Skip to main content
أمين الريحاني المبدع المتعدد والصوت النهضوي المقبل من آفاق الحداثة

ليس أجدر من أمين آلبرت الريحاني في استعادة العلامة أمين الريحاني وإعادة قراءته في ضوء العصر الحديث وفي تجواب عالمه المتعدد الحقول والرحب الآفاق، أدبياً وفكرياً واجتماعياً وسياسياً. دأب الباحث والأكاديمي والشاعر على دراسة آثار عمه، شقيق والده، منذ عقود وخرج بخلاصات مهمة وفريدة، نقداً وتحليلاً، علاوة على إشرافه على متحف الأمين وعلى الإرث العظيم الذي تركه الذي عمل على توثيقه وفق الطرق الحديثة، ومتابعة الحركة الريحانية في العالم، من مؤتمرات وترجمات ومنشورات. منح الأمين الابن الأمين الكبير من جهده ووقته ما لم يمنحه لنفسه، لكنه كان مبدعاً في كلا الحقلين ومجدداً ومتفرداً في صناعتيه، شعراً ونثراً، بالعربية والإنكليزية أيضاً.

في مناسبة صدور الأعمال الكاملة للريحاني في طبعة شاملة (مكتبة لبنان - ناشرون) أشرف عليها أمين آلبرت، وأرفقها بهوامش وملاحظات أجري معه هذا الحوار .

> كلما قرأنا اليوم أمين الريحاني اكتشفنا قدرة نتاجه على مواجهة سلطة الزمن أو التاريخ، حتى ليبدو كأنه كتب للمستقبل وليس لعصره فقط، مخاطباً الأجيال المقبلة. وهذا الانطباع لا يقتصر فقط على آرائه الحديثة وإنما يشمل الأسلوب الذي تفرد به. ما سر حفاظ الريحاني على هذه الخصائص؟ وكيف تحدد المدخل إلى قراءته بصفته معاصرنا؟

- قد يكون الباب الأوسع لفهم أمين الريحاني اليوم هو الأخذ بالمعايير المعاصرة للكتابة. وإذا سمحْت بأن أختزل السؤال، أعيد صوغه على الوجه الآتي: كيف نفهم الريحاني اليوم مفكراً معاصراً، وكيف نفهمه أديباً معاصراً؟ المفكر المعاصر برأيي هو الذي يعرف كيف يوظف الماضي في خدمة المستقبل، وكيف يوظف المكان في خدمة الزمان. هذا التوظيف، أو العبور من الماضي إلى المستقبل ومن المكان المحدود إلى الزمان اللامحدود، لا يتم باعتقادي إلا «بهجرة العقل»، كما يقول الريحاني نفسه. فهجرة الجسد، وإن حملت في طياتها إمكانية هجرة العقل، فهي لا تكفي. لا تكفي إلا إذا نجحت في هجرة عقلية موازية لهجرة الجسد أو متجاوزة لها. وهذا ما حدث تماماً للريحاني.

فمفهوم المعاصرة لديه هو مفهوم التجاوز لموضوع نابع من ظروف معينة ومحددة إلى الموضوع ذاته بعد تجريده من تلك الظروف الخاصة وتحريره من أُطرها وسياقاتها التاريخية والانتقال بها إلى آلية التصدي المطلق الذي يصح في كل زمان ومكان ويبقى صحيحاً لزماننا وللزمن الآتي. هكذا يخاطب الريحاني المستقبل عبر مخاطبته الحاضر وعبر نقده التاريخ، كما يخاطب الأجيال المقبلة من خلال مخاطبته أبناء جيله. هذه الحقيقة تستدعي من قارئ الريحاني الواعي أمر «معاصرته الفكرية»، الوقوف كذلك على معنى «معاصرته الأدبية» أو «معاصرة» أسلوبه لا أبناء جيله فحسب بل الأجيال المقبلة، تماماً كما تفضلْت بسؤالِك هذا. وما أفهمُهُ بالأسلوب المعاصر، عند الريجاني أو عند سواه من المفكرين، شرقاً أو غرباً، هو التميز بخاصتين أسلوبيتين، من جملة خصائص أخرى: صدق التعبير، واحترام القارئ. فالريحاني، أياً كان غرضه الأدبي في اختيار المقالة الأدبية أو السياسية، أو الفلسفة، أو القصة، أو الرواية، أو المسرح، أو الشعر، أو الرحلة... فهو في كل حال من هذه الأحوال ملتزم صدق القول، وملتزم احترام قارئ هذا القول. بهذا، ينتقل الريحاني إلى جوهر الكلام، إلى جوهر التصدي، الذي رأى فيه الريحاني عصارة المهمة الأدبية، أو خلاصة الوظيفة الكتابية أو حقيقتها المطلقة التي تصح في كل زمان ومكان. بهذا المعنى، تعلو قامة الريحاني ويصبح صوتاً تاريخياً مقبلاً من المستقبل.

