثة في أثينا، وأهم ما يُذكر عنه هو شرحه للكتاب الأول من مجموعة أبحاث ورسائل إقليدس التي تحمل عنوان «الأصول». وبعد بروكلوس ظهر إيزيدورس وتلميذه دماشوس (وكلاهما فيلسوف أكثر منه عالم رياضيات، على الرغم من أن الأخير قد تكون له أحقِّيَّة في احتلال مكانة في تاريخ الرياضيات. ). في عام ٥٢٩، أغلق الإمبراطور جستينيان — والذي فرض المسيحية ديانة رسمية للدولة — المدرسة الأفلاطونية المحدَثة، ونُفي دماشوس إلى بلاد فارس.
(٣) المصادر الأولية
وصلت أقدم الروايات عن هيباتيا إلينا، إما من الموسوعة البيزنطية المسماة «سودا»، أو من كتابات الكنيسة المسيحية الأولى. وللاطِّلاع على وصف يسهُل الوصول إليه لهذه الكتابات، وللحصول على تفاصيل أكثر من التي أقدِّمها هنا؛ انظر مولر .
وموسوعة سودا — باختصار — هي موسوعة ترجع إلى القرن العاشر، مُرتَّبة ترتيبًا أبجديًّا، وتستند إلى مصادر أقدم. في حالة هيباتيا، هذه المصادر معروفة جزئيًّا (وأحد هذه المصادر عمل مفقود حاليًّا، وهو: «إطلالة على حياة إيزيدورس» من تأليف دماشوس). المادة المتعلِّقة بهيباتيا في الموسوعة طويلة على نحو غير معتاد، لكنها لا تُعتبر موثوقة من كل الجوانب ، وفي الواقع، الكلام المذكور يناقض نفسه في بعض المواضع.
ويمكن إيجاد المصادر الأخرى بوجه عامٍّ في المؤلف الأساسي في مجموعة من الوثائق معروفة باسم «تعاليم آباء الكنيسة الأوائل الكاملة: سلسلة إغريقية». وهذا المصدر يقدم روايات أقدم (خاصة عن موتها) من تلك الموجودة في موسوعة سودا، وتحفظ كذلك خطابات لها وعنها مكتوبة بيد أحد تلامذتها، سينيسيوس القوريني. وثمة خطاب آخر كتبه سينيسيوس كذلك، ونُشر كمستند منفصل مرفق بمستندات أخرى في ترجمة فيتزجيرالد .
(٤) حياتها وأسطورتها
من بين كافة أحداث حياتها، حظي موت هيباتيا والطريقة التي ماتت بها بأفضل تسجيل؛ إذ تُخبِرنَا الرواية الكاملة للحدث بأن حشدًا من المسيحيين المتعصبين بقيادة بطرس القارئ أمسكوا بها، وجرَّدوها من ملابسها، وأخذوا يمزقون أوصالها، ثم حرقوا أشلاءها. وتقول رواية أخرى إنهم حرقوها حية، إلا أن هذه الرواية تبدو أقل دقةً.
ولطالما كانت الخلفية السياسية لهذا الحادث مثارًا لكثير من التنظير. فليس جيبون وحده من ينسب جُرم قتل هيباتيا إلى كيرلس، لكن ريست يعارض هذا الرأي، وهو ما يعني رفضه لما ورد في موسوعة سودا. ورواية ريست تزعم في جوهرها أن ذاك الحشد من المسيحيين لم يُمسك بهيباتيا بشكل انتقائي على الإطلاق، بل أمسك بها لأنها شخصية عامَّة ذائعة الصيت، تبرز على الجانب الآخر من حالة انقسام ديني، شأن ضحايا العنف في بلفاست أو بيروت في عصرنا الحديث. وهذا في رأيي يتفق مع العبارة التي اقتبسها جيبون، والتي تعني بوجه عام أن هيباتيا قد قُتلت بسبب قدراتها الفائقة. لسنا بحاجة إلى افتراض وجود شعور خاص بالغيرة لنقول هذا، علاوة على أن ريست يعتقد أنه ليس من المرجح أن تكون الاختلافات البسيطة في العقيدة هي التي أدَّت إلى مقتلها. وقد درس ريست فكرة أن تكون جهودها في علم الرياضيات كانت سببًا جزئيًّا في مقتلها؛ دراسة عابرة، مفترضًا أن هذه الجهود كانت تتضمن التنجيم. وهذا — في رأيي — يضعنا على طريقٍ لا يوجد ما يدفعنا لأن نسلكه.
في وقتنا الحالي، أصبح ثمَّة اتفاقٌ عامٌّ على أن تاريخ وفاة هيباتيا هو عام ٤١٥، رغم طرح بعض الاحتمالات الأخرى. انظر مولر لمزيد من التفاصيل.
