Skip to main content

الفيروسات المسببة للأورام

بدأ تاريخ علم الفيروسات المسببة للأورام عام ١٩٠٨ عندما نقل عالمان دنماركيان هما فيلهلم إلرمان وأولوف بانج لوكيميا الدجاج من طائر مصاب باللوكيميا إلى طائر متمتع بالصحة عن طريق حقن خلاصة الخلايا المصابة باللوكيميا بعد ترشيحها. ولم تقدر أهمية تلك التجربة حق قدرها في ذلك الحين حيث لم تكن اللوكيميا بعد تعد بصفة عامة مرضًا خبيثًا، ولم تحقق تلك النتائج أثرًا ملموسًا في الدوائر العلمية إلا بعد أن قام العالم الأمريكي بيتون روس عام ١٩١١ بنقل ورم مصمت من دجاج مصاب بورم إلى دجاج متمتع بالصحة. ودلت كلتا التجربتين على وجود نوع ما من «العوامل القابلة للترشيح» التي لها ضلع في تكون السرطان، غير أن تلك التجارب كانت سابقة على التعرف على الفيروسات وتحديد مواصفاتها. ونظرًا لهذا الافتقار إلى المعرفة وكذلك لما كانت الأورام لا تسلك عمومًا سلوك الأمراض المعدية، تباطأ المجتمع العلمي في إدراك أهميتها.

وحقيقة الأمر، أن روس اضطر للانتظار أكثر من ٥٠ عامًا حتى ينال جائزة نوبل عن عمله البحثي فيما صار معروفًا بعد ذلك باسم«فيروس ساركوما روس».

على امتداد السنوات الفاصلة بين التاريخين، بدأ علماء رواد آخرون في علم فيروسات الأورام في إماطة اللثام عن الآليات الجزيئية التي تشترك في نشوء الأورام. وباستخدام الجمع بين السلالات المعرضة للورم من حيوانات التجارب وتقنيات زراعة الخلايا معمليًّا، تعرف العلماء على جينات فيروسية يمكنها تحويل الخلايا الطبيعية إلى خلايا أشبه بخلايا الورم في أطباق الاستزراع كما حثوها أيضًا على تكوين الأورام عند حيوانات التجارب.

وتسمى تلك الجينات جينات الأورام الفيروسية، وكان الكشف عن الطرق المتنوعة التي تحول بها الخلايا إلى خلايا سرطانية أمرًا محوريًّا استخدم في إماطة اللثام عن الآليات الجزيئية الداخلة في نشوء السرطان بصفة عامة. والأهم هو أن اكتشاف الثمانينيات حقيقة أن جينات الأورام الفيروسية لها نظراء في جينوم الخلايا الطبيعية (وتسمى طليعة الجين الورمي) أدى إلى إدراك أنه في وقت ما من الماضي السحيق لا بد أن تلك الفيروسات المسببة للأورام التقطت، أو تبادلت جينات أورامها مع الخلايا التي تصيبها بالعدوى.

تتكون الأورام عندما تتحرر خلية واحدة داخل كائن حي بطريقة أو بأخرى من القيود الطبيعية التي تحد وتنظم عملية نموها، فتبدأ في دون سيطرة. ثم تنتج تلك الخلية الهوجاء بعد ذلك كمية هائلة من الخلايا المشابهة، مشكِّلة ورمًا (أو سرطانًا) يغزو الخلايا المحيطة به وربما انتشر من موقعه الأصلي.


الخلايا السليمة معرضة للعديد من الضوابط والتوازنات الكيميائية شديدة التعقيد التي تضمن عدم نموها أو انقسامها أو بلوغها الشيخوخة موتها إلا في الوقت المناسب. فلا يدهشنا إذن أنه يتدخل في نشوء السرطان ظهور طفرات تغير من وظيفة الجينات التي تنظم الضوابط الحيوية للخلية.

فكل من زيادة نشاط الجينات التي تحث على انقسام الخلية (وتسمى جينات الأورام الخلوية وتشمل طليعة الجين الورمي التي تلتقطها بعض الفيروسات المسببة للأورام) والانخفاض في وظيفة الجينات التي تثبط الانقسام الخلوي أو تستحث موت الخلية (وتسمى الجينات المثبطة للأورام) سوف يكون له تأثير يحرر الخلية من القيود الطبيعية المفروضة عليها وذلك لصالح التوالد غير المنضبط.

واحد من كل ثلاثة أشخاص يصاب بالسرطان في مرحلة ما من عمره، وهو ما يعني ظهور ما يقرب من ١١ مليون حالة جديدة وما يزيد عن ٦ ملايين حالة وفاة سنويًّا.

في معظم تلك الحالات يكون السبب غير معلوم، مع أن هناك بعض الارتباطات المعروفة بالعوامل البيئية. ومن الأمثلة الشائعة على ذلك التدخين الذي يؤدي إلى سرطان الرئة، والتعرض لضوء الشمس الشديد المرتبط بسرطان الجلد، واستنشاق الأسبستوس المسبب لورم الخلايا المبطنة للرئتين المسمى بورم المتوسطة.

غير أن نشوء السرطان ليس عملية مباغتة تنتج عن حدث خلوي واحد، وإنما هو رحلة طويلة تتعرض الخلية خلالها لسلسلة من «الضربات» التي تحث على حدوث طفرات وتحولها في نهاية الأمر إلى خلية سرطانية. ومن الممكن أن تكون واحدة من تلك الضربات التعرض لدخان التبغ، أو الأشعة فوق البنفسجية، أو الأسبستوس. والآن بعد أن حُدد تسلسل الجينوم البشري بالكامل، وضع العلماء كتيبًا للطفرات التي تحدث للخلايا السرطانية واكتشفوا أن هناك الآلاف منها بالفعل. وقد تكون واحدة من الضربات التي تتعرض لها الخلية والتي تحث على تحويلها إلى سرطانية، العدوى بأحد الفيروسات، غير أنه لما كانت هناك العديد من الضربات الأخرى المطلوبة لإنتاج خلية سرطانية، فإن الورم عادةً ما يكون نادرًا ويعد نتيجة متأخرة للعدوى بأحد فيروسات الأورام.