حقول أدبية متعددة

> كتب أمين الريحاني في حقول وأنواع شتى، وبدا كأنه يسعى إلى تجريب هذه الحقول والأنواع باحثاً عن شخصيته وطامحاً إلى تأسيس مدرسته ذات الصفة الشمولية والتعددية. فهو كتب المقالة الاجتماعية والسياسية وكتب في أدب الرحلة والشعر والرواية والنقد الأدبي والديني والفلسفة والأخلاق والتاريخ... كيف تنظر إلى ظاهرة التعدد هذه؟ وكيف برأيك تمكن في التوفيق بينها؟

- لا شك عندي في أن الريحاني كاتب شمولي. شأنه في ذلك شأن عمالقة عصر التنوير الأوروبي. أضف إلى الشمولية، ثنائية لغوية منتجة، إذ إنه نشأ على لغتين حضاريتين «تسابقتا» إلى لسانه وقلمه: العربية مع لقاح فلسفي إنكليزي، ثم ألماني وفرنسي، والإنكليزية مع هوية عربية دافع عنها وعمل من أجل تعزيزها في الأوساط الفكرية الدولية. هذه «الكتلة» الفكرية الأدبية الفلسفية واللغوية، التي تُدعى أمين الريحاني، بدأ تفتحُها العقلي بانشغالات ذهنية تربطها بهيوم وداروين وبوخنر وكانط وهيغل وديكارت وسبينوزا... فاكتشفتْ تلك الكتلة، أن غرضاً أدبياً واحداً قد لا يفي بالغرض، لذا «جرب» المقالة الاجتماعية والسياسية، والقصة، والرواية، والشعر، والمسرح، واستعان بها جميعاً وفق الحاجة إليها وليس بقصد «تجريبها» فحسب. كما اكتشف أن حقلاً معرفياً واحداً قد لا يُصيب الهدف، هدف الالتزام الفكري التحرري، والالتزام «الوقرحي» أي التوفيق بين الواقعية والروحية، أو بين «المادية» التجريبية الإنكليزية، والمثالية الألمانية، والعقلانية الفرنسية. لذا، عظُمت مهمة الكاتب برأي الريحاني فاكتشف تدريجاً أن وظيفة الأدب أوسع مما توقع، فوجد نفسه بالتالي صاحب رسالة تنطلق من الشرق، مع دعوته القومية العربية العلمانية، وتطاول الشرق والغرب مع إيمانه بـ «المدينة العظمى». بهذا المعنى، أصبح ذا «طريقة» في الأدب، وأصبحت «طريقة» الريحاني مدرسة أدبية تعددية بلغتيها، العربية والإنكليزية، وتعددية بأغراضها الأدبية، وذلك عن قصد منه أو عن غير قصد. قوام هذه المدرسة غاية الأدب التي تجمع التعددية في أحادية هادفة، هي الحرية الإنسانية في سبيل تقويم علاقة مُعوجة بين المواطن والسلطة، وجلاء علاقة ملتبسة بين الإنسان الحر والوجود. من كبار أنصار هذه المدرسة، من اللبنانيين: عمر فاخوري، رئيف خوري، مارون عبود، إيليا أبو ماضي، رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)، صلاح لبكي، شفيق المعلوف، توفيق يوسف عواد... قد لا يعي البعض أبعاد «المدرسة الريحانية» التعددية في شموليتها، غير أن عدداً من الباحثين من المشرق والمغرب العربيين، إلى جانب عدد آخر من المفكرين والأدباء والدارسين من دول العالم، شرقاً وغرباً، يتسع اهتمامه بهذه «المدرسة»، يومًا بعد آخر، بخاصة في هذين العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين.

