Skip to main content
الرعاية الصحية... مرض أميركي عضال

تشكل الرعاية الصحية أحد أهم الموضوعات التي يتناولها الأميركيون ويسعون إلى أن تكون في متناول الجميع، إلا أن دخول السياسة وحسابات الأرباح ورجال الأعمال على حساب المواطن يجعلها داء عضالًا يحتاج إصلاحًا في حين لا تملك الأنظمة المتعاقبة إلا منحها المسكنات.

إيلاف: منذ بضع سنوات، بدا أن مستقبل السياسة الصحية الأميركية يتوقف على مدى التشابه بين الرعاية الطبية والبروكلي. كان ذلك في مارس 2012، وكان قانون الرعاية الصحية بأسعار معقولة (أي أوباماكير) معروضًا أمام المحكمة العليا.

ركّز القاضي أنتونين سكاليا على الشرط المثير للجدل في هذا القانون الذي يقتضي قيام كل الأميركيين بشراء تأمين صحي. نعم، اعترف سكاليا بأنّ الجميع بحاجة إلى الرعاية الصحية، لكنّ الجميع يحتاج الطعام أيضًا. إذا كانت الحكومة قادرة على جعل الناس يشترون التأمين، فلماذا لا يمكنها "جعلهم يشترون البروكلي؟"!.

وجع مضاف

النظام العلاجي بحاجة إلى علاج جذري

بالطبع نجا قانون الرعاية بأسعار معقولة، ولكن ليس قبل أن تقرّر المحكمة أنّ توسيع ميديكيد (التأمين الحكومي المجاني لذوي الدخل المحدود) اختياري، تاركة الملايين من الأميركيين الأفقر من دون فوائدها الموعودة.

إلا أن السؤال الذي طرحه القاضي سكاليا لا يزال في صميم النقاش الذي احتدّ منذ ذاك الحين: لماذا تختلف الرعاية الصحية؟، لماذا تنشئ قلقًا ونفقات ووجع قلب ومشقة، أكثر من شراء البروكلي، أو السيارات أو أجهزة الكمبيوتر أو عدد لا يحصى من الأشياء الأخرى التي يشتريها الأميركيون بشكل روتيني كل يوم؟.

بالنسبة إلى أولئك الذين بذلوا جهدًا للتراجع عن قانون العام 2010، يملك السؤال إجابة مؤلفة من كلمة واحدة: الحكومة. وقال توم بريس، عضو الكونغرس السابق (وجراح العظام الفائق الثراء) الذي اختاره الرئيس ترامب لتمثيله في أمور السياسة الصحية، إنّ "لا شيء كان له أثر سلبي على توفير الرعاية الصحية أكثر من تدخل الحكومة الفيدرالية في الطب من خلال ميديكير".

علاج مريض
كما أشار السيناتور راند بول (جراح آخر) ورئيس مجلس النواب بول ريان، إلى أن القدرة على تحمل تكاليف جراحة العيون الليزك - التي لا يغطيها التأمين الصحي عمومًا - تُظهر أن سوق الرعاية الصحية التي تكون أكثر حرية بكثير، ستكون أقل تكلفة بكثير. ففكرتهم "الإصلاحية" هي خفض التأمين العام والخاص، بحيث تكون للمستهلكين مصلحة شخصية، وبالتالي يتسوّقون بحكمة أكبر.

في كتابها "مرض أميركي" An American Sickness، (منشورات بنغوين برس، المؤلف من 406 صفحات، ويبلغ ثمن النسخة منه 28 دولارًا أميركيًا) تقدم الطبيبة التي أصبحت صحافية، إليزابيث روزنتال، جوابًا مختلفًا جدًا. يشار إلى أن روزنتال مراسلة سابقة لصحيفة نيويورك تايمز، وهي الآن رئيسة تحرير كيزر هيلث نيوز غير الربحية، ومعروفة بفضل سلسلة من المقالات التي نالت جوائز، وتحمل عنوان "دفع حتى الضرر".