أما تاريخ ميلادها فليس مؤكدًا، (وهذا أمر متوقَّع؛ لأن الناس بشكل عام لا يكونون مشاهير عند ميلادهم). ترجع حادثتا الكسوف والخسوف اللتان رصدهما ثيون والد هيباتيا إلى عام ٣٦٤. إذن؛ فإن ثمة ٥١ عامًا تفصل بين حادثتي الكسوف والخسوف ووفاة هيباتيا. قدَّر فالسيوس — أحد أوائل شارحي «تعاليم آباء الكنيسة الأوائل الكاملة: سلسلة إغريقية»، والذي أخطأ في تاريخ حادثتي الكسوف والخسوف — المدة الفاصلة بين الحادثتين وحادث وفاة هيباتيا ﺑ ٤٧ عامًا، وبتقريب الرقمين إلى ٤٥ عامًا يكون التاريخ الذي بين يدينا هو ٣٧٠ ميلاديًّا تقريبًا؛ وهو التاريخ المتَّفق عليه بوجه عام. وبعيدًا عن التنجيم، بالطبع لا يوجد سبب واقعي لافتراض أن ميلاد هيباتيا تزامَن مع الحادثتين، ولا نعرف كم كان عمر ثيون (ولا عمر زوجته وهو الأهم) في عام ٣٦٤ ميلاديًّا. (وأنا أميل إلى الاتفاق مع مولر في أن التاريخ الأكثر منطقية هو عام ٣٥٠ ميلاديًّا.)
وفيما يتعلق بحياتها بين هذه التواريخ غير المؤكدة، فيمكننا أن نلخصها بسهولة. كانت هيباتيا معلِّمة بارزة تحظى بالاحترام، وكانت تتمتع بكاريزما ومحبوبةً بين تلاميذها (وسينيسيوس مثال على ذلك). وتتوافر لدينا دلائل على أنها كانت جميلة على المستوى المادي، وأنها كانت ترتدي رداءً أكاديميًّا مميَّزًا، وكانت تُدرِّس الرياضيات والفلسفة، كما أنها كانت تُلقي محاضرات عامة، وربما شغلت منصبًا عامًّا من نوع ما.
ويبدو أنها كانت مُصرَّة على عدم الزواج، وقد رفضت في الواقع أحد خطَّابها المصرِّين، فأبرزت له واحدة من أقمشة الحيض المستعملة خاصتها، ولقنته درسًا في الطبيعة المخزية والمدنسة لما كان يظن أنه شيء جميل (المهبل).
وعلى الرغم من أن كل المصادر الأولية تقريبًا مسيحية، وتطلعنا على حياة مؤيدة بارزة لفلسفة معادية للمسيحية وموتها (بأيادٍ مسيحية)، فإنها روت القصة بطريقة تركت لدينا انطباعًا طيبًا عن هيباتيا. وتفسيري لهذا الأمر هو أن الحرب الرسمية التي شنتها سلطات الكنيسة ونظراؤها المدنيون (المسيحيون) على تعاليم هيباتيا لم تؤدِّ دورَها كما ينبغي بالمرة.
وهذا الانطباع الطيب بلا شك ألهم أعمالًا أدبية متنوعة، ومن أشهرها في اللغة الإنجليزية رواية كينجزلي وتلك الفقرة الواردة في كتاب المؤرخ جيبون. ومن الأعمال الروائية كذلك رواية هوبارد لقصة هيباتيا . وقد احتلت قصتها فصلًا في كتاب نصوص مختارة شهير صدر في أوائل هذا القرن، والذي قدَّم لنا «اللوحة» الأوسع انتشارًا لهيباتيا، التي تُنسب إلى فنان يُدْعَى جاسبارو، والذي لم أستطع التوصل لأي معلومات عنه. (وهذه اللوحات بالطبع تتمتع بذات المصداقية التي تتمتع بها — على سبيل المثال — رسوم دوريه للإنجيل).
(٥) فلسفة هيباتيا
من المعروف أن الفلسفة التي كانت تُدرِّسها هيباتيا هي الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة. وقد كانت توجد نسخ عديدة مختلفة من الأفلاطونية المحدثة، والتي أضفت كل منها بعدًا دينيًّا واضحًا على نظرية الأشكال لأفلاطون. ويصف ريتشسون فلسفة هيباتيا بأنها واحدة من هذه النظم الفلسفية، فيما يرجِّح ريست أن هيباتيا كانت تدرِّس مجموعة مختلفة.