 

بين النهضة والحداثة

> كان أمين الريحاني خير من جمع بين النهضة والحداثة، ورث المقلب الأول من عصر النهضة وشارك في ترسيخه وانفتح على العصر الحديث وكان سباقاً في شق سبله، فكرياً وفلسفياً وأدبياً ولغوياً وأسلوبياً... كيف برأيك تمكن الريحاني من فعل الجمع هذا وفي ترسيخه داخل النص وليس نظرياً؟ كيف أمكنه أن يكون نهضوياً وحداثياً؟

- الجمع بين النهضة والحداثة ممكن وغير ممكن في آن. إنه ممكن لمن نبع من النهضة وتجاوزها إلى رحاب الحداثة. وهذه مسألة تستوجب مواكبة العصر بهموم تتفاعل وتتوالد مع متطلبات الإنسان الجديد في الزمان والمكان. ولكن، كيف يتم ذلك في التطبيق؟ أي في النص الريحاني، لا في التنظير المطلق؟ من يتابع النص الريحاني في تنقلاته من العربية إلى الإنكليزية ومن الغرض الأدبي الواحد إلى أغراض أخرى، يدرك مثلاً أن قصيدة النثر عند الريحاني بدأت تجريباً منذ عام 1903 بنفس تأملي رومنسي موشح بعلائية وِتمنية، وانتهى عام 1940 بقصيدة تتسم بروح قومية ثورية «تتفجر في سهولها وأوديتها ينابيع العروبة». وإذا كانت الحداثة تعني كسر الأنماط الكتابية التقليدية فيمكن بالمقابل أن تقرأ للريحاني نماذج بالإنكليزية كنص مسرحي حول معنى عبور الصحراء، أو العبور من الأرض اليباب إلى أرض الخصبة والواحات ليوازي بذلك عبوراً ذهنياً من العقل إلى الروح. المجموعة الشعرية الثالثة بالإنكليزية Waves of My Life and Other Poems كذلك في نص مسرحي شعري آخر، تقرأ حواراً بين شاعر الرؤيا وشاعر السخرية وشاعر الحداثة. في هذا النص يقيم الكاتب حواراً بين الثلاثة حول «معنى القمر» لدى كل منهم. أما بالعربية فالأمثلة منشورة في المؤلفات العربية الكاملة. من نصوص حداثوية في كتاب الريحانيات حتى كتاب وصيتي مروراً بقصائد من مجموعة هتاف الأودية. أكتفي ببعض العناوين التي تشير نصوصها إلى كسر الأنماط التقليدية في الكتابة، منها: «خطاب المسيح»، «المدينة العظمى»، «جيوش المستقبل»، الريحانيات 1، «بيني وبين نفسي»، «رسالة الشيطان»، «كتاب الفجر»، «الرسول الأسمى» الريحانيات 2، قصائد «هتاف الأودية»، «أنا الشرق»، «عود إلى الوادي»، «النجوى» المجموعة الشعرية هتاف الأودية، وصولًا إلى وصيتي (النص الكامل). هذه الأمثلة تشير إلى أن الريحاني ما اكتفى بكتابات تحمل الروح النهضوية التنويرية بل تجاوزها إلى كتابات تحمل روح الحداثة الأدبية والفكرية بحيث تحاول كسر الأنماط التقليدية السابقة والدعوة إلى ضرب من الكتابة الحديثة التي تواكب روح العصر. هكذا كان الريحاني نهضويً وحداثياً في آن، فهو ابن الفلسفة المثالية الألمانية، كما أنه ابن التجريبية الإنكليزية والعقلانية الفرنسية.

> يحضرني هنا مثلاً أمين الشاعر الذي كان سباقاً في كتابة الشعر المرسل وهو الصيغة الأقرب إلى قصيدة النثر وإلى الشعر الحر في مفهومه الغربي أي الشعر المتحرر من الوزن والقافية. وكان الريحاني سباقاً في اكتشاف تجربة ولت ويتمان سابقاً شعراء مجلة شعر والشعراء الحداثيين الذين اكتشفوا ويتمان م بعده. لماذا برأيك لم يواصل الريحاني صنيعه الشعري ليصبح شاعراً متفرداً مع أنه كان أهلاً لهذه الصفة؟

- سؤالك طبيعي جداً وجوهري بالصميم. لكن من يحاول فهم الريحاني ككلٍ متكامل يجد أن غايته القصوى من الأغراض الأدبية، على اختلافها وتباينها، هي فعل الكتابة بذاته من دون أن يقف عند حدود هذا الغرض الأدبي أو ذاك. يتطرق إلى معظم تلك الأغراض، إن لم يكن إلى جميعها، غير أنه لا يكتفي بواحدة منها من دون سواها. فكأنه لا يرتضي حدود الغرض الواحد، يضيق به، يتبرم ضمن تلك الحدود حتى يكاد يختنق فيفر إلى غرض آخر وأفق آخر من آفاق الكتابة. إنه القلق الوجودي الذي يستفز المفكر فما إن يرتاح إلى صيغة معينة من صيغ التعبير حتى ينتقل منها إلى سواها. باهظ ثمن ذلك القلق الفكري المستدام! صحيح. لكن قدر المفكرين أن يدفعوا من رصيدهم الفني والأدبي ثمناً لتعزيز مواقفهم الفكرية والفلسفية.