فيروسات الأورام التي تصيب الإنسان

بعد أن سُلِّم أخيرًا بالرابطة بين الفيروسات والأورام لدى الحيوانات، لا يزال العلماء يناضلون من أجل العثور على روابط مماثلة لدى الإنسان، وبدأ كثيرون يرتابون في وجودها. وحتى عندما حُدِّد أخيرًا أول فيروس مرشح ليكون فيروس ورم بشري في ستينيات القرن العشرين، جاء قبوله عمومًا على مهل. ومن جديد لم يعثر على علامة واضحة على أنه معدٍ، وتبين أن العدوى الفيروسية أبعد ما تكون وأكثر انتشارًا من الأورام المفترض أنها تسببها. وآمن كثيرون بأن علاقات الارتباط اكتشفت بمحض الصدفة وأن الفيروسات كانت مجرد «ركاب» عابرين داخل خلية الورم وليست هي من حث على نموها. والحقيقة أنه لا يزال من الصعب بمكان تقديم دليل دامغ لا يرقى إليه الشك على أن سرطان الإنسان له سبب فيروسي، أو حتى رسم خريطة للمعايير التي ينبغي تحقيقها كي يصبح هذا الارتباط مؤكدًا، حيث إن كل فيروس يستعين بآليات مختلفة عن الآخر وكثيرًا ما يكون نشوء الورم متضمنًا عوامل مساعدة لها سماتها الخاصة. غير أنه يمكن القول عمومًا إنه ينبغي تطبيق المعايير الآتية:

  • أن يتوافق التوزيع الجغرافي للفيروس مع ذلك الذي يتصف به الورم؛

  • أن يكون معدل الإصابة بالعدوى الفيروسية أعلى لدى الأفراد المصابين بالأورام عنه لدى الأشخاص المتمتعين بالصحة؛

  • أن تسبق العدوى الفيروسية تكون الورم؛

  • أن تقل أعداد الإصابات بالأورام كلما تمكنا من وقاية الناس من العدوى الفيروسية؛

  • أن تزداد نسبة الإصابة بالأورام لدى الأشخاص ضعاف المناعة.

وبالنسبة للفيروس المشتبه في كونه فيروسًا مسببًا لأورام:

  • أن يوجد الجينوم الفيروسي في الورم وليس في الخلايا السليمة؛

  • أن يكون الفيروس قادرًا في بيئة المزرعة الجرثومية على تحويل الخلايا؛

  • أن يستطيع الفيروس الحث على تكوين أورام لدى حيوانات التجارب.

على مستوى العالم ترتبط ١٠–٢٠٪ من أورام البشر بفيروسات، من بينها بعض الأورام الشائعة مثل سرطان عنق الرحم عند النساء وسرطان الكبد، الأكثر شيوعًا لدى الرجال. وحتى وقتنا هذا تعد جميع فيروسات الأورام البشرية المكتشفة من نوع الفيروسات المستديمة التي تنجح في مراوغة هجمات مناعة العائل وتظل داخل جسمه لأجل طويل. وهذا وضع مريح جدًّا للفيروس، ومن الصعب أن نفهم السبب الذي يدعوه لتطوير خصائص مولدة للأورام نظرًا لأن قتل عائله لا يحقق ميزة لبقاء نوعه. لكننا بعد أن حققنا الآن ولو فهمًا جزئيًّا على الأقل للآليات التي تتدخل في نشوء الورم الفيروسي، صار من الواضح أن التحول الخلوي ينشأ بصفة عامة من سوء استخدام الوظائف الحيوية لصالح بقاء الفيروس حيًّا وأنه يتضمن بصفة عامة عددًا من العوامل المساعدة. والاستثناءات من تلك القاعدة هي الأفراد المكونة للأورام من عائلة الفيروس القهقري التي تحمل جينات أورام تعمل على نحو مباشر على تحويل الخلية العادية إلى خلية سرطانية.


الفيروسات القهقرية المكونة للأورام

مع أن معظم فيروسات الأورام المعروفة اليوم فيروسات مستديمة من نوع دي إن إيه، فإن أول فيروسات الأورام الحيوانية التي اكتشفت ومن بينها فيروس «ساركوما روس»، كانت في الغالب فيروسات قهقرية من نوع آر إن إيه. هذه الفيروسات تنفرد بخاصية أنها عندما تصيب خلية، تنتج نسخة دي إن إيه من جينومها الآر إن إيه، طليعة فيروس، تنغرس داخل جينوم الخلية ومن ثم تتكاثر جنبًا إلى جنب مع الدي إن إيه الخلوي. هذا العمل الجدير بالإعجاب لا يحمي الفيروس وحسب من هجوم المناعة ويضمن بذلك بقاءه مدى الحياة داخل الخلية، لكنه يملك القدرة في الوقت نفسه على إعادة برمجة أداء جين الخلية نفسها لوظيفته، ومن ثم يؤثر على آليات التحكم في نموها.

الفيروس القهقري البشري الوحيد المسبب للأورام الذي حُدِّد حتى يومنا هذا هو فيروس تي الليمفاوي البشري الذي ينتمي إلى مجموعة من الفيروسات القهقرية كبيرة الحجم تضم أيضًا فيروسات لوكيميا القِرَدة والأبقار. لا تحتوي تلك الفيروسات الثلاثة على جينات منقولة من عوائلها وإنَّما لديها منطقة داخل الجينوم تسمى «پي إكس» تحتوي على جينات تؤدي وظائف مختلفة من بينها تحويل الخلية.

غير أن هذه الفيروسات الثلاثة جميعها لا تتسبب في أورام إلا نادرًا، وحتى عندما تفعل فإن هذا لا يحدث إلا بعد مرور سنوات عديدة من وقوع العدوى الأولى. ويوحي ذلك بأن العدوى ليست كافية في حد ذاتها وأن هناك طفراتٍ خلوية غير معلومة لوقتنا هذا لابد أن لها دورًا في نمو الورم.


فيروس تي الليمفاوي البشري (إتش تي إل ڤي-١)

يصيب فيروس تي الليمفاوي البشري بعدواه ما يقرب من ٢٠ مليون شخص في مناطق جغرافية متمايزة من العالم. ولحسن الحظ أن نسبة مئوية صغيرة فقط من هؤلاء الحاملين للفيروس هي التي تعاني من أمراض مرتبطة بوجوده، ويكون هذا عادةً بعد فترة كمون تدوم عدة عقود. ومن بين تلك الأمراض لوكيميا الخلية التائية التي تصيب البالغين والاعتلال النخاعي غير الخبيث، الذي يسمى أيضًا الخدل السفلي التشنجي الاستوائي. وذلك الأخير مرض عصبي مزمن يتسبب في إعاقة مطردة تدوم عقودًا، وتتسبب في إقعاد أكثر من نصف عدد من يعانون منها في نهاية الأمر.

