عائشة المؤدب في قصائص "غواية أخرى": متى كانت اللغة سجينة في كلمة؟
في البدء يبدهكَ الوسمُ الجانبيّ على الغلاف الذي يسمُ كتاب:" غواية أخرى " ب " قصائص" . كأن التسمية تشير لهذا المزج ما بين الشعري والقصصي، فهي : قصائد وقصص معا، قصائد طليت بالسرد، وقصص اكتست بالشعر. هو مزج ذكي لأن ما يحدث بالفعل من كتابات شعرية في الأفق العربي هو مزيج من تأثير السردي على الشعري وبالعكس، وشعرية السرد أو تشعير النص الشعري بالسرد هو عمل جمالي تجريبي حادث وما يزال يشكل حدثا كتابيا له حضوره وله نصوصه الكثيرة التي تتجلى في أطراف من مشاهد قصيدة النثر على الأخص.
يتشكل ديوان الشاعرة التونسية عائشة المؤدب :" غواية أخرى " ( دار المنتدى للثقافة والإعلام، تونس، الطبعة الأولى 2016) من (26) نصًّا، يمتزج فيه الشعر بالحكي والسرد، وينتج عن هذا الامتزاج جملة من النتائج الفنية والجمالية، تتمثل بإيجاز في: بسط الجملة الشعرية، وصبغها بالأبعاد الوصفية والتفصيلية أحيانا، والموازنة بين القول الذاتي والموضوعي في سياقات النص، والإكثار من الجمل الشعرية التي تذهب لليقين عوضًا عن السؤال، والبحث عن المضمون في مقابل التخلي عن الكثافة، والحذف، وشيوع الخبريّ كنسق تعبيري في مقابل تغييب الإشاري إلى حد ما.
هذه هي الواجهة الجمالية الأولية التي يمكن استشفافها من هذا المزيج ، ولنر إلى النصوص لنتبصر كيف قدمت عائشة المؤدب سياقاتها التعبيرية؟
سجينة في كلمة:
تستهل عائشة المؤدب كتابها بقول دال، يبرر هذا المزج الشعري- القصصي:" الشعر حالة طارئة على اللغة، تفقدها صوابها وتقترب بها من حالة اللا وعي، هل الحكاية سبب كاف لتعود إلى رشدها؟ .. لكن مهلا ! متى كانت اللغة سجينة في كلمة؟! ".
هنا تنكر الشاعرة أن تكون اللغة سجينة في كلمة أو مفهوم، سواء كانت هذه الكلمة هي: الشعر، أو الحكاية، فإذا كان الشعر حالة تفقد اللغة صوابها وتدخلها في حالة:" اللا وعي" فالحكاية تعيدها إلى رشدها، باعتبار أن الشعر تخييل أبدي والحكاية نوع من منطقة الأشياء وفك شفرات هذا التخييل . إنه صراع وجود اللغة بأي شكل إبداعي بعيدا عن قانونية المصطلح، وقفزا على أسواره الشاهقة.
تبدأ الشاعرة كتابها بنص بعنوان:" وصايا قبل عبور المضيق" ( ص.ص 7-8 ) مستهله هكذا:
أيها المارُّ من مضيق النص، ترفّقْ.
اخلع نعليكَ. تحسس تربتي بقدمين حافيتين،
سر عليها وأنصتْ. ترفقْ وأنت تطأ العتبة الأولى حافيا
وأنت تطأ العتبة الأخرى تحيطكَ اللغة بكمائن من مجاز.
هكذا هو المفتتح النصي، رسم أفق لغوي ، لقيمة اكتشاف اللغة وتحديد كمائنها المجازية، مع تشكيل حالة قداسة استعارية :" اخلع نعليك" أثناء المرور من اللغة إلى النص وبالعكس. الكتابة هنا حالة ترفق وتأمل وتقديس . هكذا تنير الشاعرة بدء حالتها النصية، لتكرر بعد ذلك جملة:" أيها المارّ من مضيق النص ترفّقْ" لتعطي إفادة دلالية أرحب:
حين تقترب من آخر المضيق، تأمل وشم الرحلة مرسومًا بدمي على كفك اليمنى.
تثبّتْ من الأصوات العالقة في أذنيكَ: هو لحن صرت تعرفه نابضًا كرجفة.
كل ما جمعتَهُ مذ دخلت الغيمة: غبار مستقر على أثاث الروح
كل ما ستذكره وأنت تخرج من الغيمة ظامئًا: أنكَ تورطتَ في غواية أخرى "
الخطاب للمار من مضيق اللغة، الخطاب ذكوري واللغة مؤنثة. الخطاب هن يُشهّي عملية الإبداع لترتبط بما هو أنثوي: القصيدة والحكاية، كأنهما الصدى الدلالي: للشعر والنثر. إنه البحث الأولي صوب الاكتشاف، وميزة هذه الطريقة الكتابية أنها تجعل التعبير حرًّا طليقًا، وأنت في هذه الحرية العارية من أسس وقواعد معهودة سوف تنقب بنفسك وتبتكر بنفسك وتصل وحيدًا إلى مشارف التعبير.