سُئِل الريحاني يوماً «لو لم تكن أمين الريحاني فمن تود أن تكون؟» أجاب بمقالة أقتطف منها الآتي: «إني أشعر، وأتيقن في بعض الأحايين، أن شخصيتي مركبة من شخصيات متعددة، متنافرة متآلفة. هي متنافرة في أشكالها متآلفة في جوهرها، وفي حلقاتِ سلسلتِها الكونية الخالدة... هذه الشخصية هي أدبياً: شرقية غربية، شعرية فلسفية، علمية عملية. شغفي برجال الشعر والفلسفة من الشرق، وحُبي لرجال العِلْم والعمل من الغرب...» الريحانيات 1 - المؤلفات العربية الكاملة، المجلد الأول، المقطع الرقم 5. هذه «الشخصية المركبة» التي تُدعى أمين الريحاني توضح تماماً لماذا لم يكن الريحاني شاعراً وحسب، أو أديباً وحسب، أي من دون اهتماماته الفلسفية والسياسية. هو كل تلك العناصر التي تتشكل منها شخصيته «المركبة». إن من ينكب على دراسة الريحاني تحقيقاً وتقديماً ومقارنة بين نتاجه بالعربية ونتاجه بالإنكليزية يجد، ربما بعد سنوات طويلة، أنه الكل المتنوع في الواحد المركب، وإذا بحثنا عن صفة واحدة لهذا الواحد المركب فقد تصح فيه صفة المفكر أو صفة الفيلسوف.

 

تجربة روائية

> وهذا قد ينطبق على الريحاني الروائي، لا سيما في «زنبقة الغور» التي تعد من أولى المحاولات الروائية الجادة في تاريخ الرواية العربية ويتم التوقف عندها دوماً بصفتها رواية تأسيسية؟ هل تعتقد أن الريحاني كتب الرواية على سبيل التجريب أو البحث عن أفق واسع للكتابة؟

- جوهر هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق. ولمزيد من التوقف عند جوانب الجواب الواحد يمكن القول: أن الريحاني، نظر إلى الأدب من خلال نظرته إلى الفلسفة وإلى السياسة. بهذا المعنى تصبح الرواية وسيلة، كما أن الشعر لديه وسيلة، وكذلك المقالة الاجتماعية، أو الرحلة، أو المقالة السياسية... قد يسأل القارئ: إن كانت هذه الأغراض الأدبية جميعاً هي بمنزلة الوسائل عند الريحاني، فهي وسائل لتحقيق غاية معينة لديه، فما هي تلك الغاية؟ ما غاية الريحاني من أدبه؟ ما غايته من دعوته السياسية؟ وإن اعتبرناه فيلسوفاً فما الغاية من فلسفته؟ أحيلك إلى أجوبة سريعة في هذا السياق. يقول كراتشكوفسكي: «سطوركم الجميلة تشف منها شخصيتكم الخاصة ولا أرى مثيلاً لها بين الكُتاب من أبناء العرب الناهضين في مختلف أنحاء العالم العربي»... ويقول زكي نجيب محمود: «كان أمين الريحاني للأمة العربية، ما كان طاغور لأبناء الهند، رسولاً... بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والله... وكان الريحاني للأمة العربية، ما كان إمرسون وثورو، للولايات المتحدة، مثالياً يرى الكون وحدة عضوية... وحداً فاصلاً بين عهدين، عهد الفكر المنقول وعهد الفكر الأصيل»... أما كمال يوسف الحاج فيقول: «الريحاني وحدة فكرية تشابكت أضلاعُها، وتساوقت أطرافُها، وتناسقت أبهاؤها. ثمة روابط في الرؤية الريحانية إلى الوجود... الريحاني لم يكتب الأدب من أجل الأدب، ولا التاريخ من أجل التاريخ، وهكذا لا القصة، والنقد، والسياسة، والاجتماع... هي المعرفة الفلسفية... على هذا الأساس لا أقدر أن أفهم الأمين الأديب، والأمين المؤرخ، والأمين السياسي، والأمين الاجتماعي. لماذا كان الأمين كل تلك الشخصيات في آن، وبقوة عظيمة؟ الجواب: لأنه فيلسوف قبل كل شيء وفوق كل شيء».

