Skip to main content

معاني كلمة: الوحي

(١) المعاني اللغوية لكلمة «الوحي»

لم يشر أحد علمناه من اللغويين ومن ألفوا في الدخيل من كلام العرب إلى أن لهذا الحرف أصلًا غير عربي، ويؤيد ذلك أن من المعاني التي دل العرب عليها ببعض صيغ هذه المادة شئونًا طبيعية تسبق الأمم في بداوتها إلى التعبير عنها من غير انتظار للدخيل، فقد قال اللغويون: إن الوحَي كالوحْي الصوت عامة، وقيل: الوحاة صوت الطائر، ووحاة الرعد صوته الممدود الخفي، والوحي النار … إلخ. وإذا كان في اللغة العربية ألفاظ أصيلة لم تستمد من لسان أجنبي — وليس ذلك موضعًا لنزاع — فأول ما ينبغي أن يكون من هذه الألفاظ ما يعبر به عن مثل النار والصوت وصوت الرعد أو صوت الطيور.

والوحي: مصدر «وحى إليه يحي» من باب «وعد»، وأوحى إليه بالألف مثله، ومصدره: الإيحاء، وهو قليل الاستعمال، وبعض العرب يقول: وحيت إليه ووحيت له وأوحيت إليه وأوحيت له، ولغة القرآن الفاشية أوحى بالألف من التعدية بإلى، وأما في غير القرآن العظيم فوحيت إلى فلان مشهورة، يقال: وحيت إليه بالشيء وحيًا وأوحيت، وهو أن تكلمه بكلام يفهمه عنك ويخفى على غيره، بأن يكون على سبيل الرمز والتعريض، أو يكون بصوت مجرد عن التركيب، أو يكون إسرارًا لا يسمعه غيره، ووحيت إليه بخبر كذا أي: أشرت وصوت به رويدًا، ويقال: وحى إليه وأوحى: أومأ ببعض الجوارح أو أشار بسرعة، ومنه: وحى الحاجب واللحظ بمعنى سرعة إشارتهما، ويقال: وحيت الكتاب وحيًا فأنا واحٍ، والكتاب موحي، وأوحى لغة فيه أيضًا، والوحي: الكتابة والمكتوب، وأوحى الرجل: إذا بعث برسول ثقة إلى عبد من عبيده ثقة، وأوحى إليه: بعثه، وأوحى إليه: ألهمه، ويقال: وحت نفسه: وقع فيها خوف، وأوحى الإنسان: إذا صار ملكًا بعد فقر، ووحي وأوحى: إذا ظلم في سلطانه، والنائحة توحي الميت: تنوح عليه، والوحي بالقصر والمد: السرعة، والوحي: النار، ويقال للملك: وحى من هذا، فكأنه مثل النار ينفع ويضر، والوحي: السيد من الرجال، والوحي: الصوت يكون في الناس وغيرهم كالوحي، ووحاة الرعد: صوته الممدود الخفي، وقيل الوحاة: صوت الطائر.

وذكر اللغويون لكلمة الوحي نفسها معاني كثيرة، هي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، والمكتوب، والأمر، وكل ما ألقيته إلى غيرك، والتسخير، والرؤيا الصادقة، والصوت يكون في الناس وغيرهم، ثم قالوا: إن الوحي قصر على الإلهام وغلب استعماله فيما يلقى من عند الله تعالى إلى الأنبياء كما في «المصباح المنير»، أو إلى الأنبياء والأولياء كما في «مفردات الراغب الأصفهاني».

وليس لنا من سبيل إلى ترتيب هذه المعاني وتعرف ما هو سابق منها وما هو لاحق، ما هو أصل منها وما هو فرع، بل لا سبيل لنا إلى تمييز ما استعملته العرب في جاهليتها مما قد يكون ولد في الإسلام أو أنشئ إنشاءً.

على أن المفهوم من كلام اللغويين إذ يقولون: إن الوحي غلب استعماله فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى — وهم يريدون الغلبة في لسان الدين الإسلامي — إن الإسلام قصر الوحي على معنى من معانيه كانت العرب تعرفه في استعمالاتها وكانت تفهمه على وجه من الوجوه.

أما تفاصيل معنى الوحي فقد أحاطتها العهود الإسلامية بنظريات لم يكن ليتوجه إلى مثلها العقل العربي في بداوته، كما سيأتي بيانه.