يعطي ريتشسون ملاحظة متعمِّقة على العلاقة بين الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة وعلم الرياضيات. فالرياضيات ذات طبيعة مجرَّدة، حيث تستنتج «الأفكار» من الأشياء المادية؛ ومن ثَمَّ فإن الهندسة — على الرغم من أن أصولها تعود إلى عالم مسَّاحي الأراضي التطبيقي ومفتشي الأوزان والمقاييس — فإنها تسمو فوق هذه البدايات. فنجد كتاب «الأصول» لإقليدس يتناول عالمًا لم يَعُدْ عالمًا واقعيًّا، وإنما عالم من الأفكار. ومن ثَمَّ يمكن اعتبار الرياضيات نموذجًا لهذا السُّمُوِّ على عالم المادة الذي تدعو إليه الأفلاطونية المحدثة.
(٦) رياضيات هيباتيا
لا ريب أن هيباتيا كانت عالمة رياضيات. ويخبرنا كتاب «تعاليم آباء الكنيسة الأوائل» بأنها تعلَّمت الرياضيات من أبيها ثيون، وواصلت طريقها لتتفوَّق عليه في هذه المادة وتُدرسها للعديد من الطلاب. وثمة مصدر آخر كهذا أكثر انتقادًا يقول: «لقد تفوَّق إيزيدورس على هيباتيا إلى حَدٍّ كبير، ليس فقط لأنه رجل وهي امرأة، وإنما تفوَّق عليها كما لا بد لفيلسوف عبقري أن يتفوق على مجرد مختصة بعلم الهندسة.» هذا الرأي — الذي لن يلقى قبولًا من النساء أو من علماء الرياضيات — يُعتقد أن مصدره هو حياة إيزيدورس التي كتبها دماشوس، وهو العمل المفقود الذي أثرى موسوعة سودا جزئيًّا. (ويعقب مارو — اقتداءً بتانري — على هذا الكلام تعقيبًا ممتعًا؛ إذ يقول: «هذا يعني صراحة أن إيزيدورس لم يكن يفقه شيئًا في الرياضيات.»)
مع ذلك، تسرد موسوعة سودا نفسها أعمال هيباتيا الرياضية سردًا وافيًا؛ حيث تنسب لها تأليف ثلاثة أعمال. والكتابات الوحيدة التي من المعروف أنها هي مؤلفتها تتناول جميعًا إمَّا علم الرياضيات أو علم الفلك. لكن لم يرِدْ ذكر لأي من كتب الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، التي يعتقد كثيرون أنها لا بد وأن تكون من تأليف هيباتيا. وقد نسب آخرون (مثل كريمر ) لها أعمالًا أخرى في الرياضيات. لكن لا يوجد دليل على هذا، باستثناء مثال واحد محدَّد سنتعرض له فيما يلي. لا تتعدى الفقرة المتعلقة بهذا الصدد في موسوعة سودا اثنتي عشرة كلمة، وحتى هذا المقطع القصير يُعَدُّ موضوعًا لقراءات بديلة وخلافية متنوعة. ومع ذلك، ثمة إجماع عام على أن تانري كان محقًّا في اعتبار الأمر كالتالي: «لقد كتبت شروحًا لديوفانتوس، و[شرحًا واحدًا في] القانون الفلكي، علاوة على شرح لكتاب «القطوع المخروطية» لأبولونيوس.»
كانت «الشروح» قديمًا هي ما نسميه الآن «النسخ» (مع الاختلاف الواضح المتمثل في أنها كانت لا بد وأن تُنسَخ باليد)، ومؤلف «الشرح» ربما يُفضل الإشارة له ﺑ «المحرر». ومع ذلك، فقد قدَّم مثل هؤلاء «المحررين» أو «الشارحين» مادة جديدة بصور مختلفة (إلى حَدٍّ كبير أو بشكل محدود، وقد تباينت درجة حرصهم على تمييز إسهاماتهم الخاصة عن الأعمال الأصلية) (انظر ملاحظة فيرما الشهيرة على هامش كتاب ديوفانتوس). وينبغي ملاحظة أنه في العديد من الحالات وصلت إلينا النصوص الأصلية من خلال الشروح أو الترجمات (والتي غالبًا ما كانت إلى اللغة العربية).
كان ثيون — والد هيباتيا — كاتب شروح غزير الإنتاج. وقد كتب شرحًا لكتاب «الأصول» (لا يزال مصدرًا لنص الكتاب الذي بين أيدينا في الوقت الحالي، في كثير من المواضع)، بالإضافة إلى شرحه لعملين آخرين من تأليف إقليدس، وهما «البيانات» و«علم البصريات»، وشرحه لعملين من تأليف بطليموس: «المجسطي» و«الجداول الفلكية». كما كانت هناك أعمال أخرى مفقودة الآن أو ثمة أجزاء مفقودة منها، ومن بين هذه الأعمال وثيقة الصلة للغاية بموضوعنا هذا هو عمل عن الأسطرلاب. للاطِّلاع على هذا الموضوع وغيره، انظر تومر .