هو ذا «الأفق الواسع للكتابة» كما جاء في سؤالك. وهذا ما يفسر انتقال الريحاني الدائم بين الأدب والسياسة، وبين السياسة والفلسفة، كما انتقاله الدائم بين الشعر والرواية، وبين الرواية والمسرح، وبين المسرح والمقالة، وبين المقالة والرحلة. لأنها جميعاً الأجنحة الضرورية «للكتابة الواسعة» التي يبقى أفقها الفسيح، يبقى بلا حدود.

> في أدب الرحلة، كان الريحاني سباقاً، بل هو استطاع أن يطور أدب الرحلة كما عرف قديماً لدى العرب أو لدى الرحالة والمستشرقين، وأسبغ عليه روحاً أدبية فريدة وطابعاً سوسيولوجياً وإنتروبولوجياً إن امكن القول، محرراً إياه من أسر نزعة الوصف والجغرافيا. كيف تنظر إلى هذا الأدب كما تجلى لدى الريحاني؟

- أبادر إلى القول أن أدب الرحلة عند الريحاني، على نقيض ما يظن البعض، يشكل سمة من سمات الحداثة لديه تماماً للأسباب التي أبديتها في سؤالك. فالوصف التقليدي والسرد التقليدي هما آخر ما اهتم بهما الريحاني في أدب الرحلة الريحانية. فالإنسان والمجتمع هما محور هذا الأدب القديم الجديد. وبهذا المعنى جاء هذا الأدب درساً للإنسان العربي، فرداً ومجتمعاً، في القرن العشرين. وقد يكون الأهم من ذلك أن هذا الأدب جاء بمنزلة الرد غير المباشر على الأدب الاستشراقي الذي انتشرت معالمه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين.

فالرحلات العربية تشكل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، رد الريحاني على الاستشراق والمستشرقين رداً عملياً فعلياً وليس رداً نظرياً. وقد ذكرت الصحافة الأوروبية والأميركية غير مرة بهذا الصدد، بخاصة في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، ما خلاصته أنها المرة الأولى التي يجد فيها القارئ الغربي نفسه وجهاً لوجه مع كاتب عربي يتخذ لنفسه المنبر الدولي ليكتب وينشر بالإنكليزية حول القضايا العربية المعاصرة.

 

«كتاب خالد»

> يجمع النقاد على أن «كتاب خالد» يمثل مع «النبي» لجبران و«مرداد» لميخائيل نعيمة مثلث ما يسمى الأدب الرؤيوي اللبناني. لكن الريحاني سلك طريقه الخاصة في هذا الأدب الرؤيوي فهو بقدر ما كان متصوفاً أو نبوءاتياً كان نيتشوياً ولا أدرياً ومشككاً وصاحب نظرة نقدية إلى العالم والماورا، على عكس جبران الذي قلب «زرادشت» نيتشه وحوله إلى واعظ أخلاقي وصوفي. هل توافق على هذه المقولة التي تجمع بين الكتب الثلاثة علماً أن الريحاني كتب «خالد» قبل جبران بسنوات؟ وما هي برأيك المواصفات التي تميز كتاب «خالد»؟

- شق كتاب خالد الطريق الى مسألتين بارزتين: المسألة الأولى أن هذا الكتاب، وبعد احتفالات الولايات المتحدة الأميركية بالذكرى المئوية لصدوره، قد كرس الريحاني كمؤسس لما يُسمى الأدب العربي - الأميركي فهو أول من كتب بالإنكليزية بين أدباء المهجر، وهو أول كاتب عربي يكتب رواية بالإنكليزية حول تجربته الاغترابية، أو وفق ما يسميه المؤلف نفسه قصة «هجرة العقل» بعد هجرة الجسد. وكان لجبران أن يضع سبعة رسوم لهذا الكتاب منشورة معه، كما هو معروف، في كل طبعاته وترجماته القديمة والحديثة.

