Skip to main content
ذكريات شتيفان زفايغ «إنسانا أوروبيا» في عالم الأمس

«عالم الأمس: ذكريات إنسان أوروبي» (Die Welt von Gestern, anaconda- koln Stefan Zweig) سيرة ذاتية لشتيفان زفايغ أحد أهم الأدباء النمسويين (بالألمانية دار اناكوندا، كولن) في ص. لا تكمن قيمتها في ذلك فحسب، وإنما أيضاً في أنها لوحة مفصلة لأوروبا منذ 1881 وحتى 1942، ولا سيما قبل الحرب العالمية الأولى ولحوادث الحربين العالميتين الأولى والثانية.

ولد شتيفان في فيينا، في أسرة يهودية غنية إذ كان والده صاحب معامل نسيج. أتقن عدداً من اللغات، الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية فضلاً عن الألمانية. عاش في جو من الليبرالية الفكرية والحراك الفني والثقافي، ولم يعكّر هناء حياته هذه سوى المدرسة التي كرهها وشعر بأنها لا تفيد ولا تلبي طموحاته المعرفية والثقافية. فانكب على قراءة كل ما وقعت عليه يده من دواوين شعرية وكتب أدبية وفلسفية لأوروبيين، أياً كانوا، حتى فلاسفة وأدباء أو شعراء محدثين أو معاصرين لم يكونوا قد اشتهروا بعد. كان صديق فرويد النمسوي، رومان رولان الفرنسي، ريشار شتراوس الألماني، وإميل فيرهارن البلجيكي، وغيرهم من مشاهير العصر.

انتظر بفارغ الصبر أن يتخلص من المدرسة الكريهة لينتقل إلى الجامعة. وبعد تردّد اختار أن يدرس الفلسفة، وأثناء ذلك كان ينظم الأشعار التي تجرأ في النهاية على إرسالها إلى عدد من دور النشر. وكانت المفاجأة السارة حين قبلتها إحداها. فيصف سعادته التي لا تضاهيها سعادة حين استلم الملزمة الأولى من أشعاره المطبوعة. بعد ذلك انتقل إلى العاصمة الألمانية برلين حيث عاشر مختلف الطبقات الاجتماعية، من أرقاها إلى أدناها، ويترجم في الوقت نفسه إلى الألمانية أعمالاً أدبية من الفرنسية والإنكليزية، ومنتهزاً الفرصة لتوثيق صداقته مع «فيرهيرن» البلجيكي الذي ظلّ أعزّ أصدقائه حتى آخر حياته. وأخيراً تمكّن من تحقيق حلم زيارة باريس «مدينة الشباب الأبدي» على حد قوله، مدينة الحرية والجمال والكوزموبولوتية، حيث جالس وصادق أدباءها ومفكريها، ولا سيما الشاعر الألماني «ريلكي»، وتعرّف إلى «رودان»، وتمتّع في شوارعها وأزقتها ومتاحفها بماضيها وحاضرها الثريين. ثم انتقل إلى لندن التي خيّبت أمله بعد جمال باريس وحيويتها.

أثناء أسفاره هذه، وكذلك في إيطاليا، إسبانيا، بلجيكا وهولاندا، مكّنته ثروته من جمع وشراء مخطوطات فنية. إلا أن أكثر ما أسعده كان قبول أحد أهم المخرجين مسرحيته «تيرزيتس» وقد أراد عرضها في «مسرح برلين الملكي». ولكن حين وافق عدد من المخرجين على تقديم مسرحيات أخرى كان قد أرسلها إليهم، ومرض الواحد بعد الآخر ثم مات آخرهم، تطيّر تسفايغ وشعر بأن مسرحياته ملعونة. بعد ذلك قرّر السفر خارج أوروبا، إلى الهند ثم أميركا التي كان معجباً ببعض أدبائها.

غير أن تغييرات سياسية أخذت تعكّر أوروبا: ضم النمسا البوسنة وصربيا، صراع البلغار مع تركيا، ازدياد الصناعات العسكرية في ألمانيا. وقد أحدث ذلك كله جواً من القلق.