إن الصورة التي تتبدى لنا عن ثيون هي صورة محرر ومعلم ومؤلِّف كتب، وليست صورة باحث في علم الرياضيات. هكذا حُكِم عليه، غالبًا بنبرة استنكار قوية. لكن هذا لا يعني بالتأكيد أنه أهدر حياته هباءً؛ فقد حُفِظَت أعماله، ربما لإدراك أن لها قيمةً خالدة. الأمر برُمَّته مفهوم بوضوح؛ فبالنظر إلى الأحوال السياسية في الإسكندرية في أواخر القرن الرابع وتدهوُر أحوال المتحف، حل إعطاء الأولوية للحفاظ على المعرفة محل التركيز على الأبحاث (الذي كان ممكنًا في عصر بابوس).
بعد تناول أعمال هيباتيا بالتسلسل، سوف أطرح فرضية تقول بأن هيباتيا — في أولوياتها العلمية — كانت تشابه أبيها إلى حَدٍّ كبير. وهذا — كما أتمنى أن أكون قد أوضحت للتو — ليس بهدف التقليل من شأنها.
(٧) «القطوع المخروطية» لأبولونيوس
عاش أبولونيوس نحو عام ٢٠٠ قبل الميلاد، ويعد كتاب «القطوع المخروطية» هو أهم أعماله الباقية عل الإطلاق. للاطِّلاع على مزيد من التفاصيل، انظر وصف تومر . ثمة قليل من المصادر للنص الحالي الموجود بين أيدينا ليس من بينها شرح هيباتيا للكتاب. ومن بين الكتب الثمانية التي تشكل عمل «القطوع المخروطية»، حُفِظَت الكتب الأربعة الأولى من خلال شرح يوتوشيس لها، في حين أن ثلاثة من الكتب الأربعة الباقية وصلت إلينا عبر ترجماتها العربية. أما الكتاب الأخير فهو مفقود، شأنه — كما تقود الاستنتاجات — شأن شروح هيباتيا، إلا إذا كان الكتاب الأخير المفقود هو النسخة الأصلية المفقودة من عمل يوتوشيس.
(٨) القوانين الفلكية
فيما يتعلق ﺑ «القوانين الفلكية»، فإن الوضع أفضل إلى حَدٍّ كبير. يُعتَقد الآن بوجه عامٍّ أن الإضافة التي أدرجها تانري (الكلمات المذكورة بين الأقواس في الجزء رقم ٦) في المادة الواردة في موسوعة سودا صحيحة. وهذا يعني أن هذا العمل أيضًا كان شرحًا، والعمل الأصلي لهذا الشرح على الأرجح هو أحد أعمال بطليموس، إما «المجسطي» أو «الجداول الفلكية». وسيُذكَر أن ثيون قد كتب شروحًا لكلٍّ من هذين العملين.
طُبِعت شروح ثيون لكتاب «المجسطي» في إصدارات مختلفة؛ أفضلها وأحدثها قدمه إيه روم . يتضمن هذا الكتاب شروحًا منفصلة للكتب الثلاثة عشر المكوِّنة لأطروحة «المجسطي». الكتابة المنقوشة في موضع عنوان الكتاب (كما وصفها روم من خلال دراسته للمخطوطات) في الكتابين الأول والثاني تنسبان هذه الأعمال إلى ثيون نفسه، أما الكتب من ٤ إلى ١٣ فلا تتضمن أي نقوش. أفضل المخطوطات وحدها هي التي تتضمَّن شرحًا للكتاب الثالث، والنقوش في هذه المخطوطات تخبرنا بأن هذا عمل ثيون الذي يحمل عنوان: «مراجعة لشرح ابنتي الفيلسوفة هيباتيا».
في نقده لعمل روم، نسب هيث هذا الفصل من الشرح إلى هيباتيا، مع استنتاج أن هذا هو العمل المشار إليه في موسوعة سودا، وأن ثيون (الذي تبيَّن له أن عمل ابنته قد تفوَّق على عمله) قد طمَسَ جهوده السابقة لصالح جهود ابنته. (الأمر المؤسف من وجهة نظرنا هو أننا لا نملك كلتا النسختين أمامنا؛ ومن ثَمَّ لا يمكننا أن نرى بأنفسنا أين أو كيف أو إلى أي مدى اختلف عمل هيباتيا عن عمل ثيون.) ويناقش روم هذا الأمر باستفاضة كبيرة في عمله اللاحق ، لكنه ناقشه بطريقة لا تستبعد احتمالية دُرِسَت بدقة، وهي أن الأب وابنته قد تعاونا معًا.