في هذه المقالات، سجّلت روزنتال، تفاصيل الأمراض التي لا نهاية لها على ما يبدو في مجموعة الصناعة الطبية في أميركا، من الأدوية التي ازدادت تكلفتها، لأنها أصبحت قديمة الطراز، إلى جراحة استبدال الورك المكلفة جدًا، وقد كان أرخص بالنسبة إلى المريض أن يسافر إلى مستشفى في بلجيكا.

اختلالات متفاوتة
ترى روزنتال أن سوق الرعاية الصحية مختلفة، وتلخص هذه الاختلافات بأنها "القواعد الاقتصادية للسوق الطبية المختلة"، وعددها عشرة - بعضها واضح (رقم 9: "هناك أموال يتم تقديمها في الفوترة لأي شيء وكل شيء")؛ وبعضها الآخر مضحك (رقم 2:" المداواة مدى العمر، أفضل من العلاج") - لكنّ الرقم 10 هو الأهم: "الأسعار سوف ترتفع إلى الدرجة التي تتحملها السوق".

بالنسبة إلى روزنتال، هذا هو الجواب على سؤال سكاليا. سوق الرعاية الصحية لا تعمل مثل الأسواق الأخرى، لأن "ما ستتحمله 
السوق" أكبر بكثير مما يجب أن تتحمله سوق العمل الجيد. وتصف روزنتال الرعاية الصحية الأميركية بأنها ليست سوقًا فعلية؛ بل هي أشبه بمضرب الحماية، يتمّ تصنيفها كاحتمال فقط، لأن الكثير من المؤسسات المختلفة يساهم في تغطية مشروع قانون الابتزاز، ولأن حياتنا هي التي على المحك في نهاية المطاف.

إذا نظرنا إلى مركز أزمة الأسعار في أميركا لوجدنا أن المستشفى الذي كان متواضعًا ذات مرة، في جزء، وبفضل البرامج التلفزيونية الناجحة، أصبحت هذه المستشفيات بمثابة ركائز عامة لمساعدة المجتمعات المحلية. مع ذلك، في حين إن معظمها مصنف قانونيًا كمنظمات غير ربحية، فهي أيضًا شركات كبيرة جدًا، تحقق أقصى قدر من الفوائض، يمكن استثمارها في الرواتب المتزايدة والتوسع الذي لا هوادة فيه، حتى عندما لا تكسب أرباحًا أو تجازي المساهمين. وقد نمت أكثر وأصبحت شبيهة بالشركات التجارية مع مرور الوقت.

من خيرية إلى رأسمالية
تروي روزنتال قصة مركز بروفيدانس بورتلاند الطبي، وهو نظام مستشفى في الشمال الغربي، أسسته الراهبات: "قبل أربعة عقود، كان مركزه التشغيلي في بورتلاند، أور، يتألف من مستشفيين متواضعين هما: بروفيدانس وسانت فنسنت. ما حدث، هو أنّ والدتي كانت ممرضة في سانت فنسنت لأكثر من نصف تلك السنوات، وبالتالي كان لها مقعد في الصف الأمامي، فيما تحولت بروفيدنس من جمعية خيرية كاثوليكية إلى أحد أكبر أنظمة المستشفيات غير الربحية في البلاد، مع عائدات سنوية قدرها 14 مليار دولار في العام 2015".

تضيف "على طول الطريق، ابتعدت بروفيدنس عن مهمتها الأصلية، فاستبدلت الراهبات بأنظمة وآلات محاسبة. وبعدما كان يديرها أطباء في السابق، ملأت بيروقراطيتها المتزايدة بالمبرمجين المحترفين القادرين على التلاعب بقواعد سداد التأمين لاستخراج أقصى قدر من الإيرادات".

الأم تيريزا أم غولدمان ساكس؟
في الوقت نفسه، وبحسب روزنتال، "توقفت بروفيدنس عن الدفع للأطباء كموظفين، وأعادت تصنيفهم كمتعاقدين مستقلين (لكنّهم ليسوا مستقلين لدرجة التغيّب عن "مدرسة آداب التعامل"، التي صممها مسوّقوها). لكن حتى مع تقاضي مديرها التنفيذي أكثر من 4 ملايين دولار، وصفت بروفيدنس نفسها بأنها "وزارة الرعاية الصحية الكاثوليكية غير الربحية"، التي تدعم "تقاليد الرعاية" التي بدأتها الراهبات (المدرجة الآن تحت اسم "الرعاة" في المواد الترويجية). واختصرت روزنتال ذلك بأنّه "مزيج غريب من الأم تيريزا وغولدمان ساكس".

