Skip to main content
الرملي: العرب لم يقرؤوا إلى اليوم دون كيشوت

يحتفل العالم هذه السنة بذكرى مرور أربعمئة سنة على ظهور رواية "دون كيشوت" للأديب الإسباني الأشهر ميغيل دي ثربانتيس، وهو تاريخ يذكر بميلاد أول رواية حديثة في العالم.

وحول هذا الموضوع وما جاوره من أسئلة ثقافية متعلقة بحوارات الحضارات ومسألة التثاقف الشرقي الغربي، استضافت الجزيرة نت الدكتور محسن الرملي صاحب أطروحة "أثر الثقافة العربية الإسلامية في دون كيشوت".

ومحسن الرملي كاتب عراقي يكتب الشعر والرواية ويشتغل بالنقد الأدبي والترجمة، اختار أن يتركالعراق في هجرة شبه قسرية لمطاردة أحلام كبيرة هرّبها من الشرق إلى مدائن الفقد في أوروبا، فطوحت به السفن من الأردن حتى إسبانيا، حيث يقيم الآن منذ سنوات مشتغلا بالترجمة والبحث والتدريس.

 يحتفل العالم بمرور أربعمئة سنة على ظهور الجزء الثاني من رواية "دون كيشوت" (يلفظ باللغة الإسبانية دون كيخوته)، وهي أول رواية حديثة في العالم، وقد قدمت رسالة دكتوراه في تأثيرات الثقافة الإسلامية فيها. لكن، ما الذي قدمته هذه الرواية الإسبانية للرواية والثقافة العربية؟

- هذا سؤال مهم وهو ما أبحث فيه منذ أعوام، وتحديدا منذ انتهائي من أطروحة الدكتوراه، حيث أعمل على إعداد بحث أو كتاب يتناول تأثيرات "دون كيشوت" في الثقافة والأدب العربي، وكنت قد قدمت جزءا منه في ندوة أعدها معهد "ثربانتيس" في طنجة عام 20088، ونشر في مجلة اتحاد كتاب المغرب.

"شخصية مدعي الفروسية (المجنون/ الحكيم) لا تُعد مفاجأة للذهنية العربية كما هو الأمر بالنسبة للغرب، لأن التراث العربي حافل بشخصيات من هذا النوع كالتي اصطلح على تسميتها عقلاء المجانين أوالبهاليل"

ومما توصلت إليه حتى الآن أن أثر "دون كيشوت" في الثقافة العربية أقل بكثير مما عليه الحال في بقية ثقافات الأمم الأخرى وآدابها وفنونها، وربما من أسباب ذلك تأخرنا في ترجمتها، وربما أيضا لكون شخصية مدعي الفروسية (المجنون/الحكيم) لا تُعد مفاجأة للذهنية العربية كما هو الأمر بالنسبة للغرب، لأن التراث العربي حافل بشخصيات من هذا النوع كالتي اصطلح على تسميتها "عقلاء المجانين" أو"البهاليل"، وهي شخصيات تدعي الجنون لتقول ما تشاء أمام السلطات القوية، بل وحتى في العصر الحديث حيال الدكتاتوريات حيث التحول إلى مفهوم "الصعلكة" عند العديد من المثقفين والشعراء الذين كان آخرهم جان دمو في العراق.

ومن ناحية أخرى، العرب لم يقرؤوا "دون كيشوت" حتى اليوم بشكل حقيقي وكما تجب قراءته، فالأغلبية من المثقفين يكتفون بما هو سطحي ومشاع عنها من أنها مجرد صورة لفارس مجنون يحارب طواحين الهواء، غير متعمقين بتلقيها ضمن سياقها التاريخي والأدبي والاجتماعي والسياسي.

 ما تأثيرات ثقافتنا العربية الإسلامية في هذه الرواية المؤسسة؟ وهل كان الحضور العربي في "دون كيشوت" مضيئا، أم أن ثربانتيس حتى وهو في مغارته بالجزائر أسيرا كان يفكر بالتبشير الذي ظهر في علاقته بزبيدة التي كانت تريد الهروب إلى الغرب؟

- تأثيرات الثقافة العربية والإسلامية كثيرة وعميقة على ثربانتيس وعلى عمله الأهم "دون كيشوت". وفي أطروحتي تطرقت بالتفصيل لما يتعلق بالتأثيرات التاريخية والأدبية والدينية واللغوية وغيرها، وفي رأيي أن أثر ثقافتنا في "دون كيشوت" أكثر بكثير من أثرها في ثقافتنا.

