Skip to main content

تطور فائق: كيف صار الثعبان آكلا شرها؟

إن فقدَ الثعابينِ أرجلَها كان مجرد نقطة البداية في رحلتها العجيبة؛ فالتحول من البقاء على قيد الحياة بالكاد إلى أكل ظبي كامل أمرٌ يقتضي عملية إعادة هندسة على مستوى الجزيئات.

الثعبان! إن مجرد التفكير فيه كافٍ لإثارة نوبة من الهلع لدى كثيرين منَّا. وتتسارع ضربات قلوب علماء الأحياء أيضًا لدى ذِكر الثعابين، ولكن لسبب آخر؛ فمن المنطلق التطوُّري، قد تكون الثعابينُ أكثر مجموعات الفقاريات على وجه الأرض إثارةً للدهشة.

يُعزَى تفوُّق الثعابين إلى عملية إعادة هندسة داخلية مبهرة.

يُعزَى تفوُّق الثعابين إلى عملية إعادة هندسة داخلية مبهرة.

وقد اتضح أنَّ أجسادها الطويلة العديمة الأرجل هي أقل الأشياء جدارةً بالاهتمام فيما يتعلق بها. فأغرب التغيرات التي حدثت للثعابين أَصابتها من الداخل لا الخارج؛ إذ قلَّصت أعضاءها الداخلية، فتخلَّت عن الجزء الأكبر من إحدى الرئتين وعن الكبد عدا فصًّا واحدًا منه. وطوَّرت عضوًا حسِّيًّا جديدًا لجسِّ الحرارة، وكذلك أرقى جهاز سُمِّي لدى أي حيوان، كما يمكنها رفع معدل الأيض لديها وخفْضه بصورة جذرية لا تضاهيها فيها أي فقاريات أخرى. بل إن عملية إعادة الهندسة تلك تمتدُّ كذلك إلى مستوى الجزيئات؛ فالبروتينات التي ظلت دون تغيُّر لدى الفقاريات الأخرى أُعيد بناؤها لدى الثعابين.

يقول ستيفن ماكيسي الذي يدرس الثعابين في جامعة شمال كولورادو بجريلي: «تبدو الثعابين كائناتٍ مُعَدَّلة من الناحية التطورية.» وبالاستعانة بأول جينومين تحدَّد تسلسلهما للثعابين، بدأنا نجمِّع خيوط رحلتها التطورية المذهلة.

تبدأ قصة تطور الثعابين منذ ما يربو قليلًا على ١٠٠ مليون سنة، بسِحْلية أو زاحف شبيه بالسحالي. لم يزلْ علماء الأحياء في جدل بشأن المجموعة التي انتمى إليها سلف الثعابين تحديدًا. البعض يرى أن الثعابين تنحدر من الزواحف البحرية التي تُعرَف بالموزاصورات، ولكن هذا الرأي يتبناه قلة. ويقول هاري جرين، مختص علم الأحياء التطوري بجامعة كورنيل في إيثاكا بنيويورك: «أظن أنَّ الغالبية العظمى من الأدلة تشير في اتجاه منشأ الثعابين على البرِّ، بل وربما في جحور أو مخابئ.»

والرأي السائد هو أنَّ الثعابين الأولية كانت تنتمي إلى مجموعة تتضمن ممثِّلاتها الحيةُ حاليًّا سحلية الوَرَل ووحش جيلا. فلماذا فقدت بعض أعضاء تلك المجموعة أرجلها واستطالت أجسادها؟ الأرجح أنها فعلت ذلك حتى تُطارد الحشرات في الجحور تحت الأرض أو بين الأعشاب المتشابكة. بل إن أكثر الثعابين بدائية على وجه الأرض في عصرنا الحاضر — وهي مجموعة تُدعى الثعابين العمياء نسبةً إلى أعينها اللاوظيفية — لا تزال تعيش تحت الأرض حيث تتغذَّى على النمل والنمل الأبيض؛ مما يعضِّد فكرة أن الثعابين الأولى ربما كانت تسكن الجحور.