عُزل فيروس تي الليمفاوي البشري-١ عام ١٩٨٠ على يد روبرت جاللو وفريقه في بالتيمور، بالولايات المتحدة، خلال رحلة بحث مكثفة عن الفيروسات القهقرية المسببة للأورام البشرية.

استخدم أولئك العلماء عامل نمو الخلية التائية الذي اكتُشف مؤخرًا والمسمى إنترلوكين-٢ لزراعة الخلايا التائية اللوكيمية في المختبر لأول مرة وجمعوا بين ذلك وبين تحاليل جديدة لاكتشاف إنزيم النسخ العكسي، وهو الإنزيم الذي تنتجه الفيروسات القهقرية أثناء نسخها لأفراد جديدة منها. واكتشفوا مزرعة مأخوذة من الخلايا اللوكيمية لمريض واحد فقط أنتجت هذا الإنزيم ومن ثم عزلوا الفيروس في نهاية الأمر من خلايا ذلك المريض.

وقبلها بعدة سنوات، كان كيوشي تاكاتسوكي وزملاؤه في كوماموتو باليابان وصفوا مرضًا جرى التعرف عليه حديثًا اسمه لوكيميا الخلية التائية للبالغين وكانت حالاته تتجمع على نحو خاص في جنوبي غرب البلاد، وهي حقيقة أوحت بوجود سبب بيئي أو متعلق بعدوى ميكروبية. وفي عام ١٩٨١، عزل هؤلاء العلماء فيروسًا قهقريًّا من خلايا لوكيميا الخلية التائية للبالغين مزروعة في المختبر، وتبين أنه مطابق لفيروس إتش تي إل ڤي-١.

وبالإضافة إلى اليابان، حيث يوجد ما يقرب من ١٫٢ مليون شخص مصاب بفيروس إتش تي إل ڤي-١، وتصل نسبة الإصابة إلى ١٥٪ في المنطقة الجنوبية الغربية، هناك معدل إصابة آخر مرتفع بالفيروس في مناطق تشمل أفريقيا السوداء، والكاريبي، وبعض الجيوب في أمريكا الجنوبية، والشرق الأوسط، وميلانيزيا (انظر شكل ٧-١). أما كيف وصل الفيروس بالضبط إلى تلك المجتمعات المتباعدة بعضها عن بعض فلا يزال أمرًا غير معلوم. وتظهر الدراسات الجزيئية الحديثة أن أقرب أقرباء فيروس إتش تي إل ڤي-١ واحد من بين الفيروسات القهقرية التي تصيب القردة التي حملتها عدة أنواع من قردة العالم القديم في أفريقيا وآسيا، وعثرت تلك الدراسات على أدلة تشير إلى عدة حالات انتقال جرت في الماضي من تلك الحيوانات إلى البشر.

وانتشرت تلك الفيروسات التي ازدهرت أحوالها في أجساد عوائلها الجدد من خلال رحلات الهجرة البشرية القديمة. ويعتقد أن إحدى السلالات وصلت إلى اليابان في وقت ما قبل عام ٣٠٠ قبل الميلاد، عندما دفع غزو قادم من قارة آسيا السكان المحليين للهجرة نحو الشمال والجنوب الغربي. وكانت تلك هي المناطق التي عثر فيها على أعلى نسب الإصابة في الوقت الحاضر. وهناك سلالة أخرى منشؤها قارة أفريقيا لعلها نقلت إلى الكاريبي من خلال تجارة الرقيق، ومن هناك انتقلت إلى أمريكا الجنوبية.

يصيب فيروس إتش تي إل ڤي-١ في الأساس الخلايا التائية بالدم ولديه ثلاث طرق رئيسية للانتشار: من الأم إلى طفلها، وعن طريق الجماع، وعن طريق الدم، ويشمل ذلك عمليات نقل الدم ومشتقاته واشتراك أكثر من شخص في إبرة حقن واحدة في أوساط مدمني المخدرات. في اليابان كان طريق الانتقال من الأم إلى طفلها هو أكثر طرق الانتقال انتشارًا، وذلك بصفة رئيسية عن طريق الرضاعة الطبيعية، حيث صار ٢٥٪ من الرضع الذين تحمل أمهاتهم الفيروس مصابين به.

شكل ٧-١: خريطة العالم تبين معدل انتشار العدوى بفيروس إتش تي إل ڤي-١. 

يظل فيروس إتش تي إل ڤي-١ داخل الخلايا التائية الدموية طيلة حياة العائل، غير أن العدوى بصفة عامة لا تسبب أي أذى. غير أن ما بين ٢٪ و٦٪ من الحالات تتفاقم إلى «لوكيميا الخلية التائية التي تصيب البالغين»، أو الليمفوما، وكلاهما بصفة عامة مرض شرس، يصعب علاجه، ويميت ضحاياه سريعًا. لوكيميا الخلية التائية التي تصيب البالغين كما يشير اسمه مرض يصيب البالغين، غير أن الغالبية العظمى من مرضاه اكتسبوه من أمهاتهم خلال سنوات طفولتهم الأولى، ما يشير إلى أن المرض يحتاج إلى فترة حضانة طويلة. ويوحي هذا بأن العدوى بفيروس إتش تي إل ڤي-١ ليست سوى واحدة من سلسلة من الأحداث الخلوية التي تؤدي إلى مرض لوكيميا الخلية التائية التي تصيب البالغين.

وقد بينت الدراسات أن جين «تاكس» بفيروس إتش تي إل ڤي هو الجين المحول الرئيسي. وهذا الجين يحمل شفرة بروتين «تاكس» الذي يؤدي وظائف عديدة من بينها الحث على انقسام الخلية، والإقلال من نسبة موت الخلايا، وزيادة معدل استنساخ الفيروس وتكاثره. ومن بين الوظائف المهمة على وجه الخصوص إنتاج حلقة نمو ذاتية التحفيز تجعل الخلية تنتج عامل نمو الخلية التائية، الإنترلوكين-٢. وفي الوقت نفسه، لها تأثير تنظيمي بزيادة عدد مستقبلات عامل نمو الخلية التائية على سطح الخلية. وتعمل كل تلك الوظائف على تشجيع بقاء الفيروس حيًّا بزيادتها لعدد الخلايا المصابة بالعدوى داخل الجسم كما تزيد أيضًا من فرصة حدوث طفرات عشوائية داخل الخلايا المصابة بالعدوى.

