Skip to main content
الاستحضار التاريخي والعجائبي في رواية «مطارح» لسحر ملص

يتناول الوجدان الشعبي قصصًا موروثة تنتقل إلينا عن السلف، وتستقر في الذاكرة، وتصبح جزءًا من المنظومة الثقافية والفكرية، والهوية الخاصة، سواء كان هذا الموروث تاريخيًا أم أسطوريًّا أم شعبيًّا أم دينيًّا، إذ تصب جميعها في وعاء واحد لتشكّل معًا موروثات الشعب وثقافته.

رواية « مطارح» للكاتبة سحر ملص، والصادرة عن دار اليازوري سنة 2014م، تدور أحداثها حول مدينة حمص، وأناسها الذين يؤمنون بالسحر والأساطير والجن والأرواح، ويتداولون القصص حولها دون أدنى شك بحقيقتها، ويسلّمون بحدوثها.

تعتمد الكاتبة في سردها للمحكي على منطق الذاكرة، حيث نجد الاستطرادات والانتقائية، وتداخل الأفكار والصور والمشاهد، وتشابك الأزمنة، وحضور قوي للاستيهامات والاحلام والتأملات.

 العنوان ودلالة المكان

العنوان يعبر صراحة عن المطارح، ففيها مسجد نور الدين زنكي والمسجد الأموي، وسوق الحرير وسوق النوري وسوق العرب وسوق الزلحفة، وحمّام الباشا، والمنازل والحديقة، ومقهى الزرابلية، ونهر العاصي، والخان، ومكتبة خالد بن الوليد، وفيها أسماء مناطق وأحياء بعينها مثل؛ حي الحميدية، وحي بابا عمرو، وباب الدريب، وقلعة حمص، ودار السرايا العثمانية، وكانت هذه المطارح رابطًا بين أحداث الرواية ككل.

وكل مكان في حمص كان شاهدًا على الحكايا واللقاءات، الذي عبّر عن شمولية المشهد، متمثلاً بالمكان وأثره في الشخصيات، والشخصيات ودورها في مسار السرد.

نلاحظ أن الكاتبة توثق المكان بكل ما فيه، حتى وإن لم يكن له دور في سياق الحدث، فعندما تتحدث عن سوق العطارين تصور كل ما يحتويه من مكتبات التي تجذب الباشا، وسوق العرب وهو سوق خاص لبيع الفراء، وسوق الزلحفة، وتفيض في الوصف الأمر الذي يغمر الرواية كلها، رغم عدم وجود صله بين الوصف القصة.

« تمسك بيدي ونذهب إلى السوق حيث مسجد نور الدين زنكي، من هناك ندخل إلى سوق الزلحفة، الذي أسألها في كل مرة عن سبب تسميته فتمسك بيدها ذقني وترفع رأسي إلى الأعلى قائلة: أنظر إلى سقفه المصنوع من ألواح التوتياء (الزينكو) كيف تتشابك على شكل كوخ وكأنها ظهر سلحفاة ... آنذاك ابتسم وأنظر إلى العوارض الخشيبة التي يعلوها السقف المعدني... فأشعر بمدى ضخامة السوق، وأنظر إلى عدد المحلات الكثيرة ... التي أبدأ بعدّها لكن أمي تعبر بي إلى سوق الحسبة حيث نمر أما محلات بيع الحلويات، حيث يصنعون نوعا من الحلوى تسمى الحلاوة الخبزية، بلونها الأبيض والزهري، وقد صُفت في واجهة المحلات على شكل مخاريط وراح الباعة ينادون على بضاعتهم الله يرحم الأموات كانوا يحبون الحلاوات».

ولكن تشعر وأنت تقرأ أن الكاتبة تريد تأخذك في صورة شاملة لمدينة حمص قبل أن تصبح منكوبة، هي ضمنيًا تخبرك أنّ حمص مدينة مدهشة بأهلها وأماكنها وتراثها وحياتها، تخبرك عن عادات أهل حمص في التنزه، إذ يعدونها وسيلة ليتعرف الناس على بعضهم وتنشأ المصاهرات فيما بينهم، وتسرد كل ما يميزها عن غيرها من المدن، تريدك أن تتخيل معالم المدينة كما كانت وكما تراها الكاتبة.

 الاستحضار التاريخي

الرواية ليست تاريخية لكن الكاتبة استحضرت التاريخ ووظفته بما يلائم روايتها، منسجمًا مع القصص الغريبة والأسطورية التي غلّفت الرواية، إذ كان مسرحًا للحكايات الغرائبية.

استحضرت التراث فنيًّا وجماليا بطريقة تجعلها تختار قارئها النموذجي الذي يجب أن يتوفر فيه قدر من المعرفة والعلم يقدر بواسطته أن يصل إلى جمالية هذا التوظيف، واللجوء الى الشخصيات التاريخية لكونها تعكس المثال الذين يتطلعون إليه في مرحلة ما من تاريخهم.