شعري وسردي:
في الوصف الداخلي للكتاب بنموذج ( الفهرسة) أضاءت عائشة المؤدب إضاءة أخرى ل كلمة:" قصائص" حيث وصفتها بأنها:" حالة ثانوية بين القصة والقصيدة" . هذه الحالة عبر النصوص هي حالة مشعرنة بالتأكيد، وهي تمزج بين طرفي القول : الشعري والسردي، وهذا المزيج نتجت عنه حالة شعرية لا حالة قصصية على الأغلب، ومن هنا فإن فضاء القراءة سيميل إلى ما هو جوهري في الكتاب لنسمه بأنه ديوان، ونسم كتابته بأنها نوع من التجريب، وبأنه على حد تعبير الشاعرة:" حالة ثانوية" حالة تلعب على هامشي الشعر والسرد، لكن من منظور شاعرة لا من منظور قاصة، وبالتالي فإن هذه الرؤية سوف تقودنا إلى التماهي مع النصوص في شعريتها لا في سرديتها على الأغلب، مع اليقين بأن هذا المزيج يعطي الكتابة قدرا من الانبساط الشعري، والامتداد الدلالي كما أشرت في بداية القراءة.
ولا تثريب علينا هنا لو قسمنا النصوص حسب تقسيمها السردي والشعري كإجراء للقراءة لا أكثر ، فهناك نصوص سردية- شعرية، وهناك نصوص شعرية،
ومن بين الأولى ، نصوص مثل: ( أرملة الوقت ص.ص 9-14) ( سيجارة الجدة/ مقبرة آهلة بالفرح/ وعل مهاجر/
وفي الثانية الشعرية نصوص مثل: ( عطر زليخة ص.ص 15-18) زوربا يرقص على إيقاع نشيدنا الوطني/ ( ص.ص 25-29) وفيه:
أبرياءٌ
يوزعون أوسمة على طرقات تفتحُ أزرارها للريح
يُكممون أفواها عاطلة عن الصمت ببطاقات احتراق
ها هم يبررون بلاهتنا بسر رباني
نبتلع الريق مع حفنة سراب مر
ها هم يأكلون زيفهم وها هي الأرض تزغرد لموتها
تباركتْ ساعة الجدب، تباركت مسامير الخيانة ندقها ونرضاها
كم هم أبرياء منا
وكم نحن متهمون بهمْ
وتتأدى الشعرية بشكل طيع في " وعل مهاجر " وفي نصوص تالية معشقة شعريا، مثل:" أرملة الوقت" / ص.ص 9-14 الذي يتقدم لصنع دلالته بشعرية باذخة لا يعطلها ما هو سردي تماما لنقرأ تمثيلًا:
" قبل الشروع في رصف نهار جديد، كانت كل صباح تراقب الكلمات وهي تقفز من فنجان القهوة كغربان جائعة، تعارك شاعرها المنفيّ في دمها حول مصروفها العاطفي الزهيد، تحادثه عن وجهه يطالعها من قمرة حلمها، تتركه يموج بين أسمائها، وتلتفت إلى النافذة المعلقة على الجدار" .
هكذا البداية سردية كما نرى من جمل النص، بيد أن هذا السرد متشح بحالة تشعيرية واضحة، تتبدى في التعبيرات الاستعارية، تتبدى في كثافة الجملة، وفي التشوف الرمزي، فالكلمات تقفز، والمصروف عاطفي، والشاعر منفي في دمها، وهو يموج بين أسمائها" هي تعبيرات شعرية كما نرى تحددت في مستهل أفق سردي، لكن مع استمرار قراءة النص، نرى الشاعرة تعود إلى التعبيرات القصيرة المكثفة، وإلى تضمين النص حالات شعرية خالصة، مرتكزة بشكل أسلوبي على حيوية تكرار الفعل بشكل كثيف:
... كما لو أنها تبتسم، تلمع
ترتجف اليد، ينفلت الخيط، ويومض العقيق
بريق؟ ... عاصفة من ضوء؟
ينشق الليل وتضحك العناكب بزغب زهريّ
يصرخ الشاعر
يعوي الطفل
يموجُ الوقت وينحلُّ
ترتجف العتمة ، تشرئبّ.
...
في الخلفية عتمة مزمنة كموسيقى تصويرية لفلم سوريالي
لا شيء يتنفس، والهواء المتخثر يبتلع
الساعة الشاخصة نحو العدم.