في الواقع، ليس هناك الكثير من الأم تيريزا، فدمج نظام شبيه ببروفيدنس في كل جزء من الرعاية الصحية الأميركية قد أنشأ على الأقل بنية مكثَّفة بقدر الأنظمة الأوروبية التي ينتقدها المحافظون، ولكن من دون الاقتصاد أو تنسيق الرعاية الذي قد يقدّمه تكثيف مماثل إذا كان مركزًا على الناس بدلًا من الأرباح.

وقد برهن زيل كوبر، عالِم الاقتصاد في ييل، أن الأسعار التي تدفعها شركات التأمين الخاصة ليست أعلى بكثير من تلك التي يدفعها برنامج ميديكير. (إنها في مدار مختلف عن تلك المدفوعة في الخارج). كما إنها تتغير بشكل كبير من مكان إلى آخر، وحتى من مؤسسة إلى أخرى، من دون أي دليل على أن ارتفاع الأسعار تنتج منه رعاية أفضل. ويعطي مقدمو الخدمات أسعارًا مرتفعة، ليس عندما يحتاجونها أو حيث يحتاجونها، بل متى وأين يمكنهم ذلك.

خطيئة أصلية
تقدم روزنتال مناقشة توعوية حول زيادة أسعار الأدوية، فضلًا عن الأمراض غير المألوفة، من الفحوص الطبية المفرطة والأجهزة الطبية المبالغ فيها، مثل الورك الاصطناعي والركبة، وهي سوق يهيمن عليها عدد قليل من الشركات المصنعة كشركات الأدوية الكبرى، التي تتهرب من المنافسة المباشرة لمصلحة بناء علاقات حميمة مع الناس الذين يصفون منتجاتها.

وفي كل حالة، تقوم روزنتال بتشخيص حوافز النظام من خلال التذكير بالنصيحة المهنية التي أسداها ويلي سوتون، الذي قال إنه سلب البنوك، لأن "هذا هو المكان الذي يكون فيه المال". وتبيّن الكاتبة أنّ ما قد يراه الغرباء بمثابة عدم كفاءة أو تضارب مصالح، بناه المطّلعون بعناية لرفع الحد الأدنى إلى أقصى درجة. كما إنها تحبك حكايات مؤثرة عن أولئك الذين يدفعون غاليًا لهذا الحد الأدنى المعزز، الذي، في النهاية، يشمل كل واحد منا.

يفشل كتاب روزنتال في شرح لماذا يستمر هذا النظام المتصدّع. في البداية يبدو أن روزنتال تؤيّد الرئيس ريان والسيناتور بول، واصفة "فكرة التأمين الصحي" بأنها "في بعض النواحي الخطيئة الأصلية التي حفزت تطور المجمع الطبي الصناعي اليوم". ولكن، كما تناقش روزنتال (بإيجاز)، فالبلدان، حيث يحظى الناس بتأمين أفضل، ليس لديها أي شيء، مثل مكافآت التعامل الذاتي والتكاليف الفاحشة.

ليست خيارًا ولا ترفًا
على نحو ما، على الرغم من عدم مخاطرة المواطنين بأموالهم، تنجح الديمقراطيات الغنية الأخرى في الحصول على تكلفة أقل للشخص الواحد، فضلًا عن زيادة الاستفادة من خدمات الطبيب والمستشفى وتحسين التدابير الصحية الأساسية.