إلى أن انطلقت الرصاصة الأولى في «ساراييفو» في حزيران 1914، مغتالة فرانتس فرديناند، ومعلنة الحرب العالمية الأولى.

بعد ذلك، نقرأ وصفاً مفصلاً لجمال الطقس والطبيعة في النمسا وكأنه أراد بذلك أن يظهر التناقض بين روعة الخليقة وإجرام الإنسان. فُرض التجنيد الإجباري وكان تسفايغ ضد الحرب، ولحسن حظه نفد من التجنيد لأسباب صحية. إلا أن ذلك لم يخفف من شعوره بالوحدة والعزلة، على رغم إحساسه بأنه متضامن مع مواطنيه، أنه واحد منهم. وهنا يقارن بين هذا الشعور وشعوره وشعور غيره عام 1939 الذي ناقضه تماماً بعد أن كانوا قد خبروا مآسي الحرب الأولى وويلاتها.

أثناء سنوات الحرب، ظل يراسل أصدقاءه المنتمين إلى «الجبهة المعادية». ولكي يقوم بواجبه الوطني انضم إلى الصليب الأحمر، وهنا وعى وجهاً لوجه مآسي الحرب وإجرامها. وصف وصفاً مؤثراً جداً العربات التي كُدّس فيها الجرحى، يصرخون من آلامهم ولا أدوية أو مسكنات تخففها، الأعضاء المبتورة والدماء الجارية على الأرض. حينئذ قرّر النضال ضد الحرب، أياً كانت النتائج التي سيتحمّلها.

وجد أن الكتابة تبقى سلاحه الوحيد لمقاومة الحرب: الكتابة لا بصوت المنتصرين، وإنما بصوت المهزومين، الضحايا. وفي صرخة عنيفة ضد الحرب كتب مسرحية «أرميا» مستوحياً نبي التوراة. وعلى نقيض ما انتظر، لاقت ترحيباً منقطع النظير من جانب المخرجين السويسريين حيث سافر لإخراجها.

وفي سويسرا وعى للمرة الأولى وجود مخبري الطرفين المتحاربين وجواسيسهم وانهم من الناس العاديين الذين هم آخر من يمكن أن يشكّ فيهم المرء. وعلى رغم شعوره وأصدقائه منذ أول الحرب بأن ألمانيا لا بد أن تنهزم شعروا بفرحة لا فرحة بعدها حين دخلت أميركا الحرب وأُعلنت نهاية الاقتتال. عاد إلى النمسا مع انها كانت تعاني من نقص في كل متطلبات العيش، وفي صفحات مؤثرة يصف مشاهدته قيصر النمسا يغادر بلاده للمرة الأخيرة، واضعاً نهاية لملكية دامت ألف سنة.

ثم عاد إلى الكتابة، وفي صفحات ممتعة طويلة يصف كيف كان يراجع ويحرر ما يكتب حتى يرتاح إلى النتيجة. وأخذت كتبه تنشر وتباع بمئات آلاف النسخ وتترجم إلى كثير من لغات العالم، قبل أن تحطمها فأس هيتلر وتحطم شهرته في ألمانيا والنمسا. استضاف في بيته في «زالسبورغ» كل أعلام الأدب والفكر والموسيقى والفن في أوروبا. وفي عيد مولده الخمسين تأمل ماضيه وما أنجز وتساءل عما ينتظره في مستقبله.

لكن هيتلر كان في انتظاره وانتظار غيره. يصف الكاتب ملاحقة المفكرين والفنانين اليهود وغيرهم، أحرقت كتبهم وأجبروا على الهجرة. وبعد أن تردّد تسفايغ كثيراً غير مصدق ما يحصل اضطرّ إلى اتخاذ قرار مغادرة النمسا سراً إلى إنكلترا، حيث قضى ست سنوات من العزلة الاجتماعية والسياسية منقطعاً إلى كتابته. إلا أن اقتراب الحرب من انكلترا شجعه على قبول دعوة من الولايات المتحدة وبعدها من أميركا اللاتينية، حاملاً معه هموم أوروبا، ولا سيما النمسا وويلاتهما.

 

26 Jun, 2017 12:45:40 PM
0

لمشاركة الخبر