ومن المثير للدهشة أنَّ تحوُّل الجسد إلى الشكل الثعباني لم يتطلَّب طفرات جينية كثيرة. فيقول مايكل ريتشاردسون مختص علم الأحياء التنموي بجامعة ليدن في هولندا إن جينات «نمو الأطراف» لا تزال نشطة لدى أجِنَّة الثعابين، إلا أن الخلايا في تلك المناطق تتجاهل الإشارة بكل بساطة، وبذلك لا تتكوَّن أرجل. وتحصل الثعابين على أجسادها الطويلة بإنبات فقرات بمعدل فائق السرعة عندما تكون في طور التكوين، وبذلك يصير لديها عدد من الفقرات يفوق نظيرها لدى الحيوانات الأخرى؛ فيتخطَّى ٥٠٠ فقرة في بعض أنواع الثعابين.

وفي الواقع يبدو تطور جسد السحلية إلى هيئة الثعبان أمرًا فائق السهولة، فقد حدث في حالات عِدَّة. ويقول مايكل لي، مختصُّ علم الأحياء التطوُّري في متحف جنوب أستراليا بأديليد: «عشرات السلالات من السحالي فقدت أطرافها.» إلا أن معظمها من السحالي الصغيرة التي تعيش في الجحور، ونادرًا ما تُرَى، كما أنها لم تَنَلْ حظًّا وافرًا من الدراسة.

قدرات استثنائية

في المقابل انطلقت أسلاف الثعابين تسعى فوق سطح الأرض وبدأت تصطاد فرائس أكبر، فانبثق عنها أنواع مفترسة مخيفة؛ مثل الأفعى ذات الجرس والكوبرا. وثمة نحو ٣٤٠٠ نوع من الثعابين اليوم، في كل مكان عدا المناطق القطبية الأشدَّ برودة. بعضها استوطن البحار الاستوائية، وصار لا يطأ اليابسة أبدًا. والبعض الآخر — مثل البوا والأصَلَة — نما إلى أحجام هائلة؛ مع أن أكبر الثعابين الباقية على قيد الحياة اليوم صغيرة مقارنة بالبوا الهائلة، وهو ثعبان منقرض كان طوله يزيد عن ١٠ أمتار ويربو وزنه على الطن. وليس ثمة مجموعة أخرى من السحالي العديمة الأرجل بنفس قدْر تنوع الثعابين وانتشارها. ويقول لي: «ليس بينها ما يضاهي الثعابين في تفوقها.»

إذن فما يميِّز الثعابين هو التغيُّرات الأقل وضوحًا التي حدثت بعدما فقدت أسلافها أرجلها، ولا سيما القدرات الأيضية الاستثنائية التي تتمتع بها الثعابين. تلك القدرات بدأ تطورها منذ مراحل مبكرة؛ فالثعابين العمياء — التي انفصلت عن أسلافها في مرحلة مبكرة من مراحل تطور الثعابين — يتبين لديها تغيرات واسعة النطاق في الجينات المتقدِّرية، التي ربما تكون قد أتاحت للثعابين الأولية خفضَ معدل حرقها للطاقة عن طريق خفض معدل الأيض.

وقد مهَّد ذلك الطريقَ أمام الاستراتيجية الفائقةِ الفعاليةِ التي تبنَّتها الثعابين الأولى عندما عادت للحياة فوق سطح الأرض؛ ألا وهي: تناول وجبات كبيرة من حينٍ لآخر عوضًا عن وجبات صغيرة متعددة. ونتيجةً لذلك، لا تُضطر الثعابين إلى قضاء وقتها كله في الصيد — عندما تكون هي نفسها معرَّضة لخطر الافتراس — ويمكنها التعايش مع فترات ندرة الغذاء.