والحقيقة هي أن الناس بحاجة إلى التأمين الصحي لتسديد أعلى التكاليف. قد يكونون قادرين على دفع تكلفة عملية الليزك، وهو إجراء غير ضروري وغير طارئ، يمكن للمستهلكين أخذ وقتهم للاستفسار عنه واختيار السعر الأفضل. لكنّ العناصر العالية التكلفة، كالعناية بالسرطان، وجراحة القلب، وزرع الأعضاء، هي أبعد من متناول الجميع، ما عدا الأغنياء، وليس من السهل مقارنة الأسعار عندما تكون هناك حاجة إليها. وكما ينبغي ألا نلوم فكرة الرهون العقارية على وقوع الأزمة المالية، ينبغي ألا نلوم فكرة التأمين الصحي على أزمة الرعاية الصحية.

الجدير بالذكر أنّ الفرق بين الولايات المتحدة وبلدان أخرى ليس دور التأمين، بل دور الحكومة، وبشكل أكثر تحديدًا، الطريقة التي يتحرّك فيها أولئك الذين يستفيدون من السوق المختلة في أميركا لاستخدام الحكومة لحماية أرباحهم ومكتسباتهم.

الخبرات مكلفة
وفي كل بلد يحصل فيه الناس على رعاية طبية متطورة، يجب أن يعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على الخبرة السريرية لمقدمي الخدمات وعلى الحماية المالية للتأمين، ما يؤدي بدوره إلى فسح المجال أمام التكاليف الباهظة. لكن في كل دولة غنية أخرى، لا توفر الحكومة تغطية لجميع المواطنين فحسب، بل توفر أيضًا ضغوطًا مضادة قوية على أولئك الذين يسعون إلى استخدام القوة السوقية الكامنة من أجل رفع الأسعار أو تقديم خدمات مربحة، ولكن غير ضرورية - عادة في شكل حدود قاسية على التكلفة التي يمكن أن يفرضها مقدمو الرعاية الصحية.

ففي الولايات المتحدة، تراجعت هذه الضغوط المضادة مرارًا وتكرارًا. وقد دعمت الصناعة وحلفاؤها المنتخبون الهبات الممنوحة للقطاع الطبي بسعادة. لكنّهم يصرّون على أنّ أي شيء أكثر من ذلك سيقتل السوق.

على الرغم من أن هذا الإدّعاء يتعارض مع الأدلة، فإنه يتفق مع هدف المكافآت القصوى لهذه الصناعة (والتبرعات التي تقدّمها). نتيجة لذلك، يحصل المستفيدون من برنامج "ميديكير" على تغطية للعقاقير الطبية (التي وافق عليها الجمهوريون في العام 2003)، غير أنّ مسؤولي ميديكير لا يملكون القدرة على فعل ما يفعله كل بلد غني آخر: التفاوض على أسعار أقل للأدوية.

ضغوط السلطة
وفي يناير، قال الرئيس ترامب إن شركات الأدوية كانت تنجو بفعلتها من دون عقاب، لأنها حظيت "بالكثير من جماعات الضغط والسلطة"، المصرّين على أنهم سيجعلون ميديكير تدخل في مساومة. هل يجب أن نندهش حقًا أن رئيس الصفقة لم يتكلّم عن الموضوع بعد اجتماعه مع المديرين التنفيذيين للصناعات الدوائية في وقت سابق من هذا العام؟".

من دون رؤية واضحة للاقتصاد السياسي للرعاية الصحية، فإنه من السهل أن نرى المشكلة من وجهة نظر القاضي سكاليا. إذا تمكنا من البدء في التعامل مع الرعاية الصحية، مثل البروكلي، فإن السوق قد تجد حلّاً للمشكلة. ولكن كما يوضح كتاب روزنتال المهم، فسوق الرعاية الصحية مختلفة حقًا.

وفي حديثها عن سلسلة تايمز في العام 2014، قالت روزنتال إن هدفها هو "إطلاق محادثة بصوت عالٍ جدًا" سيكون من الصعب تجاهلها سياسيًا: "نحن بحاجة إلى مثل هذه المحادثة، ليس عن كيفية فشل السوق فحسب، بل أيضًا عن كيفية تمكننا من تغيير الحقائق السياسية التي تقف في طريق إصلاحها".

نيويورك تايمز

10 Apr, 2017 05:50:33 PM
0

لمشاركة الخبر