لا توجد علاجات بالغة الفعالية لعلاج مرض لوكيميا الخلية التائية التي تصيب البالغين، كما لا يوجد تطعيم ضد الفيروس بما يمنع العدوى به. غير أنه في معظم البلدان، يُجرى مسح الدم المفترض نقله بحثًا عن الفيروس وبهذا يُسد طريق انتشاره. علاوة على ذلك، يمكن منع انتقال الفيروس من الأم إلى طفلها عن طريق إجراء اختبار قبل الولادة ونصح الأمهات موجبة الفيروس بعدم إرضاع أطفالهن من الثدي. ويجرى هذا الاختبار في اليابان، غير أن تأثيره على الإصابة بمرض لوكيميا الخلية التائية التي تصيب البالغين لن يتضح إلا بعد عدة عقود.


فيروسات الهيربس

تشكل فيروسات الهيربس عائلة واسعة الانتشار للغاية ومحققة لنجاح منقطع النظير، حيث تطورت لديها آليات تمكنها من مراوغة الاستجابات المناعية ومن ثم تظل داخل جسم العائل طيلة حياته. والغالبية العظمى من تلك العدوى المستمرة صامتة، أو بلا أعراض، غير أن هناك مشكلات قد تظهر في بعض الأحوال. ولعدد لا بأس به من فيروسات الهيربس التي تصيب البشر وغيرهم من الفقاريات قد يكون من بين تلك المشكلات تكون الأورام.

من بين فيروسات الهيربس البشرية الثمانية، هناك اثنان مكونان للأورام: فيروس إبشتاين-بار، وفيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي. وكلا الفيروسين ينتشر عن طريق الاتصال عن قرب، وفي الأساس عن طريق اللعاب أثناء الطفولة. وبين الكبار، ينتشر فيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي بالطريق الجنسي، لا سيما بين الشواذ من الذكور، وهناك بعض الدلائل التي تشير إلى أن إبشتاين-بار يمكن أيضًا أن ينتشر عن طريق الجنس.

وكلا الفيروسين يؤسس لنفسه كمونًا داخل الخلايا البائية بالدم. كذلك يتكاثر فيروس إبشتاين-بار داخل الخلايا الطلائية المبطنة لأسطح الأغشية المخاطية ويتكاثر فيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي داخل الخلايا المبطنة للأوعية الدموية.

مقارنةً بغيره من الفيروسات، يعد فيروس الهيربس كبير الحجم، ويحمل شفرة ما بين ٧٠ و١٠٠ جين، ويحمل كلا الفيروسين — إبشتاين-بار وفيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي — مجموعته الخاصة من جيناته الكامنة التي تحث على الانقسام الخلوي. ويعتقد أن ظهور صفات تلك الجينات يساعد الفيروس على ترسيخ نفسه بصفة دائمة داخل الجسم. بعض الجينات الكامنة عبارة عن جينات أورام فيروسية، ولكن على عكس الفيروسات القهقرية التي نقلت جينات أورامها من جينوم العائل، نجد هذه الجينات خاصة بالفيروس نفسه. وتتدخل جينات الأورام تلك في آليات التحكم الخلوي، فتحث على الانقسام الخلوي، وتشجع على البقاء طويل الأمد للفيروس.

كل من فيروس إبشتاين-بار وفيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي يسبب أورامًا محدودة جغرافيًّا، ما يشير إلى تدخل عوامل مساعدة محلية. كذلك أولئك الذين يعانون من مناعة مثبطة يكونون مهددين بتكوين أورام بسبب تلك الفيروسات لأنهم غير قادرين على السيطرة على عدوى الفيروس الكامنة.

اكتشف فيروس إبشتاين-بار عام ١٩٦٤ بعد أن أمضى عالم الفيروسات المقيم بلندن أنتوني إبشتاين عامين كاملين يبحث عن فيروس داخل مادة عينة نسيج مأخوذة من «ليمفوما بيركيت». وصف مرض ليمفوما بيركيت لأول مرة، وهو أكثر أنواع أورام الأطفال انتشارًا في وسط أفريقيا، على يد الجراح البريطاني دينيس بيركيت عام ١٩٥٨، أثناء عمله في أوغندا.

ويستهدف الورم، الذي يتكون من خلايا بائية، في الأساس الأطفال بين سن السابعة والرابعة عشرة وهو أكثر انتشارًا لدى الصبية. وتكون الصورة الإكلينيكية صادمة، حيث تكون هناك تورمات سريعة النمو، أغلبها منتشر حول الفكين، وهو يقضي على المريض سريعًا إذا لم يعالج. وقد رسم بيركيت خريطة جغرافية للمناطق التي ينتشر فيها الورم وهي الأراضي السهلية في أفريقيا الاستوائية حيث يتجاوز معدل سقوط المطر ٥٥ سم سنويًّا ولا تنخفض درجة الحرارة مطلقًا عن ١٦ درجة مئوية (شكل ٧-٢). ونظرًا لمحدوديته الجغرافية الشديدة، افترض إبشتاين وجود سبب مُعْدٍ للورم وبدأ بحثه. وأخيرًا تمكن هو وواحدة من طلبته اسمها إيفون بار من عزل فيروس هيربس جديد من خلايا ليمفوما بيركيت صار يحمل اسميهما. لكن سرعان ما بدا أن هذا الفيروس موجود في كل مكان، مما يجعل من الصعب إثبات أنه تسبب في الورم الذي كان قاصرًا على الأطفال في وسط أفريقيا.

شكل ٧-٢: خريطة بيركيت لتوزيع ليمفوما بيركيت في أفريقيا.

ونحن نعلم الآن أن مرض ليمفوما بيركيت منتشر كذلك في المناطق الساحلية لبابوا غينيا الجديدة وأن حوالي ٩٧٪ من جميع أورام ليمفوما بيركيت الاستوائية تحتوي على فيروس إبشتاين-بار.

كذلك تحدث ليمفوما بيركيت بمعدل منخفض في المناطق معتدلة المناخ، وهنا نجد حوالي ٢٥٪ فقط من الأورام مرتبطة بفيروس إبشتاين-بار. والمدهش، أن جينات الأورام الفيروسية لا تعبر عن صفاتها في خلايا ليمفوما بيركيت، إذن دور فيروس إبشتاين-بار في تحول الخلية العادية إلى سرطانية غير واضح. وعلى النقيض من ذلك، يوجد شذوذ جيني خلوي في جميع خلايا أورام ليمفوما بيركيت سواء أكان فيروس إبشتاين-بار موجودًا بها أم لا.