ومن جانبه، يقبل نويجباور بإمكانية صحة هذا الاحتمال، إلا أنه يعتبر أنه من المحتمل أن ما أشارت إليه موسوعة سودا ليس شرحًا لكتاب «المجسطي» على الإطلاق، وإنما شرحًا لكتاب «الجداول الفلكية»؛ هذا لأن الكلمة ذاتها (القوانين) مستخدمة للإشارة لكلا العملين. (لاحظ ديلومبر في وقت سابق هذا التطابق في الصياغة، لكن نظرًا لأن عمله يسبق إضافة تانري المقترحة، فإنه ينسب مجموعة من الجداول الفلكية لهيباتيا.) إذا كانت موسوعة سودا تشير إلى شروح لكتاب «المجسطي» — وبهذا يستمر الجدل — فإنها تتحدث عن «المجموع الرياضي» وليس «القوانين». (التسمية الإغريقية للعمل هي Syntaxis، لكننا نعرفه الآن بتسميته العربية: «المجموع الرياضي»). ومع ذلك، يتعارض كل هذا الجدل مع قاعدة تقبل أبسط الافتراضات وحقيقة أن الكتاب الثالث من «المجسطي» مُترَع بالجداول.
(٩) «علم الحساب» لديوفانتوس
قد تكون لدينا بعض من كتابات هيباتيا من شرح ديوفانتوس. يُعَدُّ كتاب «علم الحساب» أعظم أعمال ديوفانتوس، وهو يتكوَّن في الأساس من ١٣ كتابًا. من بين هذه الكتب الثلاثة عشر، ستة كتب فقط هي المتبقية الآن من الإغريقية، وربما جزء من كتاب آخر، يعد الآن كتابًا منفصلًا، وهو «الأعداد المضلعة». يرجح تانري أن كافة المخطوطات الموجودة التي يعرفها مأخوذةٌ من مصدر مشترك، وأن هذا المصدر المشترك هو شرح هيباتيا. وقد أُجري تعديل على أحد تفاصيل «شجرة عائلة» المخطوطات الدقيقة، التي رسمها تانري في وقت لاحق، وظهرت بشكلها المُعدَّل في نسخة هيث . وكان ثمة افتراض يقول إن الكتب من ٧ إلى ١٣ قد فُقِدت؛ لأن شرح هيباتيا لم يتضمنها، مثلما لم يشمل شرح يوتوشيس سوى الكتب الأربعة الأولى من «القطوع المخروطية». وقد حازت هذه الفرضية على الكثير من الدعم، كما تتفق مع المادة التي كتبها فوجل عن ديوفانتوس في قاموس السيرة العلمية.
يرجع أساس هذه النظرية إلى النص الإغريقي وحقيقة أن الإشارة الواردة في موسوعة سودا إلى شرح هيباتيا هي الذِّكر الوحيد لهذه النسخة العتيقة. ومع ذلك يُبدي سيسيانو شكوكه حول هذه الرواية. إن هذه المسألة مَثَارٌ لجدل كبير. وسوف نقدِّم النظرية القديمة أولًا، لكن انظر الملاحظات الواردة في نهاية هذا الجزء.
وفقًا للرواية القديمة، يَدين عالم الرياضيات المعاصر لهيباتيا بدين كبير؛ إذ إنه لولاها لكانت أعمال ديوفانتوس التي بين أيدينا الآن أقل كثيرًا. لكن ثمة نتيجة واضحة ههنا، فإذا كان ما وصل إلينا هو شرح هيباتيا؛ فإن بعضًا من أعمالها قد تظهر فيه. وربما يكون من الممكن رؤية ماهية أعمالها. وهنا ينكشف لنا أمر معقد، ألا وهو الاعتقاد بأن أحد المحررين اللاحقين حاول إعادة صياغة نص ديوفانتوس الأصلي، ومن ثَمَّ يُعتقد أنه حذف على نحو منظم مادة اعتبرها مقحمة على النص. لكن «نظرًا لصعوبة تمييز الفارق بين النص الأصلي والشرح، فقد ضمَّن المحرر جزءًا كبيرًا كان من الأحرى أن يُحذف».
