Skip to main content
قراءة أولية في رواية هاشم غرايبة «جنة الشهبندر»

ازدحمت في رأسي الأفكار بعد أن أكملت قراءة رواية هاشم غرايبة الجديدة «جنَّة الشهبندر» وهي الرواية الثامنة لهاشم غرايبة والصادرة عن دار مدارك للنشر عام 2016 وتقع في مائتي صفحة من الحجم المتوسط، لم أعرف من أين أبدأ في الحديث عن هذه الرواية الثرية والتي تحتاج لأكثر من قراءة لإمتلاك القدرة للحديث عنها، ولكني سألخص وأشير لبعض النقاط بلا أيِّ ترتيبٍ منطقيٍّ حيث ما زالت مساحات من الرواية غير مستقرَّة في ذهني لكثرة ما طرحته من رؤى وتساؤلات وإشكاليات عميقة:
أوَّلاً: الرواية رحلةٌ للعالم الآخر كرحلة المعري في رسالة الغفران ورحلة دانتي في كوميدياه الإلهية وتضمنت هذه الرحلة قدراً كبيراً من النقد للخطاب الديني المتوارث والسائد كما حصل في العملين المشار إليهما، وكان الدليل في هذه الرحلة للعالم الآخر الشيخ الأكبر ابن عربي كما كان دليل دانتي في رحلته الشاعر الروماني « فرجيل « وهذا يحمل مغزى سنكتشفه لاحقاً عند الغوص عميقاً في صفحات الرواية.
ثانياً: اختفت من رحلة « جنَّة الشهبندر « النار والجحيم وحضرت الجنةُ والبرزخ وهذا يحمل معنىً عميقاً تناولته بعض القراءات اللاهوتية والمتضمن أن الجحيم فكرةٌ تأديبيةٌ وليس عقاباً جسدياً حقيقياً لأن ذلك يتناقض مع تنزيه الله عن التعذيب.
ثالثاً: اختفى في هذه الرواية صوت الراوي العارف وبرزت أصوات رواةٍ متعدِّدين هم شخصيات الرواية كالشهبندر وابن عربي وندى ولوليتا وحياة وسمية.. الخ.
رابعاً: حضرت شخصياتٌ تاريخيةٌ ذاتُ حضورٍ فكريٍّ وفلسفيٍّ وثقافيٍّ في ثنايا الرواية وكان حضورها يجسِّد حواراً ثقافياً تاريخياً بين مكوِّنات الثقافة العربية ومدارسها، فحضر العقل البرهاني ممثلاً بابن رشد وابن ميمون وحضر العقل التجريبي – عقل الأحوال بلغة ابن عربي – ممثلاً بجابر بن حيان، وحضر العقل العرفاني بغزارة ممثلاً بدليل الرحلة والأكثر حضوراً وسرداً فيها الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وحضرت رابعة العدوية والتبريزي والنفَّري وجلال الدين الرومي، وحضرت الثقافة والموسيقى والتحضُّر ممثلة بزرياب واسحق الموصلي، وحضرت شخصيات عمَّانية معاصرة كعرار والشهبندر وعمدة عمان وسمية وندى وترفة.. الخ، وكأن هذا الحضور للتاريخ الثقافي بحضور شخصيات معاصرة محاولةٌ لقراءة مكوِّنات هذه الثقافة ومدارسها المختلفة مع ملاحظة عدم حضور العقل السلفي في هذه الرحلة وكأنه العقل المسكوت عنه.