ويتضمن ذلك تغيير موضع أحد الجينات على أحد الكروموزومات ينتقل جين ورم خلوي يسمى «سي-إم واي سي» من موضعه الطبيعي على الكروموزوم الثامن إلى موضع آخر. يتسبب ذلك في إفلات جين الورم من الضوابط، ويتسبب في انقسام خلوي خارج عن نطاق السيطرة، ومن الواضح أن تلك تمثل خطوة مهمة في نمو الورم.

إن الظروف المناخية المحلية التي تهيئ لمرض ليمفوما بيركيت في أفريقيا حسبما حددها بيركيت تنطبق كذلك على غينيا الجديدة وتطابق تلك المرتبطة بعدوى الملاريا التي تستمر طوال العام. في حالة الملاريا، تتحدد تلك الظروف من خلال الاحتياجات التكاثرية للحشرة الناقلة لها، وهي البعوضة.

لا ينتشر فيروس إبشتاين عن طريق البعوض، ولكن يبدو أن الملاريا تمثل عامل تهديد إضافيًّا يساعد على تكون ليمفوما بيركيت، ربما بسبب الالتهاب المزمن المصاحب لها الذي يشجع على بقاء الخلايا البائية المصابة بالفيروس وانقسامها. على أننا ما زلنا نجهل بالتحديد كيف تتعاون كل من عدوى الملاريا، ومع تحرر جين «سي-إم واي سي» عن السيطرة، مع العدوى بفيروس إبشتاين-بار على تنشيط نمو الورم.

ومن المثير للاهتمام أن هناك نسبة إصابات متزايدة بمرض ليمفوما بيركيت لدى مرضى الإيدز في جميع أنحاء العالم، ولكن ربع تلك الأورام فقط يحتوي على فيروس إبشتاين-بار، وهذا يشير إلى أن العدوى بفيروس نقص المناعة البشري وما يصاحبها من انخفاض في المناعة والتهاب مزمن يمكن أن يحلا محل فيروس إبشتاين-بار والملاريا في تكوين الورم.

ويصبح الموقف أكثر وضوحًا بكثير في حالة الأورام المصاحبة لفيروس إبشتاين-بار التي تصيب أصحاب المناعة المثبطة، إما بسبب عيب خلقي بمناعتهم أو لتناولهم عقاقير مثبطة للمناعة مثل التي تقدم لمن يتلقون أعضاء مزروعة مأخوذة من متبرعين للحيلولة دون طرد أجسامهم لتلك الأعضاء. ويتيح تثبيط مناعة الخلية التائية تحديدًا للخلايا المصابة بفيروس إبشتاين-بار إظهار صفة جينات الأورام الفيروسية وانقسامها، مسببة ورمًا أحيانًا. ويبدو هذا شكلًا مباشرًا للغاية من أشكال تكوين الورم، غير أن مسألة أن قلة فقط من أصحاب المناعة المثبطة تتكون لديهم أورام توحي بوجود عوامل إضافية، من المفترض أنها طفرات خلوية، يشترط حدوثها كي يحدث نمو للورم.

يوجد فيروس إبشتاين-بار أيضًا فيما يقرب من ٥٠٪ من حالات «ليمفوما هودجكين»، لا سيما تلك التي يصاب بها الأطفال في البلدان النامية، ولدى المصابين بفيروس المناعة البشري ولدى المسنين من المنتمين للجنس القوقازي، وكذلك الأورام الطلائية التي تصيب الغشاء المخاطي للأنف وتسمى الورم الخبيث الأنفي البلعومي وهو مرض واسع الانتشار في جنوبي الصين، ولدى حوالي ١٠–٢٠٪ من مرضى سرطان المعدة.

اكتُشِف الفيروس المرتبط بساركوما كابوسي عام ١٩٩٤ على يد فريق بحثي مكون من زوج وزوجة هما يوانج تشان وباتريك مور في بيتسبرج، بالولايات المتحدة، بعد بحث دفعهما إليه تفشي وباء ساركوما كابوسي لدى أناس مصابين بفيروس نقص المناعة البشري.

وتحدث ساركوما كابوسي بثلاث صور مختلفة، أولها هو الشكل التقليدي الذي وصفه طبيب الأمراض الجلدية النمساوي المجري موريتز كابوسي (١٨٣٧–١٩٠٢) عام ١٨٧٢. ويظهر هذا الشكل عادةً في صورة بقع متعددة ذات لون بني ضارب إلى الحمرة فوق جلد المسنين ذوي الأصول القادمة من حوض المتوسط، وأوروبا الشرقية، أو ذوي الأصول اليهودية. وهي بطيئة النمو ولا تغزو الأعضاء الداخلية إلا نادرًا.

أما الثاني فهو شكل «وبائي متوطن» من ساركوما كابوسي يوجد في شرق أفريقيا وهو مشابه للنوع الكلاسيكي إلا أن غزو الأعضاء الداخلية هنا يكون أكثر حدوثًا. والنوع الثالث من المرض هو المصاحب للإيدز وكان في بادئ الأمر شديد الشيوع لدى الشواذ في الغرب، ولكن مع انخفاض نسبة حدوثه في أعقاب إدخال العلاج الفيروسي القهقري لفيروس نقص المناعة البشري، زادت نسبته في أفريقيا السوداء، حيث صار الآن أكثر الأورام المرتبطة بفيروس نقص المناعة البشري انتشارًا.

وتتكون حالات ساركوما كابوسي من خلايا طلائية مصابة بعدوى الفيروس المرتبط بساركوما كابوسي المعروفة باسم الخلايا المغزلية. وإضافةً إلى ذلك، ينتج الفيروس عوامل تنشط تكوين أوعية دموية جديدة، مما يمنح الورم مظهره المميز باصطباغه باللون الأحمر. ويحتوي الجينوم الفيروسي على جينات أورام كما يحتوي كذلك على جينات عامل نمو ومستقبل عامل نمو، وجميعها تُنشط انقسام خلايا الورم. كذلك يتسبب الفيروس المرتبط بساركوما كابوسي في أورام خلية بائية نادرة بمرض «كاسلمان متعدد المراكز» و«ليمفوما النضوح الابتدائي». وجميع تلك الأنواع من الأورام تكون أكثر شيوعًا في حالات ضعف المناعة.