بعض أعمال الدكتور محسن الرملي باللغتين العربية والإسبانية (الجزيرة نت)

وكان ثربانتيس على احتكاك دائم بالثقافة العربية الإسلامية طوال حياته، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد أحدثت تجربة أسره في الجزائر لنحو خمسة أعوام تحولا جذريا في حياته ورؤيته، وكتب كل أعماله بعد سنوات الأسر هذه، باستثناء قصائد قليلة وضعيفة كتبها في وقت مبكر من حياته. ولا نكاد نجد أي عمل من أعماله خاليا من بصمة للثقافة العربية الإسلامية، سواء أكانت على شكل ثيمة رئيسية كمسرحياته التي تدل عليها عناوينها "معاملات الجزائر" و"حمامات الجزائر" وروايته القصيرة "السلطانة الكبيرة"، أو على شكل مناخ أدبي وأماكن وشخصيات أو تعبيرات أو حتى إشارات وكلمات.

وفي "دون كيشوت" أحصيتُ أكثر من 35 شخصية ذات خلفية ثقافية إسلامية، ومنها بالتأكيد شخصية سيدي حامد الراوي الرئيسي للرواية، وأكثر من عشرين مثلا شعبيا وحكمة، وأكثر من 220 كلمة من أصل عربي، إضافة إلى تأثيرات تاريخية ودينية وأدبية، منها ما يتعلق بتَمَثُل "دزن  كيشوت" لشروط الفروسية العربية أكثر من تمثله لشروط الفروسية الغربية، لكونه يدافع عن الفقراء والمظلومين واليتامى والأرامل والمهمشين، بينما تأسست الفروسية الغربية للدفاع عن الملوك وأصحاب السلطة والأغنياء.

كما قمت بتحليل وتأويل مغاير لما هو سائد حول رؤية ثربانتيس للإسلام والمسلمين وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي ترد الإشارة إليه ست مرات في "دون كيشوت".

 تُرجمت مسرحيات ثربانتيس إلى العربية، لكن لماذا لم تحقق أعماله الأدبية الأخرى نفس شهرة "دون كيشوت"؟

- حال ثربانتيس كحال أي كاتب معروف ومهم في العالم عبر التاريخ، فعادة ما يرتكز ثقل الشهرة على عمل واحد ويرتبط باسمه فيغطي ذلك على بقية أعماله، وبالنسبة للباحثين والمثقفين الجادين يدركون هذه المسألة، لذا يحرصون على الاطلاع ومعرفة بقية أعمال أي كاتب مهم ولا يكتفون بما يكتفي به القارئ العادي أو العامة الذين يكتفون بالعمل الأشهر.

 أصدرت منذ مدة قصيرة كتابا عن الأدب الإسباني، كيف تقدمه لنا؟ وهل تعتقد أن الأدب الإسباني الأوروبي ما زال لم يأخذ حظه في الترجمة مقارنة بنظيره الأميركو لاتيني؟

- يمكن إدراج كتاب "الأدب الإسباني في عصره الذهبي" ضمن محاولة سد الثغرة التي أشرت إليها، فبالفعل ترجماتنا العربية لأدب أميركا اللاتينية تفوق بكثير ترجماتنا لأدب إسبانيا، وبالطبع لهذا الفرق في الكم أسبابه المنطقية، منها أن إسبانيا بلد واحد بينما بلدان أميركا تصل إلى العشرين بلدا، وأن الظروف السياسية والاجتماعية وتصنيفها على أنها من بلدان العالم الثالث يجعلها أقرب إلينا من إسبانيا الأوروبية.

وهذا الكتاب الذي ترجمته يسعى لأن يعرّف بالأصول الحقيقية المؤسسة لأدب إسبانيا بشكل خاص وكل الآداب الناطقة بالإسبانية بشكل عام، لأنه يُعرف بخلاصة منابع وكلاسيكيات الأدب المكتوب باللغة الاسبانية.

 ما هي عوائق ترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية، فنحن لا نكاد نسمع بترجمة رواية عربية إلا عبر منافذ خاصة لا تعكس حراكا فعليا؟

- العوائق كثيرة وتقع على عاتق الطرفين، العربي والإسباني. فبالنسبة للناشر الإسباني هو أقل جرأة وبحثا من نظيره الأوروبي، لذا لا يغامر بنشر عمل عربي إلا بعد أن يرى نجاحه في لغات أخرى كالفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية أو حتى العربية إذا ما أحدث هذا العمل ضجة تساعد في تسويقه.