وقد عرض كثير من اللغويين لبيان المعنى الأصلي لمادة الوحي الذي اشتق منه المعنى الذي غلب في الاستعمال، وهذا دليل على أنهم يجعلون هذا المعنى فرعيًّا وإن لم يكن من مستحدثات الدين الإسلامي.

ويمكننا أن نجمل هذا البحث في آراء أربعة:

أولها: 

أن أصل الوحي في اللغة كلها إسرار وإعلام في خفاء، فهذا أصل الحرف، ولذلك صار الإلهام يسمى وحيًا، وقد صرح بذلك «لسان العرب».

وثانيها: 

أن اشتقاق الوحي بمعنى الإلهام من الوحي بمعنى السرعة؛ لأن الوحي يجيء بسرعة ويتلقى بسرعة، وهذا ما يشير إليه الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات في غريب القرآن»، وأبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي في كتاب «ألف باء»، وابن خلدون في «المقدمة»، واختاره القاضي عياض في «الشفاء».

وثالثها: 

أن أصل المادة السرعة والخفاء معًا، فالوحي الإعلام السريع الخفي، وإليه ذهب ابن قيِّم الجوزية في كتاب «مدارج السالكين» وأبو البقاء في «الكليات».

ورابعها: 

أن أصل هذه المادة هو إلقاء الشيء إلى الغير، فأصل الإيحاء إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه، وهذا رأي ابن جرير الطبري في تفسيره لقوله — تعالى: ﴿ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾.

(٢) الوحي في القرآن

ورد ذكر هذه المادة في سبعين آية من القرآن، منها أربع وستون آية مكية، وست آيات مدنيات، وأكثر ما ورد في الآيات القرآنية إنما هو الفعل ماضيًا ومضارعًا.

أما كلمة «الوحي» فجاءت في القرآن ست مرات في سور كلها مكية.


فعل الوحي في القرآن

وفعل الوحي في القرآن مسند غالبًا إلى الله، وهو في كثير من الآيات مبني للمجهول، وقد جاء في آياتٍ إسناد الوحي إلى غير الله؛ فأسند إلى شياطين الإنس والجن في الآية ١١٢ من السورة ٦ (الأنعام، مكية)، وفي الآية ١٢١ من هذه السورة نسبة الوحي إلى الشياطين، وفي الآية ١١ من السورة ١٩ (مريم، مكية) نسبة الوحي إلى زكريا، وفي الآية ٥١ من السورة ٤٢ (الشورى، مكية): ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾؛ أي الرسول، وفي الآية العاشرة من السورة ٥٣ (النجم، مكية): ﴿فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ﴾، ومن وجوه تفسير هذه الآية فأوحى أي جبريل.

أما الموحى إليه فهو في أكثر الأمر النبي ﷺ أو غيره من الأنبياء — عليهم السلام، وورد الوحي إلى الحواريين في الآية ١١١ من السورة الخامسة (المائدة، مدنية)، وفي الآية ٩٣ من السورة ٦ (الأنعام، مكية) الموحى إليه ليس نبيًّا على الحقيقة، وفي الآية ١١٢ من السورة ٦ (الأنعام، مكية) الموحى إليه شياطين الإنس والجن، وفي الآية ١٢١ من السورة نفسها الموحى إليه هم أولياء الشياطين، وفي الآية ١٢ من السورة ٨ (الأنفال، مدنية) الموحى إليه هم الملائكة، وفي الآية ٦٨ من السورة ١٦ (النحل، مكية) الموحى إليه النحل، وفي الآية ٣٨ من السورة ٢٠ (طه، مكية) الموحى إليه أم موسى، وفي الآية  ٧ من السورة ٢٨ (القصص، مكية) الموحى إليه أم موسى أيضًا، وفي الآية ١٢ من السورة ٤١ (فصلت، مكية): ﴿وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾. وفي الآية الخامسة من السورة ٩٩ (الزلزال، مدنية): ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا﴾ أي الأرض.

وقد فسروا الإيحاء في هذه الآية الأخيرة بالأمر أو الإعلام كما في الطبري، أو التسخير كما ذكره الراغب في المفردات.

أما الآية ١٢ من سورة فصلت فقد فسر الطبري قوله تعالى فيها: ﴿وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ بأن المراد: ألقى في كل سماء من السماوات السبع ما أراد من الخلق، وفي تفسير البيضاوي: ﴿وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾: شأنها وما يتأتى منها، وقيل: أوحى إلى أهلها بأوامره.