فيروسات الالتهاب الكبدي

يمثل سرطان الكبد الابتدائي (أي الذي يظهر في الكبد أولًا وليس ثانويًّا لسرطان آخر في مكان آخر) مشكلة صحية عالمية كبرى، حيث إنه واحد من بين أكثر عشرة أنواع سرطان شيوعًا على مستوى العالم، وتشخص منه ٢٥٠ ألف حالة سنويًّا ولا يعيش مدة خمس سنوات من هؤلاء سوى ٥٪ فقط.

إن الورم أكثر شيوعًا لدى الرجال عن النساء وهو أكثر انتشارًا في أفريقيا السوداء وجنوب شرقي آسيا من أي مكان آخر حيث تصل نسبة الإصابة به لأكثر من ٣٠ شخصًا من كل ١٠٠ ألف نسمة سنويًّا، مقارنةً بأقل من ٥ أفراد من كل ١٠٠ ألف نسمة في الولايات المتحدة وأوروبا. نسبة تصل إلى ٨٠٪ من تلك الأورام سببها فيروس الالتهاب الكبدي، أما النسبة الباقية فهي ترتبط بتلف الكبد نتيجة لمركبات ذات سمية مثل الكحول.

وكما رأينا في الفصل السابق، هناك خمسة فيروسات تصيب الإنسان بالالتهاب الكبدي (وهي أ وب وسي ود وﻫ)، والمسببان لسرطان الكبد من بين هؤلاء هما ب وسي. هذان الفيروسان لا تربطهما ببعضهما أي صلة قرابة، حيث إن فيروس ب من عائلة فيروسات «هيبادنا» صغير الحجم من نوع فيروسات دي إن إيه، في حين أن فيروس سي فيروس من عائلة الفيروسات المصفرة ذا جينوم آر إن إيه. غير أن كليهما يهاجم الكبد بصفة رئيسية، مسببًا إما التهابًا كبديًّا صريحًا عدوى صامتة خلال اللقاء الأول. ولدى بعض الناس، يظلان مستديمين، وغالبًا ما يتسببان في تلف متواصل بالكبد، وتليف، ولدى القلة سيئة الحظ، يتسببان في سرطان كبد.

وما يدعم وجود ارتباط بين الفيروس ب وسرطان الكبد أن هناك مناطق جغرافية معينة تجمع بين وجود نسبة عالية من العدوى بالفيروس وبين معدلات الإصابة بالأورام؛ فيحدث ذلك في أمريكا الجنوبية، وأفريقيا السوداء، وجنوب شرقي آسيا (شكل ٦-٢). وإضافة إلى ذلك، بينت دراسة كبرى أجريت على ٢٢ ألف رجل في تايوان خلال التسعينيات أن أولئك الذين يظلون مدى الحياة مصابين بعدوى فيروس ب يبلغ احتمال إصابتهم بسرطان الكبد ٢٠٠ ضعف احتمال إصابة غير الحاملين للفيروس به، وأن أكثر من نصف أعداد الوفيات في تلك الفئة كانت نتيجة إما لسرطان أو تليف الكبد.

على أن آلية تكون الورم بفعل فيروس ب ليست واضحة تمامًا. فلما كان الورم يتكون بعد العدوى الأولى بعدة سنوات، فلا بد أن أحداثًا عدة نادرة مطلوبة من أجل نمو الورم.

فالفيروس لا يحمل شفرة أي بروتينات تعمل على تحويل خلايا الكبد في مزارع الأنسجة أو تستحث تكون الأورام لدى الحيوانات، غير أنه يحمل جينًا اسمه «إكس» يمكنه تنشيط الجينات الخلوية ومن ثم ربما أمكنه التأثير على آليات السيطرة على نمو الخلية. وأيضًا، تحتوي الغالبية من الأورام على نسخة أو اثنتين من جينوم فيروس الالتهاب الكبدي ب التي اندمجت مع الدي إن إيه الخلوي.

وهذا الاندماج عشوائي الموقع ولعله يحدث كعارض طارئ بالمصادفة أثناء انقسام الخلية المصابة بفيروس الالتهاب الكبدي ب حيث إن هذا الفيروس، على العكس من الفيروسات القهقرية، لا يمثل الاندماج في دي إن إيه العائل جزءًا من دورة حياته الطبيعية. وربما كان هذا الحدث يقع في عدة مناسبات على امتداد العدوى التي تستمر مدى الحياة، لكنه لا ينشط نمو الورم إلا إذا كان موقع الاندماج يسمح لجين «إكس» بالتأثير على الجينات الخلوية، فيعمل على اختلال التوازن لصالح نمو الخلية.

إضافة إلى ذلك ربما كان الالتهاب المزمن الذي تتسبب فيه العدوى الدائمة التي تصيب خلايا الكبد، بجانب الدورات المتكررة لعدوى الخلية، وتدمير المناعة، وإعادة توليد الخلية الكبدية التي تؤدي أحيانًا إلى تليف الكبد، ربما كان كل هذا يوفر عوامل نمو تساعد على نمو الورم. وأخيرًا، هناك سموم معينة ربما تلوث الطعام غير المحفوظ بطريقة سليمة ويمكنها أن تحدث سرطانات الكبد لدى حيوانات التجارب. أفلاتوكسين ب١ الذي تنتجه فطريات هو أحد الأمثلة على ذلك التي يمكن من ثم أن تؤدي دور عامل مساعد آخر غير ذي صلة بالفيروس لإحداث المرض عند البشر.

التطعيم ضد فيروس الالتهاب الكبدي ب متوفر، وقد تسبب استخدامه بالفعل في انخفاض في أعداد حالات سرطان الكبد المرتبط بفيروس الالتهاب الكبدي ب في تايوان، حيث نفذ برنامج للتطعيم خلال الثمانينيات.

ومثلما هو الحال مع فيروس الالتهاب الكبدي ب، ترتبط العدوى المستديمة بفيروس سي بخطر يتهدد المريض بالإصابة بسرطان كبد ابتدائي، وفي البلدان التي هبطت فيها مؤخرًا معدلات الإصابة بسرطان الكبد بفضل برنامج التطعيم ضد الالتهاب الكبدي ب الموجه نحو الفئات الأعلى تعرضًا للخطر، صار فيروس سي الآن أكثر أسباب الإصابة بهذا المرض القاتل شيوعًا.