ووفقًا لهذا، فمن بين الإضافات التي يغلب الظن أن هيباتيا هي من كتبتها هي «تمرينان للطلاب» موجودان في بداية الكتاب الثاني. التمرين الأول يطلب إيجاد حل لزوج من المعادلات الآنية:
حيث a و b قيمتان معروفتان. أما التمرين الثاني فهو تعميم ثانوي، ويطلب إيجاد حل للمعادلتين الآنيتين:
حيث a و b وm قيم معروفة. وثمة بعض أدلة على ربط هذه المسألة بهيباتيا، ألا وهي عبارة مكوَّنة من تسع كلمات في النص الإغريقي الأصلي، والتي تتطابق مع عبارة مذكورة في كتاب «البيانات» لإقليدس، الذي نقَّحه والدها.
وتشير أعمال حديثة بيد كل من رشدي راشد وسيسيانو وآخرين أن بعضًا من كتب ديوفانتوس المفقودة هي في الواقع باقية في ترجماتها العربية. وقد أثار هذا جدلًا كبيرًا ومريرًا بحق، ونقطة الخلاف (بعيدًا عن الخصومات الشخصية التي ينطوي عليها الأمر) هي ما إذا كان ديوفانتوس أو شخص آخر هو الذي كتب الأعمال التي اكتُشفت حديثًا، وأين يقع ترتيب هذه الأعمال في العمل الذي سبق نشره. ويميل سيسيانو وآخرون إلى وجهة النظر القائلة إنه إذا كان ثَمَّةَ ما تبقَّى من شروح هيباتيا، فإنها باقية باللغة العربية. لكن لا توجد مؤشِّرات واضحة تدل على ما يميز أعمالها أو أعمال ديوفانتوس أو أعمال شارحين آخرين. يعارض راشد بشدة العديد من الاستنتاجات التي خلص إليها سيسيانو. مع ذلك، تميل حالات الإسناد غير المؤكَّد لبعض المواد إلى هيباتيا إلى إقرار التقييم الإجمالي الذي توصَّلنا إليه أعلاه، وهو أن إسهاماتها في علم الرياضيات في حَدِّ ذاته كانت ضئيلة، أو أنه لا إسهامات لها من الأساس.
(١٠) الأسطرلاب
المصدر الآخر للمعلومات حول أنشطة هيباتيا في علم الرياضيات هو خطابات سينيسيوس.
ثمة إشارة وجيزة — لكن مهمة — إلى هيباتيا في رسالته الإنشائية التي تحمل عنوان «هدية الأسطرلاب». وكانت كلمة «أسطرلاب» تستخدم للإشارة إلى مجموعة متنوعة من الأدوات. لإطلالة وافية على آخر التطوُّرات، انظر ، وقد قدم نويجباور وصفًا للأدوات الأقدم. أخرجت لنا محاولة بسيطة لاستنساخ حركات الأجرام السماوية في نموذج ميكانيكي أداة تُعرف باسم «ذات الحلق»؛ وهي أداة ثلاثية الأبعاد وضخمة، وأكثر ملاءمة لأغراض العرض منها للاستخدام كأداة عملية للمراقبة والحساب. ومع ذلك، ما إن باتت لدينا نظرية عن الإسقاط الاستريوجرافي، أصبح المجال مفتوحًا لإنشاء أداة ثنائية الأبعاد أكثر عملية. كان بطليموس هو من طرح هذه النظرية في مؤلَّفه «قبة الفلك»، الذي يتضمن مادة مجدولة أيضًا. ومسألة ما إذا كان بطليموس قد واصل عمله لتطوير «الأسطرلاب الصغير» (أي الأداة العملية) هي مسألة تثير الجدل. يرى نويجباور أنه من المحتمل أن يكون بطليموس قد فعل ذلك.
الشخصية البارزة التالية هو ثيون. توفي بطليموس حوالي عام ١٧٠ قبل الميلاد، أي قبل حوالي قرنين من فترة نشاط ثيون. كتب ثيون — كما سبق أن ذكرنا — شروحًا لكتابي «المجسطي» و«الجداول الفلكية». وتَنسِب له موسوعة سودا كذلك أطروحة عن الأسطرلاب الصغير، وتشير المصادر العربية — إضافة لذلك — إلى عمل له حول آلة ذات الحلق. وهذه المجموعة تتطابق تمامًا مع مجموعة الأعمال التي نسبها العرب إلى بطليموس. هكذا ثمة أدلة كثيرة على أن ثيون كان ملمًّا بنظرية الأسطرلاب الصغير، وقد نفترض أن ثيون هو مخترع هذه الآلة، لكن الصورة التي وصلت إلينا عن ثيون إنما هي صورة ناشر للمعرفة وحافظ لها، وليست صورة مخترع. علاوة على ذلك، قدم لنا نويجباور أسسًا نبني عليها اعتقادنا بأن بطليموس هو مخترع الأسطرلاب.