تبوح الشاعرة بدراما الوطن، برصدها لمأساوية المدينة وطغيانها، ضد الأبرياء سواء من الأطفال أم الفقراء أم المتربين، تعيد الشاعرة تذكرينا بموقف الشعراء العرب في قصيدة الحداثة من المدينة التي هي عندهم مدينة بائسة أو ملعونة، أو على الأقل لا تحتفي بما هو إنساني، مدينة مقنّعة بأقنعة لا تحد، وهو ما يشكل موقفا رافضا في أغلب التجليات الشعرية لشكل المدينة وقسوتها الواضحة، تقول الشاعرة في نص:" زوربا يرقص على إيقاع نشيدنا الوطني" :
هذي المدينة وطنٌ قاتلٌ
يبدأ يومه بالبصق على وجوه الفقراء
وطن درّب نشرة الأخبار على عرض
في المزاد العلنيّ
تعلم كيف يحول دمًا مجهول الهُوية
إلى لافتة إشهارية
تطلق غازات شالّة للخجل / ص 26
ومع الاتهامات الكثيرة التي يتهم بها الوطن أبناءه بل وعشاقه:" تهمة تحويل وجهة قمر قاصر عن الضوء/ تهمة شاعر صنع قذيفة نثر يفخخ بها جوارب البوليس/ تهمة عساس الجبانة زين كفنا بحزام ناسف للحزن/ وطن يحتفل بخساراته ويضحك بأفواه الذئاب" / ص 27
يمضي النص إلى تسجيل المفارقات، والمشاهد الدرامية التي تبدي قسوة المدينة وقسوة الوطن معا،
لتصل إلى الختام:" ها نحن نرى الوطن يكابد عرجه ويرقص، يضع ذراعا على كتف زوربا ويرقص، وبذراعه الأخرى يلكز وجوهنا لنرقص معا على إيقاع نشيده الرسمي " / ص 29
اشتغالات البنية:
في تأسيس البنية النصية تجتهد عائشة المؤدب في إقامة نوع من التراتبية البنائية التي تُهيكل بها نصوصها، وتجعل لها معنى شكليا – إذا صح التعبير- حيث ينطلق النص أولا بممهدات سياقية وصفية على الأغلب، ثم تعيد ترجيع هذه الممهدات بتفصيل أكثر، تدمج فيه الذات بحركة السياق، ثم يتوهج النص بدلالات كثيفة في بؤرته الدالة، ثم تختتم النص بتركيز صوب تخليص الفكرة أو لنقل الدلالة النصية من استطراداتها وتفاصيلها إلى إجمالها وإحكامها.
نرى ذلك في نصوص كثيرة خاصة التي يمتزج فيها الشعري بالسردي مثل: خلل مناخي، و أمنيزيا، خدر، وعل مهاجر، خطيئة أولى، جاذبية، مقبرة آهلة بالفرح، طائرة ورقية.
في (خلل مناخي) تمثيلا استهلت بقطعة وصفية:" رذاذ يطرق النافذة لاهثًا، يحمل رائحة البارود ودماء عطرة، حين أطللتُ عليه أستفسر ضوءه ، انهمر وحدثني" ثم تاليا تلج إلى تفصيل أكثر:" حدثني المطر أنه كان يطرز فستان عروس منشور على جسدها بصوت بكاء المكان، حدثني أنه كان يبلل عطش اللاهثين وراء هتافاتهم وأنه كان ...حدثني المطر أيضا أنه كان ... إلخ" ثمة فضاء مفتوح هنا للكتابة السردية المشعرنة، وهي كتابة تقود أكثر لمنح الجملة الحاكية الحيوية المتشحة بمضارع، إشراقة أكثر. وهو ما تؤديه عائشة المؤدب بشكل بارع.
ومن الأشكال الأخرى التي تضيفها المؤلفة لديوانها : الشكل القصير الواقع بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر، كما في نصوص: شائعات، فرار، منبوذون كملائكة، أنياب وخنجر، وهي نصوص أكثر تركيزا ربما منحتها شاعريتها النثرية كثافة الرؤية والمفارقة في وقت معا. كما تكتب الشاعرة في نص واحد مطول متضمنا مجموعة من الجمل المكثفة ذات الإشارات التعبيرية، ربما ما يطلق عليه قديما في الموروث العربي:" التوقيعات" أو ما يطلق عليه الشاعر عبدالقادر الجنابي :" شقائق نثرية" والنص بعنوان:" غوايات مستعجلة" ص.ص 85-
ومنه: " أشهد أنك حفظت وعدك بأمانة وأخلصت عهدك أن لا تمسني بسوء لكنك مسستني بجنون" و " ما للعشاق وضفائري؟ كلما أرسلت ضفيرة طار بها عاشق جديد" و" عندما أحببتك نبتت لي شفاه" .
بالتأكيد: إن اهتمام عائشة المؤدب بجمالية العبارات، وتشعيرها بأفق من الصور والمجازات والاستعارات، ضيق الفجوة بين تطلعات السرد التي تحتشد للتفاصيل أكثر، وبين الشعر الذي يحتفي بالكثافة والتجريد وكتابة الحذف. هي تجربة كتابية هنا قدمتها الشاعرة تستحق التأمل لاستشفاف مزاياها وخصوبتها الفنية الطليقة.