أما آلية تكون الورم في حالة فيروس الالتهاب الكبدي سي فإنها أبعد ما تكون عن الوضوح، ومسألة أن الفيروس لم يكن من الممكن زراعته في المختبر حتى وقت قريب أعاقت بصورة شديدة برامج البحث. إلا أنه من المهم القول مع ذلك، إن البحث المكثف في نسيج الورم أخفق في العثور على أي أثر للفيروس، كما لم تُكتَشف أي جينات فيروسية محولة للخلايا إلى سرطانية. وتشير كل تلك الحقائق إلى أن الدور الذي يلعبه الفيروس في نشوء الورم غير مباشر بالمرة. لعل عمليات الالتهاب المزمن التي ينشطها الفيروس على امتداد عشرات السنين تكفي في مناسبات نادرة لتحفيز التحول المسرطن.


فيروسات الورم الحليمي

يكاد لا يوجد إنسان على وجه الأرض لم يعانِ من قبل من نتوءات كريهة المنظر فوق يديه أو ثآليل مؤلمة في باطن قدميه في وقت ما من حياته. إن سببها فيروسات الورم الحليمي البشري، وهي عائلة كبيرة من الفيروسات بها أكثر من ١٠٠ نوع مختلف. والعدوى بفيروس الورم الحليمي البشري شديدة الانتشار وعلى الرغم من أن معظمها، مثل تلك التي تسبب النتوءات والثآليل، لا ضرر منها، فإن بعض أنواعها قد يسبب السرطان، وأكثر الأنواع شيوعًا من هذه السرطانات تلك التي تصيب عنق الرحم لدى النساء.

كان أول من وصف نتوءات أو ثآليل الجلد التي يحدثها فيروس الورم الحليمي ريتشارد شوب في ثلاثينيات القرن العشرين، الذي عمل إلى جوار بايتون روس بمعهد روكفلر في نيويورك. لقد قرر أن يتابع قصة كان قد رواها له صيادو الفرائس البرية قالوا له فيها إن الأرانب في ولاية أيوا لها قرون. وتبين بعد ذلك أن تلك القرون ما هي إلا أورام ثؤلولية بالجلد، تمكن شوب من استخلاص مركب قابل للترشيح منها فتسبب ذلك المركب في إحداث نفس الثآليل عند طلاء جلد أرانب سليمة به. وتطورت تلك الثآليل في بعض الأحيان إلى أورام متغلغلة. غير أنه في تلك الأيام لم يكن أمامه سوى أن يتكهن بنوع الفيروس الذي سبب تلك الحالات المرضية.

لقد صرنا الآن نعلم أن فيروسات الورم الحليمي تستهدف الخلايا الطلائية الحرشفية، أي تلك الطبقة السميكة من الخلايا التي تشكل الطبقة الخارجية من أجسامنا، وتبطن بعض المناطق الداخلية منها مثل القنوات التناسلية، والفم، والبلعوم، وأعلى الحنجرة.

وتحتوي الطبقة القاعدية من الغشاء الطلائي على خلايا جذعية ذاتية التجدد قادرة على الانقسام مدى الحياة. عادةً ما يكون هذا الخط الإنتاجي متوازنًا توازنًا دقيقًا من خلال فقد الخلايا نتيجة للطرح المنتظم للخلايا الميتة من فوق سطح الجلد. بعد دخوله من خلال جرح صغير أو سحجة، يقيم فيروس الورم الحليمي البشري عدوى مستديمة داخل تلك الخلايا الجذعية الطلائية.

ويستنسخ جينوم الفيروس من جديد في كل مرة تنقسم فيها الخلية، ويُحتفظ بنسخة واحدة منه في ذرية الخلية الجذعية وبذلك يضمن بقاءً طويل الأجل داخل العائل. وتصعد الخلية الشقيقة الثانية وترتقي في مراتب النسيج الطلائي، ويكون وصولها للنضج إشارة للفيروس كي يبدأ في إنتاج نسل جديد منه، وهكذا عندما تموت الخلية وتطرح من على السطح، نجدها تحتوي على الآلاف من جسيمات الفيروس الجاهزة لكي تصيب بعدواها عوائل جديدة، وهي تنتشر عن طريق الملامسة اللصيقة مثلما يحدث في حالة الاتصال الجنسي.

افترض هارالد زور هاوزن، وهو عالم فيروسات ألماني من نورمبرج، وجود علاقة تربط بين فيروس الورم الحليمي وسرطان عنق الرحم وذلك في سبعينيات القرن العشرين ومضى العالِم محاولًا إثبات علاقة الارتباط وفاز بجائزة نوبل عام ٢٠٠٨ عن ذلك الاكتشاف. ونحن الآن نعلم أن دي إن إيه فيروس الورم الحليمي وبخاصة ذلك الآتي من الأنواع من ١٦ إلى ١٨، موجود في خلايا الغالبية العظمى من سرطانات عنق الرحم، علاوة على السرطانات الأقل شيوعًا التي تصيب الجلد، والفم، والبلعوم، والحنجرة.

جينوم دي إن إيه هذا الفيروس صغير الحجم، فليس به سوى ثمانية أو تسعة جينات رئيسية. في العدوى الطبيعية، يكون دور الجينات المسماة «إي ٦» و«إي ٧» حث الخلية على الانقسام بحيث يتمكن الفيروس من الوصول إلى آليات الخلية التي يحتاج إليها كي ينشر جينومه الخاص به. ومن ثم فإن الخلايا المصابة بعدوى فيروس الورم الحليمي غالبًا ما تنمو أسرع من الخلايا السليمة، ما يؤدي إلى شكل الثؤلول المميز الأشبه بالقنبيطة الصغيرة. غير أن هذا في حد ذاته لا يؤدي إلى السرطان؛ إذ إنه لكي يحدث تغير خبيث يحتاج الأمر إلى عوامل أخرى، لا سيما الاندماج بين الجينوم الفيروسي وبين خلية العائل. وهذا، مثله مثل اندماج فيروس الالتهاب الكبدي ب، أمر نادر الحدوث وعشوائي ومن المفترض أنه يحدث نتيجة لخطأ أثناء انقسام الخلية. إنه يحدث خللًا في عملية تنظيم تفعيل الجين الفيروسي لصفته، ما يؤدي إلى أداء الجينين إي ٦ وإي ٧ لوظيفتهما بإفراط وارتفاع معدل الانقسام الخلوي.