المسألة الثانية: إجماع النقاد على تأثر جبران بهذه الرواية الفلسفية للريحاني، بخـــاصة أخذه بنفسِها الرسولي. أما النزعـــة الرؤيوية في هذه الرواية فقد امتد أثرها فـــي شكل شبه مباشر إلى كتاب النبي عند جبـــران وكتـــاب مـــرداد عند نعيمة. خـالد، بطل الرواية عند الريحاني، قد استحال إلى النبــــي المصطفى بطل جبران، وإلى مرداد بطل نعيمة. هذه الثلاثية الإبداعية قد شكلـــت مدرسة في الأدب اللبناني في القرن العشرين، بخاصة بعد صدور كتاب عبقر لشفيق المعلوف وكتاب عبدالله لأنطون غطـــاس كرم كأنهما يشكلان استمرارية للثلاثيـــة التأسيسية الكبرى. ومن الطبيعي أن تــرافـــق هذه الظاهرة مقارنات ومقاربات مختلفة من شأنها جميعاً برأيي أن تغني أبعاد هذه المدرسة الرؤيوية وأن تعزز دورها وخصائصها ودلالاتها الإبداعية. أما في ما يتعلق بكتاب خالد بالذات فإني أتوقف، بعجالة فائقة، عند سمات خمس من سماته الفكرية والفلسفية:

أولًا: سمة المدينة العظمى: هي باختصار «يوتوبيا» الريحاني الواقعية. أخذ خالد من جمهورية أفلاطون ومن المدينة الفاضلة للفارابي وتصوُر ابن رشد للمدينة المتقدمة، ومن مدينة الله للقديس أوغسطينوس، أخذ الشق «اليوتوبي» وظلت عينه على الشق الواقعي الذي تميز به كتابه. وقد اختصره المؤلف بلفظتي الحرية والديموقراطية.

ثانياً: سمة الإنسان المتفوق: وهذه السمة تقوم على مرتكزات ثلاثة يجمعها الإنسان المتفوق في شخصه: روحانية الشرق وروح الفنون الأوروبية وعِلم العالم الجديد.

ثالثاً: سمة الثلاثية الخالدية: النور مع غوته، والحب مع تولستوي، والإرادة مع إبسن. النور والحب والإرادة. بهذا الثالوث يعمد خالد مدينته العظمى.

رابعاً: خالد والروح الكوني. وهذا الروح مبني بالدرجة الأولى على إنسانية الإنسان التي تطفو فوق كل الفوارق الدينية والعرقية والثقافية. فما يجمع الإنسان برأي الريحاني أكبر بكثير مما يفرقه عن إخوانه من سائر الشعوب والأمم. بهذا الروح الكوني تلتقي أطراف العالم بعد أن تتساقط حواجز العصبية.

خامساً: شرق الغرب وغرب الشرق: والمقصود بذلك أن الريحاني ما دعا إلى تقليد أعمى للشرق أو الغرب، بل انتقد الاثنين معاً، ودعا إلى إصلاح اجتماعي وفكري وروحي يعزز التواصل بين الناس في الشرق أو في الغرب، ليتطلع الإنسان إلى المستقبل بعين واحدة فيها خير البشرية وتقدمها.

> كان أمين الريحاني في طليعة المفكرين النهضويين والحداثيين الذين وعوا أخطار التعصب الديني والعرقي، فنادى بالحوار الحقيقي والاعتراف بالآخر وبالحرية الفكرية وتمجيد العقل ونبذ الطائفية والعصبية. وكان جذرياً في نقده معطيات الفكر الظلامي أياً يكن ولم يوفر الإكليروس المسيحي المغالي في التطرف. وكانت له نظرة مهمة إلى المسيح الذي انتصر للإنسان الذي فيه مثلما كتب جبران ونعيمة. هذه الناحية في شخصية الريحاني وأدبه جعلته في صميم المأزق الحضاري والديني الذي يعاني منه العالم العربي اليوم. ما الذي يميز مقولات الريحاني ومواقفه في هذا الصدد؟

- الريحاني في صميم المأزق الحضاري والديني الذي يعاني منه العالم العربي اليوم. صحيح. والصحيح أيضاً أن ما حذر منه الريحاني طوال حياته وقعْنا فيه اليوم ولا نعرف مخرجا منه ولا خلاصاً. ما السبب في هذا المأزق؟ يبدو أن الموجات الدينية الحالية باتت غالبة وجارفة لكل الموجات السياسية والقومية، ما أدى إلى تراجع الحركة القومية في العالم العربي. والمؤسف أن الدول المجاورة للعالم العربي هي دول دينية بامتياز وتتحرك أو تحرك حجارة الشطرنج وفق الدوافع الدينية والمذهبية على نقيض كل التوقعات التي سادت قومياً في القرن العشرين. وهذا يعود بنا إلى الوراء وإلى نقيض ما نادى به النهضويون ومنهم الريحاني.