إلا أن تناول وجبات كبيرة يمثل تحدِّيًا للثعبان باعتباره حيوانًا يبتلع فريسته كاملة؛ وقدرته الاستثنائية على ابتلاع فرائس أكبر من حجم رأسه بكثير اقتضت حدوث تغيرات فائقة. فالجلد المحيط بفمه — على سبيل المثال — به ثنيات استثنائية؛ مما يتيح له أن يتَّسع أكثر بكثير من معظم الحيوانات، حسبما يقول ديفيد كوندال من جامعة ليهاي في بنسلفانيا. وقد أثبتت الدراسات التي أجراها أنَّ بعض عضلات الفكِّ يمكنها التمدُّد بدرجة كبيرة جدًّا حتى إن بروتينَي الأكتين والميوسين المتشابكينِ ينفصل كلٌّ منهما عن الآخر، ثم يعودان إلى وضعهما الطبيعي تدريجيًّا بعد انتهاء الثعبان من تناول وجبته.

إن التكيُّفات الأيضية لدى الثعابين أكثر جذرية من ذلك. ففيما بين الوجبات — على سبيل المثال — تُوقِف الأصَلَة البورمية أجهزتها كلها تقريبًا؛ إذ تخفِض معدل الأيض أثناء الراحة إلى أدنى مستوًى معروفٍ لدى أيٍّ من الفقاريات. وفي ذلك يقول تود كاستو من جامعة تكساس في أرلينجتون: «عندما تكون الثعابين في حالة خمول، فإنها تُمْعِن فيه. والفرق ضئيل بين معدل الأيض لدى الثعبان الحيِّ والميت.» معنى ذلك أن الثعابين الكبيرة يمكن أن تُمضي شهورًا دون طعام.

معجزات أيضية

إلا أنه عندما تبتلع أصَلَةٌ ظبيًا — مثلًا — يتغير كل شيء؛ فحينئذ يبدأ سباق هضم تلك الوجبة الضخمة. فخلال أيام من تناول الوجبة، يتضاعف حجم الأمعاء الدقيقة والكبد لدى الأصلة، كما تتضخَّم الكُلى والقلب بدرجة كبيرة أيضًا، في حين يزداد معدل الأيض بقدر يصل إلى ٤٥ ضِعفًا (انظر الشكل). فيقول كاستو إن تلك الزيادة تقترب من الزيادة في معدل الأيض لدى خيول السباق أثناء عَدْوها بأقصى سرعة في سباق كنتاكي ديربي للخيل. ويُرْدِف: «ولكن هذا يحدث للخيول عندما تعدو بأقصى سرعة عبر حلبة السباق. أما الثعابين فتكون ساكنة عند بلوغ معدل الأيض لديها ذِرْوته.» ويستمرُّ ذلك النشاط المحموم أيامًا عدة. وفي غضون أسبوعين، يعيد الثعبان إيقاف وظائفه الحيوية كافةً، بعد أن يُتِمَّ هضم وجبته.

ما بعد الوليمة: تُسفِر الوجبات الضخمة عن حدوث تغيرات هائلة لدى الثعابين؛ فيبلغ معدل الأيض عَنَان السماء، وتتضخَّم بعض الأعضاء الداخلية بدرجة هائلة.

ما بعد الوليمة: تُسفِر الوجبات الضخمة عن حدوث تغيرات هائلة لدى الثعابين؛ فيبلغ معدل الأيض عَنَان السماء، وتتضخَّم بعض الأعضاء الداخلية بدرجة هائلة.

ما الذي أتاح تلك المعجزات الأيضية؟ إنَّ كاستو عضو ضمن الفريق الذي أنهى العام الماضي تحديد أول تسلسلين لجينوم ثعبانين، ينتمي أحدهما إلى الأصلة البورمية، والآخر إلى الكوبرا الملك. وبمقارنة هذين الجينومين بجينومات الفقاريات الأخرى، تمكَّن الفريق من تحديد أيُّ الجينات تغيَّرَ ومتى، وتمكنوا كذلك من تقفِّي آثار الانتخاب الطبيعي.