على الرغم من أن العمل الذي ألفه ثيون عن الأسطرلاب يعتبر اليوم في عداد الأعمال المفقودة، يجد نويجباور أوجُه تشابه بين أعمال لاحقة تدل على أنها حتمًا مستقاة من مصدر مشترك. ويعتقد نويجباور أن هذا المصدر هو ثيون. ويمضي نويجباور في جداله ليقول إن ما كتبه ثيون كان شرحًا لكتاب سابق من تأليف بطليموس؛ (وذلك نظرًا للتطابق التام الموصوف أعلاه).
يلقي هذا الضوء على خلفية خطاب سينيسيوس، «هدية الأسطرلاب». ففي خطابه لبايونوس، يصرح سينيسيوس أنه صمَّم الأسطرلاب بنفسه بمساعدة هيباتيا، واستعان بأفضل صائغي الفضة لتصنيعه. نستنتج من ذلك أن نظرية الأسطرلاب وتفاصيل تصنيعه قد انتقلت من بطليموس عبر ثيون إلى هيباتيا التي قامت بدورها بتعليم سينيسيوس.
(١١) الهيدروسكوب
بدأ خطاب سينيسيوس الخامس عشر بالآتي: «لقد توصلت إلى أنه من الضروري أن أحصل على هيدروسكوب.» ويستكمل سينيسيوس خطابه طالبًا من هيباتيا أن تصنع له هيدروسكوب بمواصفات مفصَّلة بدقة. ومسألة احتياج سينيسيوس الضروري مثيرة للحيرة، لكن الافتراض العام هو أنه كان مريضًا.
إن مصطلح «هيدروسكوب» عادةً ما يشير ضمنًا إلى الساعة المائية، لكن هذا على ما يبدو ترجمة غير مناسبة في هذه الحالة. فلِمَ قد يكون سينيسيوس في مثل هذه الحاجة الماسَّة إلى ساعة مائية، حتى ولو كان في حالة إعياء شديدة؟ يعتقد فيتزجيرالد أن فيرما (أعمال فيرما) [3] مُحِقٌّ في ترجيح أن ما كان سينيسيوس في حاجة إليه هو «هيدرومتر» أو مقياس الكثافة. هذا يجعل المواصفات — التي تشير إلى الحاجة إلى قياس وزن الماء (مع العلم أن الساعة المائية تقيس الحجم) — أكثر منطقية وتصف أداة تبدو قريبة الشبه بالهيدرومتر.
على الأرجح كان سينيسيوس في حاجة إلى الهيدرومتر في مرضه لقياس الدواء الذي كان يتناوله بطريقة أو بأخرى (أو لقياس درجة المُلُوحة في مياه الشرب الخاصة به، وهو احتمال أقل منطقية). يستخدم الهيدرومتر الآن — كما كان من قبلُ على الأرجح — لقياس مستويات الكحول في السوائل المختمرة أو المقطرة. ويحتمل أن سينيسيوس كان يُعِدُّ دواءه الخاص باستخدام بعض من هذه الوسائل. وقد طرح زميلي وصديقي تشارلز هانتر (من قسم التشريح بجامعة موناش) رأيًا جديدًا يعتقد بأن «الهيدروسكوب» كان مقياسًا لكثافة البول، وأن جرعات الأدوية المُدِرَّة للبول كانت تُقاس بالرجوع إلى الكثافة النوعية للبول.
(١٢) التقييم
إننا لا نعرف عن هيباتيا سوى أقل القليل، وما نعرفه عن إسهاماتها في علم الرياضيات ليس سوى جزء ضئيل من القليل الذي نعرفه. ثمة دلائل على أنها كانت تحظى باحترام كبير كمعلِّمة وعالمة، وكان خبراتها التي تحظى بالتقدير واسعة ومتنوعة. لقد نقحت هيباتيا أعمالًا في علم الهندسة، والجبر، وعلم الفلك، وكانت تعرف كيف تصنع الأسطرلاب والهيدروسكوب، والكثير إلى جانب ذلك. ولا يملك المرء سوى الانبهار بهذا النطاق المتسع من الاهتمامات. علاوة على ذلك، في الوقت الذي ماتت فيه (مفترضين مثل تومر [28] أن ثيون مات قبلها)، كانت هيباتيا في الواقع أعظم عالمة رياضيات في العالم الروماني الإغريقي آنذاك، وربما في العالم أجمع.
تنوعت الأوصاف التي حظيت بها هيباتيا بين فيلسوفة ومعلمة فلسفة وعالمة رياضيات وعالمة فلك وامرأة مثقفة ومتخصصة في علم الهندسة.