أما الوحي إلى أم موسى فقد قال المفسرون إن معنى «أوحينا إليها»: قذفنا في نفسها، وليس وحي نبوة، وفي «الكشاف»: الوحي إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في وقتها، كقوله — تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾، وإما أن يكون معناه: بعثت إليها ملكًا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم، وإما أن يكون معناه أنه أراها ذلك في المنام فتتنبه عليه، وإما أن يكون معناه أنه ألهمها، كقوله — تعالى: ﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾، فمعنى الآية إذن: أوحينا إليها أمرًا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا العلم به إلا بالوحي، وفيه مصلحة دينية، فوجب أن يوحى.

وفسروا الوحي إلى النحل بالإلهام والقذف في النفس، وفسره الراغب الأصفهاني بالتسخير.

ولم يُعْنَ المفسرون بتبيين المراد من الإيحاء إلى الملائكة في آية الأنفال، وقال الراغب الأصفهاني في «المفردات»: «وقوله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ﴾ فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قيل.»

ووحي الشياطين من الإنس والجن بعضهم إلى بعض (آية ١١٢ من سورة الأنعام) كوحي الشياطين إلى أوليائهم، هو الوسوسة والإسرار بالمزين من الأقوال الباطلة.

وأما الآية ٩٣ من السورة ٦ (الأنعام): ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ﴾؛ فقد قال الطبري في تفسيرها: «يعني — جل ذكره — بقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا﴾، يعني ممن اختلق على الله كذبًا فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا، وهو في دعواه مبطل وفي قيله كاذب، وهذا تسفيه من الله لمشركي العرب وتجهيل منه لهم في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحنفي مسيلمة لرسول الله ﷺ بدعوى أحدهما النبوة ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله ﷺ، ونفيٌ عن نبيه محمد ﷺ اختلاق الكذب عليه  ودعوى الباطل.»

أما آية ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ فيقول الطبري في تفسيرها: إن ألفاظ أهل التأويل اختلفت في تأويل قوله تعالى ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ﴾، وإن كانت متفقة المعاني؛ فقال بعضهم: وإذ أوحيت إلى الحواريين: قذفت في قلوبهم، وقال آخرون: معنى ذلك: أَلْهَمَهُم»، وفي البيضاوي: «وإذ أوحيت إلى الحواريين؛ أي: أمرتهم على ألسنة رسلي.»

هذا فيما يتعلق بالآيات التي ورد فيها فعل الوحي موجهًا إلى غير الأنبياء.

وأما الآيات التي أسند فيها فعل الوحي إلى غير الله تعالى فقد سبق القول في اثنتين منها، وهما آيتا الأنعام.

أما الآية ١١ من السورة ١٩ (مريم، مكية) وهي قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ فقد قال الطبري في تفسيرها: «وقوله ﴿فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ﴾ يقول: أشار إليهم، وقد تكون تلك الإشارة باليد وبالكتاب وبغير ذلك مما يفهم به عنه ما يريد.»

وما ورد في الآية ٥١ من سورة الشورى من قوله: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ فسره الطبري بقوله: «أو يرسل الله من ملائكته رسولًا — إما جبريل وإما غيره — فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء، يعني ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي وغير ذلك من الرسالة  والوحي.»

أما قوله تعالى في سورة النجم: ﴿فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ﴾؛ فقال الطبري: اختلف أهل التأويل في ذلك: فقال بعضهم: معناه: فأوحى الله إلى عبده محمد وحيه، وقال آخرون: بل معنى ذلك: فأوحى جبريل إلى عبده محمد ﷺ ما أوحى إليه ربه، وأَوْلى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فأوحى جبريل إلى عبده محمد ﷺ ما  أوحى إليه ربه.

وفيما عدا الآيات السابقة يذكر فعل الوحي في القرآن مسندًا إلى الله — تعالى — أو مبنيًّا للمجهول، وفي حالة بنائه للمجهول يكون الفاعل هو الله تعالى أيضًا كما يفهم ذلك من سياق الكلام.

كلمة «الوحي» في القرآن

وأما لفظ «الوحي»؛ فقد ورد في القرآن ست مرات هو فيها كلها من الله تعالى والموحى إليه فيها جميعها من الأنبياء، وهذا هو إيحاء الله إلى أنبيائه ورسله أي إلقاؤه إليهم ما يريد أن يعلموه من المعارف الدينية.