ما يؤيد تلك النتائج المعملية الملاحظة الإكلينيكية للنوعين ١٦ و١٨ من الفيروس في أعناق أرحام بعض النساء اللاتي لا يعانين من السرطان. والحقيقة أن الاختبارات التي أجريت على نساء أمريكيات متمتعات بالصحة أعمارهن بين ١٨ و٢٥ عامًا توضح أن نسبة تصل إلى ٤٦٪ منهن يحملن فيروس الورم الحليمي، ويمثل النوعان ١٦ و١٨ منها نسبة الثلث تقريبًا. علاوة على ذلك، حددت عملية المسح السكاني المنتظم بحثًا عن حالات سرطان عنق رحم التي بدأت في الستينيات عللًا مرضية قبل سرطانية تظل فيها الخلايا المصابة بالفيروس داخل طبقة الغشاء الطلائي. وتسمى هذه الحالة «النشوء الورمي الشاذ داخل الطلائي العنقي الرحمي» ويحصل على درجات على مقياس الشدة من ١ إلى ٣. ويكون دي إن إيه فيروس الورم الحليمي موجودًا في جميع الدرجات، ونسبة مئوية كبيرة من المرحلتين ٢ و٣ غير المعالجتين تتفاقم لتصبح سرطانًا متوغلًا.

ومن العوامل التي تزيد من فرص الإصابة بعدوى فيروس الورم الحليمي وسرطان الأعضاء التناسلية ممارسة الجنس في سن صغيرة، والأعداد الكبيرة من الشركاء الجنسيين، واستعمال حبوب منع الحمل، وغيرها من أنواع العدوى التي تنتقل عن طريق الجنس. وبمجرد التعرض للعدوى، تزيد مخاطر الإصابة بالسرطان لدى المدخنات وصاحبات المناعة الضعيفة والنساء اللواتي لديهن قريبة مصابة، وبالمناسبة تلك الفئة الأخيرة تدل على وجود عامل وراثي في المرض.

لسوء الحظ، مع أن المسح السكاني لعنق الرحم يمكنه التقاط أولئك المصابات بالعدوى بأنواع عالية الخطورة من فيروس الورم الحليمي ويتتبع تفاقم حالة النشوء الشاذ داخل الطلائي العنقي الرحمي، فإنه في الوقت الحالي لا يمكن لهذا المسح التنبؤ على وجه اليقين بمن سوف يصاب بسرطان صريح. وعلاوة على ذلك، فإن الإجراء نفسه باهظ التكلفة بحيث إنه لا يمكن إجراؤه في البلدان النامية، مع أنها هي البلدان التي ربما تكون فيها احتمالات تطور الحالة إلى سرطان قوية.

تتباين أعداد الإصابة بسرطان عنق الرحم من بلد إلى آخر، حيث نجد أعلى أرقام الإصابة في جنوب أفريقيا وأمريكا الوسطى، فنجده أكثر أنواع السرطان انتشارًا بين النساء (شكل ٧-٣).

وعلى مستوى العالم، هناك ما يقرب من نصف مليون حالة جديدة وأكثر من ربع مليون حالة وفاة سنويًّا من جراء سرطان عنق الرحم. ومع أن معدلات الإصابة والوفاة هبطت في العالم الغربي منذ أن أدخل نظام المسح السكاني، فإن هذا ليس هو الحال في البلدان النامية، التي صارت الآن تشكل نسبة ٨٥٪ من العدد الإجمالي.

ويقدم حاليًّا لقاح مضاد لفيروس الورم الحليمي البشري ١٦ و١٨ للفتيات المراهقات في كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وقارة أوروبا ) اعتقادًا بأن هذا يقي من العدوى بأكثر فيروسين مسببين للأورام من فيروسات الورم الحليمي البشرية وأنه سيكون له تأثير هائل على أعداد الإصابة بسرطان عنق الرحم خلال السنوات المقبلة. ولما كان اللقاح أرخص ثمنًا وأيسر في تقديمه من عملية المسح السكاني على عنق الرحم، فإن المأمول أنه سرعان ما سيصل إلى البلاد التي هي في أمس الحاجة إليه.

شكل ٧-٣: إحصاء أعداد الإصابات ومعدلات الوفيات وفق العمر بسبب سرطان عنق الرحم في مناطق العالم المختلفة، تقديرات عام ٢٠٠٢. 

 

اضرب واهرب؟

في الوقت الراهن تُشخص ١٫٨ مليون حالة سرطان مرتبط بالفيروسات سنويًّا على مستوى العالم. ويشكل هذا الرقم نسبة ١٨٪ من إجمالي حالات السرطان، ولكن لما كانت تلك الفيروسات البشرية المسببة للأورام لم تُكتَشف إلا مؤخرًا، فإن من المحتمل أن هناك المزيد منها ينتظر الكشف عنه. فلو كان الحال كذلك، فإن من المهم إذن العثور عليها لأن السبب الفيروسي يفتح الباب أمام احتمال وجود لقاح واقٍ من الأورام.

أحدث فيروس ورم بشري اكتُشف هو فيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي، وقد اكتشف هذا الفيروس باستخدام مسابر جزيئية لا بأساليب عزل الفيروسات التقليدية. لقد عقد يوانج ومور مقارنة بين الدي إن إيه الآتي من مرض تسبب فيه فيروس الهيربس المصاحب لساركوما كابوسي وبين دي إن إيه من جلد سليم لنفس الشخص في تجربة حذف.

وقد حذف العالمان جميع سلاسل الدي إن إيه المتطابقة في العينتين، تاركين فقط سلاسل الدي إن إيه التي ينفرد بها فيروس الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي، فتبين لهما أنها سلاسل دي إن إيه آتية من فيروس هيربس غير مكتشف؛ هو الهيربس المرتبط بساركوما كابوسي. ويجري تطبيق تلك الحيلة التكنولوجية الذكية على الأورام الأخرى التي يشتبه في كون سببها فيروسيًّا، لكن النتيجة قد لا تكون مشجعة للغاية بالنسبة لبعضها.

وطرحت على بساط البحث آلية تعرف باسم «اضرب واهرب» وبواسطتها يعمل الفيروس المتهم في وقت مبكر على نشوء الورم، بأن يتلف الخلية تلفًا مستديمًا، ثم يغادرها دون أن يترك أي أثر يدل عليه. لو كانت تلك الآلية متبعة من بعض الفيروسات، فما من شك أنه سيكون من الصعوبة بمكان إثبات وجود علاقة ارتباط بين الفيروسات والسرطان.

08 Jun, 2017 03:15:06 PM
0

لمشاركة الخبر