"بعض المثقفين الإسبان يتصورون أن العرب لا يمكنهم أن يقدموا جديدا أو إضافة إلى ما لديهم في الغرب، لأن العرب متأثرون أصلا وتابعون للآداب الغربية الحديثة من حيث التقنيات والأجناس الأدبية والنقد وغيرها"

وعلى صعيد المثقفين، يتصور بعضهم أن العرب لا يمكنهم أن يقدموا جديدا أو إضافة إلى ما لديهم في الغرب، لأن العرب متأثرون أصلا وتابعون للآداب الغربية الحديثة من حيث التقنيات والأجناس الأدبية والنقد وغيرها.

أما من ناحية العرب، فالتقصير هو انعكاس للضعف العام لكل الظروف المؤسساتية والثقافية والاجتماعية العربية، حيث نفتقر إلى دعم واهتمام حقيقي من حكوماتنا للثقافة والمثقفين ومنها ترجمة آدابنا بالطبع، كما نفتقر إلى قوة نقدية وأكاديمية وإعلامية تجيد فرز وإبراز الأعمال الجيدة لدينا، إضافة إلى أن المبدع العربي يحتاج إلى القيام بابتكارات حقيقية وأعمق فنيا وموضوعيا تثير دهشة وفضول الثقافات الأخرى كألف ليلة وليلة على سبيل المثال.

لذا أنا لا ألوم الكتاب الذين يعتمدون على علاقاتهم وجهودهم الشخصية من أجل إيصال أعمالهم ولو بشكل بسيط ما داموا لا يحظون بأي دعم مؤسساتي آخر.

 وما دور الكتاب والمترجمين العرب هناك في التعريف بالأدب العربي المعاصر؟

- قياسا لما سبق ذكره، وتحديدا قضية الافتقار إلى الدعم المؤسساتي، أرى أن الجهود الفردية للمثقفين والمبدعين العرب في البلدان الناطقة بالإسبانية كبيرة ومهمة، خاصة في ظل الظروف التي يعانونها كأي مهاجر آخر، ومنها ما يستهلكونه من وقت وطاقة في البحث عن عوامل الاستقرار هناك وعلى رأسها لقمة العيش.

وفيما يتعلق بنشاط "البيت العربي"، فهو مؤسسة فاعلة وتقوم بجهود جيدة، ولكنها تبقى في نهاية الأمر مؤسسة رسمية تابعة لوزارة الخارجية الإسبانية لها أهدافها التي تهمها وتعنيها هي أولا، فتتناول -إلى جانب الثقافة والفنون- الشؤون السياسية والاقتصادية العربية، وكان الأحرى بالعرب أنفسهم أن ينشئوا مؤسسة أو معهدا ثقافيا خاصا بتقديم ثقافتهم ويمثلهم بالطريقة التي يريدونها هم.

 لاحظنا انشغالك في ترجماتك بالشعر العربي دون الرواية، وبالمقابل تخوض تجربة إبداعية سردية، ألا ترى في ذلك مفارقة: تبدع السرد وتترجم الشعر؟

- يتعلق هذا الأمر بعاملي الوقت والافتقار إلى الدعم، فما أنا إلا فرد مهاجر ولا أحظى بأي دعم من أي جهة أو مؤسسة عربية، وترجماتي للشعر تكلفني وقتا أقصر بكثير مما لو قمت بترجمة أعمال سردية كبيرة، بينما أعمالي الخاصة -سواء كتبتها بالعربية أو الإسبانية- فأنا أمنحها كل ما أستطيع من الوقت والجهد، بل وحتى الإنفاق عليها من مالي الخاص أحيانا.

 لم يتخلص الروائي الأفغاني عتيق رحيمي من وطأة قتل أخيه إلا عندما كتب عنه روايته الشهيرة "ملعون دوستويفسكي"، فهل تقدم يوما على كتابة رواية عن أخيك الذي أعدمه النظام العراقي السابق؟

- دائما تراودني فكرة كتابة سيرته في رواية وأؤجلها.. إنه لمن أصعب الأمور على كاتب صادق أن يكتب عن أحداث كبيرة أو شخصيات حميمة أثرت على حياته مباشرة، لأن لديه إحساسا بأنه مهما امتلك من أدوات فنية فلن يستطيع إيصال ما يشعر به وحجم ما أثرت به، لذا لم أستطع الكتابة عن أخي حسن مطلك أي كلمة إلا بعد مرور 11 عاما، حيث كتبت شهادة قصيرة، ولكنني الآن وفي روايتي الأخيرة "ذئبة الحب والكتب" اتخذت منه محركا أساسيا لشخصيتيها الرئيسيتين، فحاولت من خلال ذلك أن أعبر عما يعنيه شقيقي بالنسبة لي، وأن أسلط الضوء على جوانب من أعماله وأفكاره ومواقفه التي قد تكون غامضة للكثير من المتلقين.