 تـنحاز هذه الرواية للعقل العرفاني كمخيال يتعامل مع الكشف والكليّات الذهنية وأنَّ كثيراً من المخيال العرفاني كان كشفاً لعلومٍ قادمةٍ كما تبين ذلك من خلال حديقة الأسرار والتي هي تسمية من تسميات الشيخ الأكبر الذي يسمِّي العلوم العرفانية بعلوم الأسرار، وكنتُ أتوقَّع أن يدور حوارٌ أطول بين العقلين العرفاني والبرهاني من خلال تكثيف الحوار بين ابن عربي وابن رشد وهما متعاصران والتقيا فعلياً في قرطبة ومثَّلا مدرستين في الثقافة العربية والعقل العربي في تمظهره التاريخي واستعاض الروائي بحضورهما معاً في تفاصيل الرحلة وفي مفاصلها الهامة كزواج نعيم وحياة في حديقة الأسرار وندوة الدكتورة سمية التي أدارها ابن رشد، حيث نقرأ هذه المزاوجة الذكية التي تُجريها الرواية على لسان ابن رشد بين العقلين البرهاني والعرفاني، وهذه المزاوجة ليست غريبةً على فكر ابن رشد العقلاني المنفتح على الثقافة بكلِّ تجلياتها، نقرأ ص 117: «تنحنح ابن رشد ووقف، فشكر سُمية على محاضرتها، ثمَّ قال: يتأتى للإنسان الباحث عن المعرفة قوى كبرى مؤثرةٌ ملموسة، سواءً كانت هذه المعرفة عقلانية أو روحية، والتماثل بين هذه الأشياء التي توصل لصنعها العقلانيون وبين الرؤى والمخيال والكشف الصوفي كبير للغاية، يصل حد صعوبة الفصل فيما إذا كان ذاك الشيء من نتاج العلوم العقلية أو هو من وحي تجلياتٍ صوفية»، وينهي ابن رشد محاضرة سمية وما أثارته من نقاش فنقرأ ص 117 من الرواية: «قبل أن ألتقط الكلام، وأواصلَ شغبي، وقف ابن رشد بقامته المديدة يُنهي اللقاء قائلاً: دائماً كان المتحول ينتصر على الثابت، لا دائمَ إلا الحركة».
خامساً: عدم حضور العقل السلفي - والإستثناء المقصود هو حضورٌ كثيف – وهو موقفٌ من الرواية بتفاهة وضحالة وظلامية هذا العقل، وكأن الرواية تقول أنَّ هذا العقل الفاسد لا يدخل جنَّة الشَّهوات، ولكنه عقلٌ موجودٌ بشراسةٍ وكان لا بدَّ من حضوره لأن حوار الثقافة العربية المعاصرة هو بين هذا العقل المتخلِّف المسيطر وبين العقل البرهاني والتجريبي اللذين سيقودان ثقافتنا نحو التقدم والخروج من نفق التخلف.
خامساً: من المفارقات الجميلة في الرواية أن « نعيم « ولعبة التحوُّلات التي هي جوهر الحياة _ التغيُّر والتحوُّل الدائمان – كان وليداً للعقل البرهاني – علم الأحوال أو العلم التجريبي - والحياة ببساطتها ممثلاً بأبيه جابر بن حيَّان  وبأمِّه « ندى « ابنة الشهبندر، وكأن الرواية تقول أن مستقبل العقل والثقافة يكمن في العقل العلمي التجريبي في امتزاجه بالتاريخ والحياة اليومية، وكأن هذه الفكرة جوهريةٌ في طرح الرواية فنجد رفض الدكتورة سمية القاطع لدعوة النفَّري للزواج بها وتعليقها العميق على أسباب الرفض وسكوتها على تعليق ندى عند زيارة ابن رشد لبيتها بأنه مشروع زواجٍ من ابن رشد، نقرأ ص149 من الرواية: «قالت سمية وهي تحتضن فنجانها بكفيها وتنظر فيه: النفَّري يريد وأنا لا أريد، النفَّري رجل « مواقف ومخاطبات « وأنا ابنة الحياة « ونقرأ أيضاً ص 150 من الرواية: « بعد أن غادر ابن رشد التحقتُ بسُمية في الحديقة، بادرتها مازحةً: عريسٌ جديد ؟ وضحكنا».