وكان للشاعر ديك الجن الحمصي ابن حمص وجود على امتداد الرواية، بأشعاره التي تغنى بها وليد وصديقه سعدي في سهراتهم، وقصته التي أوردتها الكاتبة في الرواية، وعشقه وندمه على قتل زوجته ونهايته. 

« ... قصة عشقه ملأت أركان الدنيا روّى حمص بأحاديثه وغزله بالنساء وأطرب كل الشعراء حتى جاءه يوما الشاعر أبو نواس ليسمع شعره وقد سافر من بغداد إلى مصر... وصل أبو نواس الى حمص وطرق بابه فخرج إليه ديك الجن منكرا نفسه فقال له النواسي: لقد قتنت أهل العراق بشعرك ألست القائل:

موردة من كف ظبي كأنما

تناولها من خده فأدارها

وليلة أطلّ الغيث بنسجها

حتى إذا أكملت أضحى بديبجها

وإذا تضاحك فيها الورد نرجسها

باهي زكي خزامها بنفسجها»

ولعل استحضارها لشخصية ديك الجن الحمصي يتمثّل في حرصها على حفظ التراث الأدبي لمدينة حمص، فارتأت عرض حكايته وعشقه وندمه على قتل زوجته ونهايته في ثنايا الرواية تخليدا لشاعر حمص. 

 الاستحضار العجائبي

عادة ما تحمل الذاكرة بعض القصص الاسطورية ممّا رُويت لنا صغارًا من أحاديث الجدّات، والتي تعد من التراث الغرائبي، ولعل توظيف الكاتبة لهذه القصص توثيقًا لها، كموروثٍ خُلّد في الذاكرة، واستعادة لبعض من التراث الأدبي مدينة حمص المنكوبة.

شكّل العجائبي في الرواية حيلة سردية تعتمد على إمكانيات العجائبية في تشييد صورة تتأرجح بين التصديق وعدم التصديق، تتلبس جسد الأشياء فتهبها بُعدًا آخر، لا يُبقيها في مجالها الطبيعي، وقد مثّلت الفصول وحدات عجائبية مركبة، بوصفها قوى غيبية في السرد.

« أومأ إلى الملك فاقتربت منه قبلت يده واقتربت الجنية، ثم قالت هذا أبي وهذه عشيرتي، وقد حدثت أبي عنك بعدما أرسل كبير حرس الجانليبحث عني وقد وجدني أعيش في غرفتك وأنت تعتني بي وتسليني، فطلب مني احضارك. ثم تحدث ملك الجان بصوت يشبه الأزيز وقال منذ الآن تطيع الأوامر ولا تكشف لأحد أسرانا... تنفذ ما نطلبه منك فإن عصيتنا دمرناك، ثم أمر جنوده فاقتربوا مني وسحبني أحدهم إلى بحيرة زرقاء من البخار غطسني بها ثم أسقاني كأسًا لأجد ذاتي مستلقيا في الحاكورة وقد تملكتني قوة عظيمة».  

فغالبًا ما تصوّر الحكايات العلاقة بين الجن والإنس في صورة علاقة تزاوج، فالجنية قد تعجب بالإنسي - والعلاقة الزوجية بينهما شائعة عمومًا في الخطاب الروائي - وقصص العشق هذه ترمز في الغالب إلى ذلك التوق عند الإنسان في الامتزاج بالمجهول الذي يسيطر عليه ويفوقه في قدراته وإمكانياته.

إن طبيعة الخطاب الذي يتميز بالغرائبية أو العجائبية عبارة عن مثالات وخيالات تخاطب الخيال البشري وتستفزه بالصور والأشكال العجيبة، ولعل ميل الانسان إلى كل ما هو عجيب وسحري لا يصور علاقة الإنسان بعالمه الخارجي فحسب وإنما يصور كذلك صراعه مع عالمه الداخلي.

وقد يكون اللجوء الى حكايات العفاريت والجن والأشجار المسحورة سببا للهرب من مواجهة الواقع ومخادعته، بعد العجز عن إيجاد الخلاص، والبحث عنه خارج الذات، وانتظار المعجزة التي يأتي بها العفريت والترويح عن النفس، كما هو الحال مع وليد:

«أسرع إلى الطاحونة ينام هناك، ويختفي عن الأنظار تكور بين أكياس الطحين وغرق في النوم الذي طار من عينيه لمدة أسبوع، سُحب من ضباب الضياع والخبل والأرق تطوف بباله، أغمض عينيه وانسحب من الدنيا... فتح عينيه شاهد ماردا يمتد برأسه حتى عنان السماء رفسه برجله وصاح به ... انهض من النوم كفاك نوما في الحياة... راح يحمل الاكياس ويفرغها، كانت مليئة بالسوس، اختلط الماء بالطحين، صار العرق يتصبب منه، وما أن انتهى حتى كانت الأكياس ممتلئة بالفحم. 

