Skip to main content
أجواء غزة المقاومة في رواية «مهرة» لمي بنات

يتفق – في بعض الأحيان -  لكاتب، أو كاتبة الرواية، أن يستهل روايته بحدثٍ ما، قد يبدو حدثا غير مهمّ، ولكن مجريات الحكاية تفصح، لاحقا، عن أن هذا الحدث وراءَه ما وراءه. فأنْ تتذكر (سعاد)-  وهي التي أصبحت أرملة بعد استشهاد زوجها علي الوحش، تاركا لها عددا من الأبناء، في بيت شديد الضيق في مخيم جباليا- نقول : أن تتذكر يوم زفافها، وما تغنيه النساء، وما تقوله الأم، وهي تدفع إليها بثوبها المطرز، وبسوارها الوحيد تقدمه لها (نقوطا) وهي تقول: كوني مثلما ربيتك. إلخ.. في وصية تذكرنا بتلك الأعرابية التي حفظ لنا الرواة وصيتها التي أصبحت درسا في الأخلاق- إنما هو مقدمة لمتواليات سردية يعرف القارئ منها أن السيدة سعاد امرأة من يافا، وأنها هي وأولادها يقيمون في مخيم جباليا للاجئين. وأن الحياةَ في المخيم – كما هي في غزة- حياة لا تطاق. ليس بسبب الحصار، أو الخدمات المحدودة، أو نفاد الاحتياجات الضرورية للحياة اليومية، من دواء وغذاء، وكهرباء، ومحروقات، وإنما هناك أيضا الغرغرينا، والقذائف، وبَتْرُ الأطراف. وفوق هذا كله تلك الظلال السلبية التي توحي بها كلمة (مُخيَّم) فقد أصبحت لدى الصبي أحمد سببًا لما يشعُرُ به من هوان. فهو لم يسمع بهذه الكلمة، بصفتها سُبَّة، أو شتيمة، إلا من غريمه، وابن صفِّه الصفيق حاتم. فهو الذي عاب عليه أنه من أبناء المخيمات.

أما (صابر) ابن سعاد الآخر، فقد كان عليه أن ينْقطع عن دراسة التمريض، وأن يُحبِط آمال أمه بالتخرج، لأنّ آمر الفصيل الذي ينتمي إليه قرر اختياره لتنفيذ عملية فدائية خلف خطوط العدو « عزمي حمدان يرسِلُ لك السلام، ويقول لك إنه يحتاجك في العمليّة القادمة « (ص48)

وبما أن صابرًا ابنُ أحد المناضلين المعروفين، وأبوه الشهيد علي الوحش، فلا مكان للخوف في نفسه: « كيف أخافُ الموت، وأنا ابنُ أبي عليٍّ الوَحْش؟ « (ص50) ويضطرُّ صابر للكذب، فلو أخبر أمه بنيته التوجُّه للقيام بعمليَّة فدائية، فلن تسكت حتى تثنيه عن ذلك، ولهذا يغادرُ البيت فجرًا مدَّعيًا أنه سيرافق بعض أصدقائه، ويفطرون سوية، ثم يذهب بعد ذلك لكليته. (ص90) ولكن قلب الأم، على عادته، لا يهدأ، ولا يطمئن لهذا، فقد رأته يغادرُ بلا كتب « أنت تكذبُ يا صابر. انظرْ إليّ « (ص91) وقلبي قال لي: إنك تسير سيرة أبيك. ارحمني وتراجع. « (ص91).

وعلى الرغم من أنَّ غيابه يطول، إلا أنَّ الكلَّ – تقريبًا - يتوقَّعون عودته، إلا من كريم، فهو يرتاب في عودته، وكريم هذا هو أحد زملاء أحمد في المدرَسة « أبي قال لي مرةً: من يختفِ في غزة لا يعود. هذا ما جرى لخالي منذ سنواتٍ خمس « (ص97) ولذا يظل السؤال « هل عاد صابر « يتردد على شفتي أحمد، ليسمع الجواب « لا.. ياحبيبي لم يأتِ بعد .. « (ص105) .