في هذا السياق يلاحظ القارئ أن معظم الذين كتبوا في النقد الديني عند الريحاني اكتفوا بالكلام حول نقده رجالَ الدين من المسيحيين وأغفلوا نقده رجالَ الدين المسلمين. أشير هنا إلى مصدرين مهمين: الأول يعود إلى مراسلاته مع سماحة السيد محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي في عامي 1910 و1913، حيث يناقش سماحة السيد في بعض المعتقدات الإسلامية ورأيه فيها (رسائل الريحاني العربية/ مجموعة المؤلفات العربية/ المجلد 5) في رسالة للريحاني يرد فيها على قول لسماحة السيد يقول فيها «لكل أجل كتاب»... فيجيب الريحاني بالقول: «وبالمنطق نفسه، أقول ولكل كتاب أجل»... في هذه الرسائل التي تُنشر للمرة الأولى ضمن رسائل الريحاني العربية يبدي المؤلف رأيه الصريح في عصمة الأنبياء، وفي معنى الجحيم والنعيم، وفي النشوء والارتقاء وما إليها من مواضيع النقد الديني. أما المصدر الثاني فكتابه بالإنكليزية في عنوان Turkey and Islam in the War (لا يزال غير منشور) وفيه يتحدث عن موقف الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ويطلق نظريته التي تقول أن لا يقوم الإصلاح الاجتماعي والسياسي قبل أن يسبقهما إصلاح ديني. هذه المقولة عاد إليها بعد نحو عشر سنوات في كتابه التطرف والإصلاح بما خلاصته أن إصلاح الأمة يبدأ بإصلاح الفرد، وإصلاح الفرد يبدأ بإصلاح الروح. أيننا نحن اليوم من مثل هذا الإصلاح؟

 

الازدواجية اللغوية

> كتب الريحاني بالعربية والإنكليزية، لكنه لم ينكر انتماءه أو جذوره في نصوصه الإنكليزية، ولم يعش حالاً من الانفصام بين اللغتين أو الثقافتين. بل هو حمّل الإنكليزية أفكاره وأبعاد هويته. كيف تميز لكونك تجيد الإنكليزية تمام الإجادة، بين النص العربي والنص الإنكليزي في نتاج الريحاني وإبداعه؟ هل كانت إنكليزيته بقوة عربيته؟ هل كان هو نفسه هنا وهناك؟