سادساً: المشهد الجنسي بين ابن عربي ورابعة العدوية يحمل معنىً متعلِّقاً بمقولاتٍ صوفيةٍ عميقةٍ تجعل من الحبِّ الجنسي باباً للكشف وطريقاً للوصول إلى الله، ولكنَّ هذا الحبُّ الصوفيُّ – في الرواية – لا ينتج حضوراً متناسلاً كما حضر امتزاج العلم التجريبي بالحياة الذي أنجب « نعيم «، وهذه أيضاً مقولةٌ من مقولات الرواية حول دور العرفان التخيُلي والصوري واللغوي وغير القادر وحيداً على التكاثر دون امتزاجه بالعقل البرهاني والتجريبي 
سابعاً: هناك حضورٌ لبغداد بسقوطيها 1258 و 2003 وامتزاج هاتين اللحظتين معاً وكأنهما لحظةٌ واحدةٌ تتجدَّد، وكنتُ أتوقَّع حضور شخصيةٍ عراقيةٍ معاصرةٍ في مشهدية سقوط بغداد كحضور عرار ليمثِّل صورةً من صور عمَّان، مثَّل امتزاج سقوطي بغداد عاصمة الخلافة ومركز الثقافة العربية في أوج ازدهارها هو كنايةٌ عن السقوط التاريخي الذي لم يتوقف للحواضر والثقافة العربية.
ثامناً: المشهد الاحتفالي بزواج نعيم ابن ندى وجابر بن حيان يتم بحضور مكوِّنات الثقافة العربية الإنسانية الأصيلة المنفتحة والباحثة عن أفقٍ لها للحضور في المشهد الإنساني والمشاركة فيه، نقرأ هذا المشهد ص 189 من الرواية من حوار الشهبندر مع ذاته: « يا لغرابتي: ابنتي وحفيدي لا ينتبهان، بل لا يريدان أن ينتبها لوجودي، والعلاَّمة ابن حيان زوج ابنتي لا يراني موجوداً، ضيفي الكبير شيخي الجليل ينصرف للسلام على ابن حيان وينشغل عني بعقد قران نعيم وحياة.
الشيخ الأكبر وابن حيان، جلال الدين الرومي وابن رشد، ابنتي ندى والدكتورة سُمية، زرياب وابن ميمون، حسام الدين شلبي واسحق الموصلي، يعتلون منصَّة الاحتفال».
تاسعاً: في لفتةٍ جميلةٍ وموحيةٍ نرى أصدقاء هاشم غرايبة القريبين والذين هم أصدقاء سُمية الافتراضيون، نقرأ ص 158 من الرواية: «لما دخلنا ساحةَ السوق، رأيتُ أصدقاء سُمية الافتراضيين: رأيتُ أمين الربيع يقف على رُجمٍ من زبرجد يُنشد قصيدةً في نفرٍ من الصبايا الحائرات المستمتعات بشعرٍ لا يفقهن خوافيه، وعلى منصة عكاظ العاجية رأيت الشاعر عارف عواد الهلال يُلقي سينيةً عذبةَ الإيقاع، وكان معاذ بني عامر يجلس على بساط من سندس وإستبرق حوله رؤوسٌ بيضاء بوجوهٍ مقطبةٍ حرجاً مما يقول الفتى». 
في هذه الرواية تمتزج اللغة الصوفيةُ باللغة اليومية، التاريخ بالحاضر، التصوُّف بالبرهان، في رحلةٍ تحاول استكناه أسئلة الثقافة العربية المعاصرة وتضع على محكِّ النقد وتحت الضوء الخطاب الديني السائد وتدفع به بعيداً عن المكوِّنات التي يجب أن تسود وتتحاور لتخليص الإنسان العربي من رواسب التخلّف والجهل والظلام. 

28 Apr, 2017 10:37:51 AM
0

لمشاركة الخبر