وعلى الرغم من أن هذه الإشارة، وغيرها من إشارات، توحي بأن صابرًا لقي حتفه، إلا أن الكاتبة تخالفُ توقعات القارئ، إذ يتضح في الفصل الموسوم بعنوان « على الأعتاب « أن صابرًا، وأحد رفاقه، يختفيان في منزل أحد الشخوص(خلدون) الذي يمتلك مكتبة عامرة، تتوافر فيها المصنفات التي تحمل أسماءً كبيرة، مثل: طه حسين، ونجيب محفوظ، والمنفلوطي، وغسان كنفاني، ومحمود درويش.. ويتصل الحديث ذو الشجون ويتواصل بين خلدون هذا وصابر، غير أن قلب الأم في تلك الأثناء يخفقُ فزعًا في آخرة الليل، فتنهض مذعورة، وهي تردد صابر.. صابر.. وكأنَّ هاجسًا من الغيب يخبرها أن صابرًا تعرض لأمر فيه حتفُه.

ها هنا تتوافق توقعاتُ القارئ وتوقعات الكاتبة، فقد سمعتْ سعاد كغيرها من الأبناء قرْعا شديدًا على الباب يوشك أن يزلزل البيت، وإذا بأم صفاء تصكّ صدرها وهي تهتِفُ: « صابر . العوض بسلامتكم. صابر يا إسلام فدى الوطن بروحه . وصلني الخبر من مصادر خاصَّة «  (ص126) أما سعاد، فموقفها- ها هنا- لا يختلف عن موقف أي امرأة في غزة، فقد كادتْ أن تزغرد عندما سمعت بأنَّ ابنها صابر قدْ استشهد. وفي مشهد بانورامي تصوِّرُ الكاتبة على لسان الراوي توافد المعزّيات، إلى منزل سعاد، وهن يمزجن بين عبارات المواساة، والزغاريد.  

وفي الفصل الموسوم بعنوان « مع فناجين القهوة « يتضح أن سعاد قد اعتزلت، واحتبست، داخل منزلها على ضيقه، وصغره، فلم تعد منذ استشهاد صابر تخالط الناس، أو تخرُجُ في عملٍ، أو لأيِّ شأن آخر، ولهذا تتقاطر النساء من أطراف المخيم إليها يحاولن إخراجها من تلك العزلة: « يا أم بيْدَر منذ استشهاد صابر وأنت لا تعملين.. ولا تخرجين.. أولادك في حاجة إليك، والمخيم.. ونساؤه .. خمسة أشهر كافية للعودة إلى حياتك العادية. « (ص127) ويستطعن إقناعها بأن الحياة ينبغي لها أن تعود إلى ما كانت عليه قبل استشهاده، فهو ليس الشهيد الأول، ولا الأخير. ومع ذلك، تتوالى الأخبار عن استشهاد أسرةٍ بكاملها في أحد البيوت التي تتعرَّض للقصْف. 

وتلك الغارةُ تستدعي الحديث عن مخيَّم جباليا، وعن غزة، وتعرُّضهما المتكرر للغارات. ونزوح السكان من مكان لآخر تجنبا للقذائف التي تنهال على بيوت المواطنين، وتتركهم جثثا تحت الأنقاض. وهذا المشهدُ الذي يمسك بأنفاس القارئ – أو هذا ما ارادته المؤلفة له -  يتمدَّدُ على الفصل « ليلة في جباليا «(ص135- 154)، من أوله إلى آخره. وهو الفصل الذي توفيت فيه سلوى بعد أن جاءَها المَخاض تحت القصف، وأنجبت بنتا قُدِّرَ لها النجاءُ منَ الموت، فأشفقت عليها أم بيدر (سعاد) وأخذتها لتربيها بعد أنْ فقدتْ أمها، ووالدها الذي اسْتشْهدَ هو الآخر في معْمَعة القَصْف، والغارات، وأسْمَتْها مهرة*. وهو الاسم الذي يجدهُ القارئ مسطورًا على غلافِ الرواية. وهذا الاسم (مهرة) هو الذي بدأتْ به الرواية عندما تذكرتْ سعاد أغاني الزفاف، ففي هاتيك الأغاني توصفُ العروس بالمهرة ذات الضفائر الشقرا، والخدود الحمرا، والعيون الخضرا. (ص9) وبذلك تكونُ الكاتبة قد رسمت قوسًا أوله في الفقرة الأولى من الرواية، وآخره في الفقرة الأخيرة (ص166). لتبدو الحكاية، بذلك الحدث غير المهم، في ظاهره، وكأنَّها حكاية مُستديرَة. حلقة مكتملة، تنْتهي بما بدأتْ به. على أنَّ لميّ بنات في هذه الرواية حظاً مَوْفورًا من الحرص اللافت على تصوير الأجواء الدامية في غزةَ عُمومًا، وفي مُخيَّم جباليا على وجه الخُصوص. وقد يبدو هذا الحرْصُ، في بعض الأحيان، مبالغًا به، وهذه المبالغة جاءَتْ على حساب الأركان المهمة في الرواية. فالكاتبة، التي قرأنا لها من قبلُ مجموعة قصص بعنوان « كل شيء ساكن « لا تكاد تذكر شخصية من الشخصيّات، أو واقعة من الوقائع، حتَّى تفارقُها لأخْرى. دونَ أنْ تفي الشخصيَّة حقَّها من التصوير، والتدقيق في الملامِح، وإلقاء الضوء على عالمها الداخليِّ، وما يعتورُه من مَشاعرَ تقرِّبُنا من التحليل النَفْسي للشُخوص.