وعبر القرآن عن هذا المعنى بالتنزيل، فجعل القرآن وحيًا وجعله تنزيلًا كما قال: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾،  وقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾.

وعبر عنه أيضًا بالكلام في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾؛  حيث جعل الوحي نوعًا من كلامه وقسمًا من أقسامه؛ ففرق بين تكليم الوحي والتكليم بإرسال الرسول والتكليم من وراء حجاب.

لكن في السورة الرابعة (سورة النساء، مدنية) ما يدل على أن التكليم غير الوحي وقسيم له، وذلك إذ يقول — عز وجل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾.  فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده، ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلَّمه، وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخص من مطلق  الوحي الذي ذكر في أول الآية، ثم أكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز، قال الفراء: «العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلامًا، بأي طريق وصل،  ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام.»

ويذهب ابن قيم الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» إلى أنه يمكن جعل الوحي قسمًا من أقسام التكليم وجعله قسيمًا للتكليم باعتبارين؛ فإنه قسيم التكليم الخاص الذي يكون من الله لعبده بلا واسطة بل منه إليه، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة.

وعلى هذا فالوحي قسم من كلام الله العام الذي جاءت به آية الشورى، وهي الآية التي جعلت كلام الله لعباده على ثلاثة أنحاء لا يجاوزها.

وقد ذكر المفسرون في تأويل هذه الآية أنه ما صح لأحد من بني آدم أن يكلمه ربه إلا على أحد ثلاثة أوجه؛ إما على الوحي، وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، وإما على أن يسمعه كلامه ولا يراه من غير واسطة مبلغ، كما كلم نبيه موسى — عليه السلام — وإما على أن يرسل الله من ملائكته رسولًا — جبريل أو غيره — فيبلغ ذلك الملك إلى المرسل إليه البَشَرِيِّ ما يشاء الله من أمر ونهي وغير ذلك، وقيل: إن معنى قوله «وَحْيًا» أن يوحي إلى الرسل عن طريق الملائكة، ومعنى قوله: «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» أي نبيًّا كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم، وكثير من المؤلفين — كابن قيم الجوزية في كتاب «مدارج السالكين» وابن حزم في الفصل — يميل إلى جعل الآية مفيدة لتسمية القسم الأول والثالث وحيًا، وتسمية الثاني كلامًا بالإطلاق؛ وذلك لأن الثاني لا يسميه القرآن وحيًا، وإنما «هو تكليم في اليقظة من وراء حجاب، دون وسيطة الملك، لكن بكلام مسموع بالآذان، معلوم بالقلب، زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى»، ويؤيد ذلك أن الآية وصفت القسم الأول بأنه وحي، وذكرت في الثالث فعل الوحي، ووصفت الثاني بأنه تكليم من وراء حجاب، ولعل كلام الطبري في تفسيره ينزع هذا المنزع.

أما الفخر الرازي فيرى: أن كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة وحي، إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي؛ لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى، وكون الأول وحيًا ظاهرٌ، وكذلك الثالث، أما الثاني فيستدل عليه بدليل أن الله تعالى أسمع موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحيًا، قال — تعالى: ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ﴾. 

ونحن إذا استقصينا مادة الوحي في القرآن وجدنا الاسم المصدري يستعمل في الدلالة على القسم الأول غالبًا، ويستعمل أحيانًا في تنزيل القرآن على النبي كما في قوله — تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾،  وتنزيل القرآن من قبيل النوع الثالث؛ إذ هو كلام من الله بواسطة جبريل بنص القرآن نفسه في أكثر من موضع، أما فعل الوحي فقد استعمل في الأقسام الثلاثة، فيكون القرآن قد قصر اسم الوحي على ما يكون إلهامًا وقذفًا في النفس أو ما يكون بواسطة الملك، على حين استعمل الفعل في الدلالة على هذين القسمين  وعلى كلام الله لأنبيائه بلا واسطة من وراء حجاب.

وليس في القرآن تفصيل لمعاني هذه الأقسام الثلاثة.

