Skip to main content
أفكار ليوباردي..أزهار تنبت من عمق الوجع

على طريقة «الشذرات» يقدم المفكر والفيلسوف الإيطالي جاكومو ليوباردي (1798-1873) كتابه «أفكار»، الذي يقرأ فيه الحياة، ويوضح موقفه منها ورؤاه عن الإنسان في أحواله المختلفة، كما تحمل هذه الشذرات موقفا وفكرة فلسفية عن الوجود مصوغة بحس شاعر، وفق أسلوبية ليست هي الشعر ولا النثر، بل هي تلك «الشذرات» التي تنثر الكلمات كما العطر، وتحاول تلطيف القبح الذي يحيط به وبنا.. وهو قبح العالم.
تبدو أفكار ليوباردي غائمة ضبابية وعصية، فالمفكر كما كل الناس حين تتملكه الحيرة، تحدث عتمة كبيرة في النص، لا نستطيع أن نعيدها إلا لعتمة ألمت بذهن صاحب النص.. لذلك وجد ليوباردي مثله مثل نيتشة وكانيتي وسارتر في هذا الجنس الأدبي وسيلة للتعبير عن ما يجيش في الدواخل تجاه الكون، الوجود، والآخر.
وربما كان كان لدراسة الفلسفة واللاهوت معا فضل في التعبير عبر الشذرات عند ليوباردي شاعر إيطاليا الكبير، وامتد هذا الأثر إلى اتخاذ هذا الجنس الأدبي، وربما لحياته كذلك أثر في اتخاذ هذا الجنس وهذه الأسلوبية في اللغة، كان أثر الحياة القاسية والمظلمة والمزرية التي عاشها ليوباردي كبيراً، ويظهر جلياً في عباراته ومفرداته ومجمل أفكاره، حيث توضح مقدمة الكتابة أنه عاش مهمشاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من دلالات.
«أفكار» هو أحد إصدارات مشروع كلمة للترجمة، نقله إلى العربية الشاعر السوري أمارجي.. هو كتاب يقدم خلاصات فكر ليوباردي المتنوعة، كأنما يقدم مزهرية حافلة بأنواع الورود، لكل منها عطرها وشذاها، فيتحدث عن «انمحاء الفرد في المكان والزمان، ضياع أوهام الشباب، البحث اللامجدي عن المتعة، الحدس الكونيُّ الفائق» تلك الأسئلة الحارقة، والتي تشكل في مجملها سؤال الوجود، والذي أعيت الإجابة عليه شاعرنا وفيلسوفنا الكبير.
يقول ليوباردي في إحدى أفكاره مناقشاً حالة الرغبة عن الإنسان وسعيه إلى غايته: «لن يعرف الشاب فن المعيش، ولن، لنقل هكذا، يحقق تألقاً باهراً في المجتمع، ويختبر بعض هذه المتعة، ما دامت الرغبات ملتهبة في نفسه. بقدر ما يبترد، بقدر ما يصير أقدر على التعاطي مع نفسه ومع الآخرين. الطبيعة، تلطفا، حكمت بأن الإنسان لا يتعلم العيش إلا بالتناسب مع زوال أسباب العيش. لا يكتشف الطريق المؤدية إلى غايته إلا بالتوقف عن اعتبار تلك الغاية مثل سعادة فردوسية، لأنه عندما يحصل عليها سيرى كيف أن الفرح ضئيل. لقد حكمت الطبيعة، أن الإنسان لا يستمتع إلا عندما يصير عاجزاً أمام المتعة القوية». 
بأسلوبه الشعري يرسم ليوباردي «111» شذرة، نفخ فيها من روحه ومواقفه الفلسفية فجاء هذا الهجين وكأنه قد ألم بجوامع الكلام، أو على الأقل هكذا وجده مناصروه ممن يهتمون بالمقارنات الأسلوبية في سياق أحاديثهم عن شذرات نيتشه، وأميل سيوران، وكارل كراوس، ورولان بارت، وفرناندو بيسوا، و جان جاك روسو، وتيودور أدورنو، وغيرهم .
يقف ليوباردي متأملاً ليكتب سفر المعاناة والألم، وكما أشرنا فقد كانت حياة البؤس والقسوة والسوداوية التي عاشها ملهمة جداً.. حياة استمرت أربعين عاماً فقط. 
رغم أن عوالم ليوباردي الخاصة، منعزلة وغامضة ومنعزلة، لكنها في ذات الوقت متفاعلة مع جميع القضايا. تبدو قريبة من حياة «أبو الوجودية» سورين كيركجارد.. ناحية الانعزال الخلاق، الذي أهدى البشرية أفكاراً عظيمة ولدت من قلب الفراغ والإهمال، والقسوة والألم والسوداوية، وكذا الحال مع نيتشه الذي أسلمته الحيرة للجنون، لكنه قدم للبشرية أفكاراً مثلت درعاً ضد الوهن، تماماً مثل ليوباردي الذي لم ينعم بسعادة حقيقية في عمره القصير، لكنه أسعد البشرية بمنتجات عزلته الفكرية، فقد كشفت تلك الشذرات زيف الحياة التي نعيشها، وأسست من عمق الوجع، لحياة أكثر جمالاً وصدقاً، هي «أفكار» كالأزهار لكن حذار، فتلك الأزهار يلفها الشوك وتتطلب مهارة لانتزاع الزهرة والتمتع بها. 

13 May, 2017 11:57:57 AM
0

لمشاركة الخبر