وفي المقابل، نجدها تطيل في بعض المشاهد، على الرغم من أنها لا تحتاج لتلك الإطالة، فهي لا توزِّع الأضواءَ على المشاهد بتكافؤ، فطبقُ المجدَّرَة – مثلا- يسْتوْلي على عنايتها، وعناية الراوي العليم، أكثر من استشهاد صابر، الذي لم نعرف كيف اسْتُشْهد، إلا من خبر يرد على لسان أم صفاء، التي لا نعرف عنها الكثير، ولا القليل، ولا نعرفُ شيئا عن مصادرها الخاصة التي تزوِّدها بأخبار الفدائيِّين. ونلاحظ أيضًا شيئا من إلإفراط في وصف مشْهد النزوح، أو الهُروب، من القَصْف، في الفصل قبل الأخير. وهو مشهدٌ لا تكافؤ بينه، وبين مشاهد أخرى قد تكونُ مهمَّة أوْ أكثرَ أهَميَّةً. ومع ذلك يخبرنا الراوي عن سلوى، وأم سلوى، ووالد الطفلة الصغيرة(مهرة) بكلمات سريعة، ومقتضبة،(ص164) وكأنَّ عليْها – أيْ: المؤلفة-  أن تنهي الرواية في أقْربِ الآجال، وهذا شيءٌ يُضفي عليها طابَع التكثيف، وهو إيجابيٌ في مُطْلقِ الأحْوال، بيد أنه يُعدُ، من زاوية أخرى، ثغْرَة. لأنَّ المبالغة في التكثيف قد تكون لها عواقبُ وخيمة على النص، لا سيما إذا لم تكنْ لهُ ضَرورَة.

ويُلاحِظ القارئ شغَفَ الكاتبة مي بنات باللغة، وبتأنُّق العِبارَة. مما جعلَ الحوار – على الرغم من تباين الشُخوص- حوارًا يكاد يكونُ مُتجانسًا، لا يختلف فيه كلام الطفل أحمد عن كلام الأمّ سُعاد، أو أخيه الأكبر بيْدَر، أو صابر، أو إسلام شقيقته. وشغفُ المؤلفة بالعربية الفصحى، أظْهرُ منْ أنْ يخفى، وأبْينُ، تشْهدُ على ذلك كلماتٌ مهجورة ظهرت في النسيج السردي، من مثل: (المُزن: عوضًا عن الغيم) و( صنْبور الماء: عوضا عن أنبوب أو (حنفية) مثلما يُسمِّيها الناس) ومع ذلك نجدُها في بعْض الحوار تتجنَّب هذا التقعُّر، وتتحدَّث على لسان الشخوص بعباراتٍ تقرُّبها من لغة الحديث اليومي تقريبًا شديدًا، مثل « جاورْ المِسْعَد تِسْعد» أو « حسَبْت حسابِك مع أهْل بيتنا « و « ساقتْ ريم على بيْدر بعضَ الدلال « وغيْرها.. ومثل هذه العبارات تدنو بها الكاتبة من الإيهام بالواقع، وتبْدو فيها الشخصيَّاتُ أكثر صِدْقًا، وتتحدَّث بعَفويَّة، بعيدًا عن تلقين الراوي.

صفوة القول أنّ لروايةِ « مُهْرة* « – وهي الأولى للكاتبة- فضيلة التأصيل لروايةٍ مُقاوِمَةٍ، وإنْ كانتْ تُعْوزُها بعضُ اللمسات الرشيقة التي تضفي عليْها ملامِحَ التميُّزِ الفائِق، والإتْقانِ الرائِق.

19 May, 2017 01:28:48 PM
0

لمشاركة الخبر