وكان ما وجدوه مذهلًا. فمن بين ٧٤٤٢ جينًا مشتركًا لدى فقاريات البرية كافةً، تغيَّر ٧٧٢ جينًا نتيجة الانتخاب الطبيعي. والغالبية العظمى من تلك التغيُّرات — ٥١٦ منها — حدثت في النوعين الخاضعين للدراسة؛ مما يعني أنَّها حدثت منذ أكثر من ٨٠ مليون سنة؛ أي قبل انفصال الأصَلَة عن السلالة التي تولَّدت عنها ثعابين الكوبرا.

قد لا يبدو تغير بضع مئات الجينات رقمًا كبيرًا، لكنه رقم غير معتاد علمًا بأن معظم الجينات التي يتضمنها مَعْنِية بالعمليات الأساسية التي لا تختلف كثيرًا من نوع لآخر. ويقول كاستو: «هذا أكثر من المعهود إلى حدٍّ ما.» وهو يظن أن تلك التغيراتِ الواسعةَ النطاق هي ما يتيح للثعابين أن ترفع معدل الأيض لديها وتخفضه وتكبِّر أعضاءها وتصغِّرها حسبما تقتضي الحاجة. ذلك الظن غير مُثبَت بعدُ، ولكنَّ كثيرًا من الجينات التي تغيرت مَعْنِية بالفعل بزيادة معدل الأيض ونمو الأعضاء.

بل إن كاستو توصَّل منذ بضعة أعوام إلى أن الثعابين تلاعبت أيضًا بأحد عناصر التطور «المحظورة»؛ وهو بروتين أكسيداز السيتوكروم ١، الذي يمكِّن الخلايا من «حرق» الغذاء من أجل إنتاج الطاقة. ويقول كاستو: «ذلك البروتين هو سبب استنشاقنا الأكسجين.» وقد ظلت أجزاء ذلك البروتين ثابتة لا تتغير لدى معظم الكائنات لمليارات السنين، إلا أن الثعابين غيَّرت في تلك الأجزاء الرئيسية. ولم يُثْبِتْ كاستو بعدُ كونَ تلك التغيرات ذات صلة بالقوى الأيضية الخارقة للثعابين، لكنه يرى ذلك احتمالًا قويًّا.

لا شك أن القدرة على رفع معدل الأيض من أجل التعامل مع الوجبات الضخمة شيءٌ، واصطياد تلك الوجبات من الأساس شيء آخر تمامًا. وقد طوَّر أحد فروع عائلة الثعابين وسيلة فعالة للغاية في التعامل مع الفرائس الكبيرة؛ وهي السُمُّ.

لم يتضح متى كانت بداية نشأة السم تحديدًا. وقد اقترح بريان فراي من جامعة كوينزلاند في بريزبن بأستراليا — استنادًا إلى أوجه التشابه بين البروتينات المكوِّنة للسموم — أن القدرة على تصنيع السم قد تطورت منذ نحو ٢٠٠ مليون سنة لدى نوع من السحالي تنحدر منه الثعابين والسحالي السامة الحديثة. إن كان ذلك صحيحًا، فربما كان لُعاب الثعابين الأولى سامًّا، وكان يمكنه أن يدخل دم الضحية عبر الثقوب التي تُحدثها عضَّة الأسنان العادية. إلا أنه ثمة علماءُ أحياءٍ آخرون يرون أن أوجه التشابه بين البروتينات التي وجدها فراي ربما تكون ناتجةً عن التطور المقارب عوضًا عن وحدة المنشأ، وأن السم تطور قائمًا بذاته على عدة مرات.

والأمر الواضح هو أنَّ الأنياب المتطورة لدى معظم الثعابين السامة في وقتنا الحالي تطورت منذ ما يقلُّ قليلًا عن ٨٠ مليون سنة، حين انفصل ثعبان البوا وثعبان الأصَلَة غير السامَّينِ عن سَلَف الأفاعي والكوبرا وغير ذلك من الثعابين السامة. فقد طوَّر ذلك السلف أنيابًا خلفية ذات شقوق يسيل السم عبرها. وفي بعض الثعابين تقدَّمت تلك الأنياب إلى الجزء الأمامي من الفم وازدادت الشقوق عمقًا؛ لتنشأ عنها في النهاية أسنان جوفاء تشبه إبَر الحقن تحت الجلد، إضافةً إلى جهاز عضلي لضخ السم عبر الأنياب.