- بدأت مسيرة الريحاني ككاتب باللغة الإنكليزية عبر الامتحان الأصعب الذي فرضه على نفسه وهو مشروع ترجمة رباعيات أبي العلاء المعري إلى الإنكليزية شعراً. وفي عام 1903، صدرت هذه الترجمة في الولايات المتحدة الأميركية حيث قامت الصحافة آنذاك بمقارنات واسعة بين ترجمة الريحاني شعرَ المعري وترجمة ريتشارد بيرتِن شعرَ عمر الخيام إلى الإنكليزية. وهذه المقارنات تضمنت أيضاً مطابقة بين لغة بيرتِن ولغة الريحاني وجاءت بمعظمها لمصلحة إنكليزية الريحاني التي «أثبتت قدرة على التعبير وقدرة على الإمساك بمنطق اللغة» بقلم كاتب من غير أبناء تلك اللغة. وبعد عامين، أي في عام 1905، أصدر الريحاني مجموعته الشعرية الإنكليزية الأولى في عنوان «المر واللُبان»، فتنشر صحيفة النيويورك تايمز مقالًا تشيد فيه بشاعر جديد، وتقول فيه ما ترجمتُه: «لغة المقدمة في هذه المجموعة تثير الدهشة لطابعها الشرقي المميز»... جاء ذلك بمثابة المقدمات لكتاب خالد الذي أثار اهتمام النقاد الأميركيين. وأكتفي هنا باستشهادين بهذا الصدد. يقول مايكل موناهان، صاحب مجلة بابيروس ما ترجمتُه: «شاعر الشمس... أمين الريحاني، أتانا بروح التزاوج المثير بين الشرق والغرب، وهو يقدم لنا خالد بروح جديدة خلاقة كنفس الربيع... هذه الرواية تكتنز بفلسفتها المغلفة بتصوف مذهل وبسخرية مؤثرة. لم يسبق للغرب أن رأى نفسه في مرآة جلية لمثل هذا العقل البراق». ويقول الشاعر الأميركي إدوِن ماركهام: «الريحاني رجل المثال الفلسفي، يكتب بكل سهولة ورشاقة. وخالد يختبر الكثير من المذاهب الفكرية شاقاً طريقه في خضم الفكر الإنساني». لقد أدرك الريحاني باكراً أهمية الكتابة باللغة الإنكليزية فأجادها كأبنائها، بل ذهب أحياناً إلى أبعد، إلى ما يشبه التحدي لقلم «غريب» عن لغة لم يكتفِ بإتقانها، بل عمد لأن يبدع بها ويجعل منها منصة له أمام القارئ الغربي. أشير هنا، نتيجة لذلك، إلى أن الريحاني أصبح عضواً في منتدى اتحاد الكتاب في نيويورك عام 1919، وذلك بعد صدور كتاب خالد بثمانية أعوام. قد يكون الخبر عادياً، لكن العودة إلى سجلات المنتدى، والتي راجعتُها في نيويورك، غير مرة بين 1992 و2002، تشير إلى أن أمين الريحاني هو الكاتب العربي الوحيد الذي قُبِلت عضويته من خارج العالم الأنكلوفوني. (من أعضاء هذا الاتحاد: أوسكار وايلد، توماس هاردي، إيتش. جي. وِلز، روبرت فروست...). رغم ذلك، أو من أجل ذلك، حافظ الريحاني على جذوره اللبنانية العربية المشرقية، بلغته الإنكليزية وبنتاجه الأدبي الإنكليزي.

إنها قصةُ تجربة فذة لكاتب شمولي متعدد، أو لكاتب أحادي في تعدده وشموليته. لجنسيته الفكرية، كما يقول، «كوخ في الفريكة، ومسرح في العالم».

63 كتاباً و54 ترجمة و5467 مرجعاً

لمناسبة صدور مؤلّفات أمين الرَّيحاني العربيّة الكاملة، مع آخر مخطوطتين للرَّيحاني، أصدر مكتب الأبحاث والتوثيق التابع لمتحف الرَّيحاني في الفريكة، بياناً جاء فيه تثبيت الأرقام الآتية حتى نهاية العام 2016:

مجموع مؤلّفات أمين الرَّيحاني العربيّة: 30- عدد صفحاتها: 7499 صفحة - عدد طبعاتها 302، امتدّت من العام 1902 حتى 2016. مجموع مؤلّفات الرَّيحاني الإنكليزيّة: 33- عدد صفحاتها: 5907 صفحات- عدد طبعاتها 206، امتدّت من العام 1903 حتى 2016. أما المجموع العام لمؤلّفاته باللغتين فيمكن تحديده بالآتي: العدد الكامل لمؤلّفاته: 63 كتاباً في 13406 صفحات و564 طبعة، منها 62 طبعة في السنوات الثلاث المنصرمة. وتشير الأرقام حول ترجمات أعماله حتى اليوم إلى الآتي: 18 ترجمة من الإنكليزيّة إلى العربيّة ولغات آسيويّة أخرى؛ و36 ترجمة من العربية إلى الإنكليزيّة ولغات أوروبيّة أخرى. وقد توزّع مجموع الترجمات لأعماله إلى اللغات الآسيويّة الآتية: الأذربيجانيّة، التركيّة، الجورجيّة، الصينيّة، العِبريّة، العربيّة، الفارسيّة والكوريّة. أما اللغات الأوروبيّة التي تُرجِمَ إليها حتى الآن فهي: الإسبانيّة، الألمانيّة، الإنكليزيّة، الأوكرانيّة، الإيطاليّة، البرتغاليّة، البلغاريّة، الروسيّة، والفرنسيّة.

أمّا المؤلّفات حول الرَّيحاني فقد بلغت حتى اليوم 151 كتاباً في 12 لغة صادرة في 24 دولة. واللافت أن عدد المراجع حوله، من مقالات وأبحاث وبيانات صحافيّة، قد وصل إلى 5467 مدخلاً موزّعاً على 36 لغة في 61 بلداً.

الحياة

13 Mar, 2017 02:12:28 PM
0

لمشاركة الخبر