غير أن المفهوم من جملة الآيات أن القسم الأول غير خاص بالأنبياء؛ فقد أوحى الله إلى الحواريين وأوحى إلى أم موسى، وذلك بناء على أن الوحي فيما ذكر مفسر بالإلهام والإلقاء في القلب. وبعض المفسرين يجعل الوحي في ذلك إعلامًا بواسطة المرسلين في زمنهم كما سبق، ليخص الوحي بمعنى الإلهام بالأنبياء، وعلى كل حال فهذا المعنى روحي لا يقبل أن تتجه الأفكار فيه إلى التأويل على نحو مادي.


وأما القسم الثاني، وهو الكلام من وراء حجاب، فقد كان منذ فجر الإسلام مجالًا لتنازع الآراء وتصادم المذاهب، حتى ليقول الرازي في تفسيره: إن القائلين بأن الله في مكان يستدلون بقوله: ﴿أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ﴾.

وأما القسم الثالث، وهو إرسال الرسول المَلَكِيّ إلى الرسول البشريِّ فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه؛ فإن التوفيق بين نصوص القرآن فيه لم يكن موضع وفاق دائمًا، وهذا النوع من الوحي هو الذي جاء القرآن من سبيله، وقد عبر عنه بنزول الملائكة، وذلك في ظاهر اللفظ حركة من الأعلى إلى الأسفل تعطي صورة مادية للملك ونزوله، وفي الآية ٢٥ من السورة ٢٥ (الفرقان، مكية): ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا﴾، ويتسق مع هذه الصورة ما ورد في القرآن من استواء الله على العرش،  ومن جعل الملائكة حافِّين من حول العرش،  ومن رؤية النبي لجبريل،  ويتسق معه كذلك قوله — عز وجل: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾،  وقوله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾،  وقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾،  وقوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾. 

لكن بعض الآيات يفيد أن الملك النازل بالوحي روح، وأنه يتصل بقلب النبي اتصالًا روحيًّا، كقوله — تعالى: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾،  وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ﴾،  وقوله: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ﴾. 

وهكذا كان الرأي في هذا النوع من الوحي مختلفًا بين من يراه نزول الملك من السماء إلى الأرض لإبلاغ النبي دين الله وشرعه، وبين من يراه تلقفًا روحانيًّا عن الله العلي بواسطة الملك الروحاني.


(٣) الوحي في السنة

أكثر ما ورد في كتب السنة من أمر الوحي — كالذي ورد في كتب الشمائل والسير — إنما هو تفاصيل طويلة الذيول في بدء الوحي إلى النبي ﷺ، وفي كيفية نزول الوحي عليه وبيان العوارض التي كانت تغشاه عندما يأتيه الملك من قبل الله، وبالجملة فهو تحليل موسع لكل ما يتعلق بشأن محمد مع الملأ الأعلى.

والروح السائد فيما تضمنته هذه الكتب ينزع غالبًا إلى تصوير الملك والوحي بصور مادية، فأحاديث بدء الوحي تمثل جبريل جسمًا، حتى إنه يهمز الأرض برجله فينبع عين ماء يتوضأ منه جبريل ويتوضأ منه النبي كما في تاريخ الخميس والمواهب اللدنية. وحديث المعراج كما في البخاري صورة مجسمة للسماء وكل ما في السماء، وفيه تكليم الله لنبيه كفاحًا من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول إنه  رأى ربه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة في إنكار رؤية النبي لله مواجهة، كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعًا للصحابة. 

وقد فُصلت في كتب الحديث والسير مراتب الوحي التي كانت للنبي — عليه السلام — تفصيلًا بلغ حد السرف أحيانًا، فقد نقل صاحب المواهب اللدنية أن الحليمي ذكر أن الوحي كان يأتي النبي على ستة وأربعين نوعًا، ولعل المعتدلين هم الذين أخذوا من الأحاديث سبع مراتب للوحي نعتمد في نقلها على ابن قيم الجوزية في «زاد المعاد» والقسطلاني في «المواهب اللدنية» والسهيلي في «الروض الأنف»:(١) 

الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه ؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والمدة التي كان يوحى إليه في المنام فيها ستة أشهر إلى أن استعلن له جبريل، وقد قال النبي ﷺ: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحذير من الشيطان، ورؤيا مما يحدِّث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام»، والذي هو من أسباب الهداية هو الرؤيا التي تكون من الله خاصة، ورؤيا الأنبياء وحي؛ فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأئمة، ولهذا أقدم إبراهيم على ذبح إسماعيل — عليهما السلام — بالرؤيا. 

 

الدين والوحي والإسلام
09 May, 2017 12:44:46 PM
0

لمشاركة الخبر