عكف فريك فونك — مختص علم الأحياء التطوري في مركز ناتوراليس للتنوع الحيوي في ليدن بهولندا — وزملاؤه على دراسة سم الثعابين وأنيابها، فتعرَّفوا على جينات السم لدى الكوبرا، ثم بحثوا عن أقرب الجينات لها لدى الأصلة البورمية وسحلية الأنول. فدُهِشوا لاكتشافهم أنَّ الكوبرا على ما يبدو جمَّعت قنبلتها السامة من موادَّ عادية؛ فمعظم العائلات الجينية العشرين التي تحدِّد الشفرة الوراثية للمواد السامة مرتبطةٌ بجينات تؤدي مهام الحياة اليومية العادية داخل الخلايا.

كذلك فإن تلك الجينات العادية عادةً ما يكون نشاطها منخفضًا في الأنسجة كلها. فيقول كاستو، الذي كان عضوًا في ذلك الفريق أيضًا: «معنى ذلك أنك عندما تصنع غُدَّة جديدة، يكون ثمة احتمال كبير أن يُعبَّر عن الجين داخلها.» وأحيانًا كانت الثعابين تختطف الجين ببساطة، وتحوله إلى وظيفة جديدة سُمِّيَّة. إلا أنه في أكثر الأحيان، كان الجين الأصلي يُستنسَخ — مرات عديدة في كثير من الأحيان — موفِّرًا للثعابين الكثير من البروتينات الزائدة لإجراء التجارب عليها وتحويلها إلى سموم قاتلة.

وترتَّب على ذلك احتواء سم أكثر الثعابين تطورًا على توليفة فائقة التعقيد من السموم — أكثر من ١٠٠ وَفقًا لبعض الإحصاءات — تتباين حسب النوع والبيئة، بل وأحيانًا تتباين من فرد لآخر في النوع ذاته. ذلك التنوع الهائل يساعد الثعابين في الحفاظ على تفوقها في سباق التسلح التطوري؛ فلو لم يكن لدى الثعابين سوى مادة سامة واحدة، كان من الأيسر على فرائسها (ومفترساتها) أن تطوِّر وسائل مقاومة.

إلا أنه لا ينحصر الهدف الأساسي لعناصر السم كلها في قتل الفريسة أو في حماية الثعبان من الضواري. فثمة ثعابينُ كثيرةٌ — لا سيما الأفعى ذات الجرس — تمتلك سمًّا غنيًّا بسموم تحلِّل أنسجة الحيوانات التي يَعَضُّها الثعبان. يقول ماكيسي إن ذلك يساعد الأفعى ذات الجرس — التي تأكل فرائس أكبر من المعتاد — على ربح السباق بين الهضم والتعفُّن. إضافةً إلى ذلك، فقد اكتشف ماكيسي في الآونة الأخيرة أن أحد مكوِّنات سم الأفعى ذات الجرس؛ مادة سامة تُدعَى كروتاتروكسين تمنع تجلُّط الدم، وتخلِّف أيضًا رائحة يمكن للثعبان تتبُّعها وتساعده بذلك في العثور على الحيوانات التي عضَّها بعد أن تموت.

وذلك كله مجرد بداية. فكاستو وفونك وزملاؤهما يعملون بالفعل على تحديد تسلسل المزيد من جينومات الثعابين. يتصدَّر القائمة أحدُ الثعابين العمياء — تنبع أهميته من شبهه بالثعابين الأولى — وأفعى الحُفَر الماليزية، ذات القدرة على جسِّ الأشعة تحت الحمراء. ويُفترض أن يلقي هذان الجينومان مزيدًا من الضوء على أصل العديد من وسائل التكيف التي تجعل الثعابينَ كائناتٍ عجيبةً ومبهرة، وعلى مسار تطور تلك الوسائل. ويقول جرين: «ينطوي ذلك على إمكانيات هائلة فيما يتعلق بكشف خبايا بيولوجيا الثعابين.»