ما هذا؟ 

قلت لك لا تسأل... ولكنه سيتحول إلى ألماس بين يديك بشرط أن تتزوج الآن من ابنتي... 

ارتعد وليد وظهرت أمامه عروس الجان بملابس الزفاف تقف قرب أبيها وبرمشة عين أحضر شيخا من الجان ومعه شاهدين عقد قرانه عليها وسلمه العروس قائلا ادخل بها الان ... اقرأ كتب الطلاسم بجدارة وستتحول الى ماس وتصبح أغنى أهل الأرض».

ساهم توظيف الحكايات العجيبة، وإلماح السرد إلى الخيال الشرقي وأهميته، وامتداده من الماضي إلى الحاضر؛ في تقبّل المتلقي لوحدات سردية عجائبية، مسرودة على أنها أحداث «واقعية» لا حكايات خرافية، كما ساهم سرد الحكايات العجيبة الخيالية في تسويغ العجيب واللامعقول على مستوى الواقع الذي ترصده رواية «مطارح».

وما يبرر وجود العجيب في الرواية، وتدخّله في السرد، وحياة الشخصيات هو المشابهة بين الحكايات والواقع الذي ترصده الرواية على شكل حكايات، وأن تكون غرابة الواقع هي التي ذكرت الكاتبة بحكايات الليالي، فوجدتها أكبر معادل موضوعي للتعبير عن أفكارها.

« صحيح أن الجان يظهرون لي على شكل نجوم أجساد دخانية وهوام وعقارب وأفاع، لكني صرت أرى الجان مكان البشر، الجبل جني، والنهر جني، والحارة جني، وأنا جني، وهم يتهلون بي يخبرونني أن دربي طويل، وانه لا بد من فك الطلسم الذي أغلق علي لكني لم أفلح في كل ذلك، ذبحت لهم ذبائح على الطريقة الوثنية، لطحت بها وجهي وشربت من دمها، وكتبت بها حجبا كثيرة لكن شيئا من ذلك لم يتغير».

لم تتعامل الكاتبة مع العجائبي على أنه واقع وحقيقة، على الرغم من حضوره الكبير والمهم ودوره الرئيس في السرد، بل نظرت إليه على أنه صورة دقيقة لمضمون اللاوعي لدى كل شخص.

« ذهبت الام لامرأة تفتح في المندل، ... اتصل وليد بزوجته من الجن وهددها بالطلاق إن لم تبحث عنها وتحضرها، جابت الارض واخترقت الحجب وصعدت أعالي لجبال وغاصت في أعماق البحار ولم تجدها؟ كان يشعر أن اختفاءها فيه الكثير من الغموض وتساءل أيكون النهر قد ثأر منه لذنوبه وعربدته على ضفته؟ أتراه ينتقم منه حين سحب الطحين وأرزاق الناس في مائه؟ لعلها زوجته الجنية العاقر قد اختطفتها وقد أصابتها الغيرة لأنها لم تنجب منه؟ أيكون الشاعر ديك الجن قد اختطفها لتصبح واحدة من نسائه؟» 

وتجدر الإشارة إلى الحُجُب التي وظّفتها الكاتبة في روايتها فهي من ضمن معتقدات الناس في القرية التي يعيش فيها البطل، وتتداخل عوالم الجن مع العرّافين مع الاعتقاد بالأولياء في نسيج المعتقد الشعبي للعالم الغيبي، واستدعائه بقوى بشرية تتمثل في العرّافين الذين يملكون التخاطب مع الجن، وتحضيرهم وفق شفراتهم الخاصة في الاتصال بذلك العالم.

« هل أخبرتِ الشيخ درويش بما جرى؟ 

نعم ومنذ أخبرته امتعض وتغير لونه وذكر مثلما ذكرت ثم أخبرني أنه سيغيب عني لأيام ويرجع إلي بالدواء الشافي.

إذن سيكتب لك حجاب التابعة الذي يخيفها فلا تجرؤ أبدا على الاقتراب منك».

مزجت الكاتبة بين الخيال والواقع فتداخلت الذاكرة بالهم اليومي وأصبح النص سردا روائيا لتفاصيل نفسية ولرحلة إنسانية ولعلاقات من الرموز والوقائع والتفاعلات التي ترجمت تعلق وولع الكاتبة بمدينتها.

وتبقى رواية «مطارح» رواية الذاكرة، لأن خطابها يكشف عن المخبوء، واستحضار الماضي، وتقريب الفضاءات المختلفة، وعبور الأزمنة بدون قيود أو حواجز، لرصد التحولات التي عاشتها المدينة، فالرواية مزجت بين ذاكرة التاريخ والذاكرة الشفوية، لتقترب من نبض المدينة وتلامس تخومها، وتستنطق فضاءاتها، لاستحضار رغبات وأحلام هذا الكائن المسربل بالنسيان.

الدستور

31 Mar, 2017 11:04:03 AM
0

لمشاركة الخبر