يمكننا أن نفهم كلمة «فيلسوف» بمعنيين؛ فهي تنطوي على ذلك المعنى الفني الذي لا تزال تحتفظ به حتى يومنا هذا، علاوة على معناها العمومي وهو «المفكر». ويوصف ثيون كذلك في المصادر بالفيلسوف، لكن قطعًا هذا بالمعنى الفني للكلمة؛ إذ إن ثيون يظهر بوضوح كعالم رياضيات وفلك متخصص، وهو ما تذهب إليه موسوعة سودا، في حين أن هيباتيا لم تظهر بهذه الصورة (إلا إذا أعطينا وزنًا للاقتباس الوارد في الجزء السادس المذكور أعلاه)، وتجتهد موسوعة سودا بشدة لتوضيح هذا الأمر. «لقد اشتغلت أيضًا بأفرع من الفلسفة [غير مرتبطة بالرياضيات]، وعلى الرغم من كونها امرأة، فقد ارتدت [لباسًا أكاديميًّا] وظهرت في مركز المدينة.» (ترجمة ريست)، ثم تواصل موسوعة سودا وصف الفلسفة التي كانت تدرسها هيباتيا، آتيةً على ذكر أعمال أفلاطون وأرسطو، على وجه الخصوص.
مع ذلك، إذا ركزنا تفكيرنا على الرياضيات دون غيرها، فقد نتشكك في ذلك الرأي المعتاد الذي يزعم أن هيباتيا تفوقت على والدها. ومصدر هذا الرأي هو كتاب «تعاليم آباء الكنيسة الأوائل»، وتكرره المصادر الحديثة بانتظام دونما نقد. وقد نخلص كذلك إلى الرأي نفسه من خلال العنوان الذي أعطاه ثيون لشرحه للكتاب الثالث من «المجسطي».
رغم ذلك، قد نعارض هذا الرأي ونجادل بنقيضه؛ أي إن تقدير أبٍ محبٍّ ودعمَه لتنقيح ابنته لأحد أعماله أمر طبيعي إلى حَدٍّ بعيد. وبالمثل، احتمالية أن المؤرخين الكنسيين الذين لا نملك دليلًا على قدراتهم في علم الرياضيات يعتبرون الشهرة — أو حتى سوء السمعة — مؤشرًا على الموهبة، هو أمرٌ مقبول أيضًا. لكن هذا لا ينهي هذا الجدل.
في حين أنه من المبالغة — بالطبع — أن نفترض نظرية كونية للانتخاب الطبيعي للأعمال العلمية، (إذ إنه ليس صحيحًا على الإطلاق أنَّ أفضل الأعمال هي التي تخلد «دائمًا»)؛ فإن العلماء في العصور السابقة كانوا يحافظون على الأعمال التي كانوا يرونها قيمة ويترجمونها ويدرِّسون منها، مثلما نفعل تمامًا في يومنا هذا. في الواقع، لدينا فكرة عن مبدأ الانتخاب الطبيعي المؤثر في هذا الصدد؛ فنظرًا لأن الاهتمام قد انتقل من البحث إلى حفظ المعرفة، فقد ركزت عملية الحفظ على الأعمال التي كانت تعتبر كتبًا دراسية ، والعديد من الأعمال البحثية التي وضعت في تلك الفترة فُقدت.
ليست لدينا أي أدلة على إجراء الأب أو ابنته لأي أبحاث في علم الرياضيات، وما يمكننا إحياؤه من أعمالهما الرياضية يرجح أنهما نقَّحا أعمال آخرين، وحفظاها ودَرَّسا منها، وأَلحقا بها ملحقات ثانوية. وقد بقي جزء كبير من أعمال ثيون، في حين لم يبقَ سوى جزء ضئيل من أعمال هيباتيا. بعبارة أخرى، كان ثيون يعتبر أفضل من ابنته في كتابة النصوص، حتى ولو رفض هو نفسه ذلك في لفتة كريمة منه في إحدى الحالات.
أما الجانب الذي بزغ فيه نجم هيباتيا أكثر من ثيون بوضوح تامٍّ فهو سمعتها كمعلمة؛ فقد كانت تحظى باحترام شديد لمكانتها كمعلمة، في حين لم تصل أي شهادة كهذه عن ثيون إلينا. (ومن المحتمل أن يكون هذا هو أساس العبارة الأصلية.) إن بين أيدينا رواية مؤكدة عن معلِّمة محبوبة متعددة المواهب وتتمتع بالكاريزما. وهذه — في رأيي — هي أفضل صورة يمكننا تكوينها عنها.
شكر وتقدير: هذا المقال ما هو إلا مختصر للمقال الأصلي الأكثر تفصيلًا . وأوَد أن أعرب عن امتناني لجي جيه تي من جامعة أوكلاند؛ لنقده الدقيق للمسوَّدة السابقة، ولأنه لفت انتباهي إلى المرجع رقم .