"مسألة الهوية تراكمية وتفاعلية في الوقت نفسه، أي أنها مثل المعرفة تماما. ومن خلال تجربة العيش خارج بلدي الأصلي قرابة ربع قرن تقريبا، فقد تغير مفهومي للهوية ولم تعد تشغلني وتعذبني كما كانت في الأعوام الأولى من غربتي"

أشعر بنوع من الراحة لفعلي ذلك، ولكنني لحد الآن لم أقل أو أعبر عن كل ما أريد قوله عنه وأشعر به حياله، وأعتقد بأنني لن أتمكن من فعل ذلك أبدا مهما كتبت لأن حسن مطلك أعظم شخص عرفته في حياتي، وأن مقتله كان وما زال وسيظل أكبر كارثة في حياتي.

 أنت تكتب بالإسبانية والعربية لتقود مسيرة إبداعية مزدوجة بين الشعر والرواية، وابنتك من أم أجنبية تأتي لتعلّم عالميتها في قدر الإقامة في منفى الأب. هل الهوية تراكمية وتتشكل بالسنوات لتجعل من الإنسان بلا انتماء واضح بما أنه ينتمي دائما لثقافته، وهذه الثقافة هي المكتسب، أم ترسخ وتعزز هويته الأولى المسلوبة والجريحة بسبب النفي؟

- أعتقد بأن مسألة الهوية تراكمية وتفاعلية في الوقت نفسه، أي أنها مثل المعرفة تماما. ومن خلال تجربة العيش خارج بلدي الأصلي قرابة ربع قرن تقريبا، فقد تغير مفهومي للهوية ولم تعد تشغلني وتعذبني كما كانت في الأعوام الأولى من غربتي، وتحديدا انتبهت إلى هذه المسألة أثناء وبعد كتابة روايتي "تمر الأصابع"، حيث اكتشفت أسباب وخيوط معاناتي السابقة من ازدواجيتي الثقافية، فتصالحت مع نفسي وصرت أتقبل كل ما فيها من ألوان وتأثيرات وقيم ثقافية مختلفة تصنع نسيج كينونتي.

لم يعد فهمي للهوية مرتبطا بحدود جغرافية مصطنعة أو تقاليد مكون اجتماعي معين، وإنما صرت أكثر انفتاحا على الإنسان الآخر المختلف، وبالتالي صرت أكثر إنسانية وانتماء لعموم الإنسانية بدل الانحصار في جزء ومكون واحد وصغير من كل هذه الإنسانية الهائلة، وبالطبع أريد وأسعى لإيصال هذه الرؤية والشعور إلى ابنتي وطلابي وقرائي.

 تمضي في مسيرة "دون كيشوت" التي خضتها لمحاربة طواحين الريح.. هل تكره "سانتشو بانثا" ودور التابع تبعا لذلك؟

- صحيح أن رحلة حياتي تبدو دون كيشوتية بامتياز، ولكن الحقيقة هي أن دون كيشوت وتابعه سانتشو بانثا هما شخص واحد، وهذا أحد عناصر عظمة رواية ثربانتيس، ففي داخل كل إنسان توجد هاتان الشخصيتان معا، وهما الشخص المثالي الحالم الذي يرى ما يريد، والشخص الواقعي البرغماتي الذي يسعى للتكيف والتعامل مع ما هو موجود واقعيا، ولو افتقر أي إنسان إلى إحدى هاتين الشخصيتين في داخله فسيحدث خلل في شخصيته.

وبالنسبة لي، أعتقد بأن شخصية دون كيشوت هي التي تغلب عليّ أحيانا، لهذا أنتبه إلى مواضع الخلل فيها والتي ينبهني إليها التابع سانتشو الواقعي مشكورا. وعليه فأنا بالتأكيد لا أكرهه، وإنما أحبهما معا وأتمنى أن تبقى رفقتهما في داخلي حتى النهاية، أي أن أكون مثاليا وواقعيا في الوقت نفسه.

22 Dec, 2016 11:23:38 AM
0

لمشاركة الخبر