الرؤية بعينين مغمضتين

بينما طَفِقَت الثعابين الأولى تكتسب بعض القدرات غير العادية، فَقَدَت قدراتٍ أخرى؛ فأثناء ملايين السنين التي قبعت فيها تحت الأرض الثعابينُ الأولية الصغيرة التي كانت تعيش في الجحور، التحمت أجفانها وضمرت أعينها. وعندما عادت الثعابين الأولى إلى الحياة فوق سطح الأرض، اضطُرَّت إلى تجميع عينين مبصرتين من البقايا المتاحة. كانت قد فقدت هيكلًا خاصًّا لتغذية شبكية العين، ومن ثم طوَّرت أوعية دموية عوضًا عنه، إلا أن تلك الأوعية الدموية تمر من أمام الشبكية؛ مما يقلل وضوح الرؤية.

كذلك فقدت الثعابين الأولية القدرة على ضبط بؤرة الصور عن طريق تغيير شكل عدسة العين. فطوَّر أسلافها عوضًا عن ذلك طريقة لضبط البؤرة بتحريك العدسة إلى الأمام والخَلْف داخل مقلة العين، مثلما يحرِّك شيرلوك هولمز عدسته المكبِّرة للتركيز على دليل.

ولا تزال تلك الجفون الملتحمة — وتُسمَّى نظارة لشبهها بنظارة الإنسان — مغلَقة بإحكام حتى يومنا هذا. في المقابل، صارت شبه كاملة الشفافية، ودون وجود أجفان سليمة يسهُل شرخها، لكنها تتجدد عند طرح الجلد أثناء عملية الانسلاخ.

تكمن مشكلة أخرى في مرور أوعية دموية عبر الجفون الملتحمة. ففي العام الماضي، ثبت أن تلك الأوعية الدموية تنقبض فترة أطول من المعتاد عندما يبصر الثعبان تهديدًا، على الأرجح بُغْيَةَ منحه رؤيةً واضحة عندما يكون في أمسِّ الحاجة إليها.

وفي حين أنه من المرجَّح ألا يكون بصر الثعابين بالكفاءة التي كان يمكن أن يكون عليها، فحواسُّه الأخرى فائقة التطور. بل إن بعضها يمكنه أن «يرى» في ضوء الأشعة تحت الحمراء بفضل حُفَر لجسِّ الحرارة في وجهه.

ترياق واحد للسموم كافة

إذا عضَّك ثعبان سام، يمكن لجرعة من ترياق، يحتوي على أجسام مضادة تعادل تأثير السموم، أن تنقذ حياتك. ولكنْ أيُّ ترياق يُجْدِيك نفعًا؟ كثير من ضحايا عضة الثعبان لا يعرفون أي ثعبان عضَّهم؛ ولذا تنتج شركات الأدوية توليفات من الترياقات فعَّالة في مواجهة أنواع عدة. إلا أن ذلك أمر مكلِّف ويزيد من فرص حدوث رد فعل تحسُّسي.

يرى نيكولاس كيسوِل وزملاؤه في كلية ليفربول لطب المناطق الحارة في المملكة المتحدة أن ثمة وسيلة أفضل، فهم يستخدمون علم الوراثة لتحديد مناطق من بروتينات السموم، مشتركة لدى أنواع مختلفة من الثعابين، ثم يصمِّمون أجسامًا مضادة تلتحم بتلك المناطق؛ بمعنى أن كل جسم مضاد ينبغي أن يكون فعَّالًا في مواجهة عضة أنواع عدة من الثعابين. ومن المفترض أن يُسفِر ذلك عن إنتاج ترياقات أقل تكلفةً وأكثر أمانًا.

21 Dec, 2015 12:52:23 PM
0

لمشاركة الخبر