المكتبة والكتاب والذكاء الاصطناعي في مؤتمر لبناني مختص
الأرجح أن يصاب كثيرون بالدهشة إذا ما عرفوا أن الإقبال على المكتبات العامة التقليدية (نعم: تلك التي ترتصف الكتب على أرففها، وتتوزع الصحف الورقية على طاولاتها)، يتزايد في أوساط الشباب في أميركا. ومن يريد الاستزادة من تلك الأرقام، ليس عليه سوى مراجعة موقع «بيو ريسيرتش سنتر» الأميركي الشهير. وفي المقابل، يجب القول إن المكتبات العامة في أميركا نجحت في تجديد نفسها، وباتت تضم حواسيب متّصلة بالانترنت، وكتباً إلكترونية وشاشات تلفزة، وتقدّم خدمات غير مكتبيّة كالقهوة والشاي وغيرها.
تحضر تلك الوقائع الى الذهن لأن هناك استسهالاً عربياً واسعاً للقول إن الكتاب الإلكتروني «قتل» الكتب والمكتبات، خصوصاً عند الشباب. لو كان ذلك صحيحاً، لانطبق على أميركا قبل غيرها، وهو ما لا تصدقه الأرقام.
وفي منتصف أيار (مايو) 2018، شهد لبنان مؤتمراً لم تخل أروقته من ذلك النقاش. وفي بيروت، عقدت «جمعيّة المكتبات اللبنانيّة» Lebanese Library Association مؤتمرها الرابع، بالتعاونِ مع «لجنةِ آسيا-أوقيانيا» في «الاتّحادِ الدولي للمؤسّسات وجمعيات المكتبات» International Federation of Library Associations & Institutions («إفلا» IFLA)، رافعاً شعار «المكتبات المتجدّدة: الطريق إلى المستقبل».
وشارك فيه 35 متحدثاً من دول وجامعات ومكتبات عربيّة وعالميّة. ودعمته 24 مؤسسة تعمل في تصميم برمجيّات حاسوبيّة لإدارة محتوى المكتبات والوصول إلى البيانات والأرشيف، إضافة إلى حضور أكثر من 350 شخصاً من العاملين في مكتبات لبنان وجامعاته.
وتأسّست «إفلا»، وهي جمعيّة غير حكوميّة، في إدنبرة (اسكتلندة) في العام 1927، وتمثّل مصالح خدمات المكتبات والمعلومات ومستخدميها.
تأسّست «جمعيّة المكتبات اللبنانيّة» في بيروت عام 1960، بهدف تحسين مستوى المكتبات وأمنائها، وتشجيع البحوث العلمية والأدبية في لبنان. وتساعد الجمعيّة أيضاً في تحسين تبادل الخبرات والمعلومات بين المكتبات.
ما الذي فعلناه أم لم نفعله؟
حاول المؤتمرُ الرابع لتلك الجمعية الإجابة عن سؤالٍ أساسيّ: ما هي النظرةُ المستقبليةُ إلى المكتبات في عصرِ التغيير وزمنِ التجديد والابتكار؟ وكذلك سعى لتحديد الرؤيةِ عن ماهيّةِ الأسس المعرفيّة والأطر الفكريّة المطلوب أن تتوافر في جامعاتِنا ومكتباتنا ومؤسّساتِنا العلمية.
وبديهي القول إن مصطلح «مكتبة» يشير إلى صورتها المعروفة، إضافة إلى كلّ ما يحيط بها من مجالاتٍ علميّةٍ وفكريّةٍ وهندسيّةٍ ومعرفيّةٍ وثقافيّةٍ.
وسادت المؤتمر قناعة بعدم صحة الاعتقاد بأن التقنيّات تلغي دور المكتبات والمكتبيّين والمختصين بإدارة المعلومات، بل أن العكسَ هو الصحيح. إذ تعطي التقنيّات للمكتبة دوراً أهمّ بكثير ممّا كانه أمرها تاريخياً. ومألوف بعد كل ثورةٍ معرفيةٍ طرح سؤال متشائم أو متوجس عن دورِ المكتبةِ وأهميتِها، وسرعان ما يتبين أنّ المكتبة تأخذ دائماً دورَها الرياديّ في إيصالِ المعلوماتِ التي تعزز مسار اكتساب المعرفةِ. وكذلك بديهي التفكير بأن كل تغيير في طرقِ الحياة، يؤثرُ في العلوم، ويطاول تالياً دور المكتبة. ويفترض بالمكتبة، في المعنى الواسع للكلمة، أن تتأقلمَ مع التغيراتِ، إذ لا يحمي علم المكتبات والمعلومات إلّا العاملون فيها والمشتغلون في المجالات المتصلة بها.
ولوحظ أن المؤتمر نجح في توسيع الرؤية، بمعنى أنه بدأ بأسئلة قليلة، ثم توسعت أمديتها مع نقاشاته. ولعل مرد ذلك هو أن عالم المكتبات يمرّ في مرحلة تغيير جذريّة، خصوصاً لجهة تأثير التقنيّات الرقميّة في الكتاب وعمليات والنشر والإدارة المكتبيّة، إضافة إلى أدوات البحث والتنقيب عن البيانات، والمصادر الببليوغرافيّة وكل ما يتصل بالقراءة.
أبعد من القراءة
برز في المؤتمر سؤال محوري عن الأشياء التي لا تقوم بها المكتبة حاضراً، خصوصاً بعد أن قُدمت عروض وأطروحات عن تبادل الخبرات والتجارب العالمية في عالم المكتبات. وكذلك تبيّن أن المكتبة لم تعد مجرد مساحة مغلقة للقراءة، بل صارت في بعض البلدان مساحة مفتوحة للتواصل الاجتماعي والثقافي، وطريقة شاملة للحياة، لها هندستها المعمارية الخاصة، وأدواتها التي تساعد على الإحساس بالراحة خلال العمل والقراءة، كتوفر أمكنة مريحة للجلوس، وحواسيب مختلفة، وغيرها من وسائل الراحة التي تتأقلم مع الأجيال الشابة.
لم تقتصر المشاركة في المؤتمر على المختصين بإدارة المعلومات والمكتبات، بل شارك في ندواته مختصون بإتاحة المعلومات وإدارتها ونشرها، وصنع قواعد بيانات مختصة. وشهد المؤتمر أيضاً مشاركة من مؤرخين للمحتوى الثقافي ومؤرشفين له، إضافة إلى مختصين بالعلاقات العامة الاستراتيجية، وخبراء في المعلوماتيّة التطبيقيّة التي تهتم في بناء برمجيات لحوسبة التطبيقات المكتبيّة.
وأعطت تلك الأمور مؤشرات إلى أن التجديد في المكتبات يحتاج إلى تلك الاختصاصات كلها. ومع ملاحظة أن التجديد يعني الإبداع والابتكار، وكون العالم يعيش مرحلة إبداع في العلوم بما فيه علم المكتبات والمعلومات، تدفق كلام كثير في المؤتمر عن علم البيانات الذي يعالج ما يعرف باسم «البيانات الضخمة» («بيغ داتا» Big Data) كي تصاغ بطريقة سهلة تتناسب مع الجمهور الواسع.
لم يغب عن بعض المحاضرات دور الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence في إدارة المكتبة وفي الوصول إلى المعلومات. وهناك ميل لتبني حلول تفضي إلى تحقيق مفهوم «المكتبة الذكيّة» Intelligent Library التي تكون فيها الخدمات ذكيّة، إضافة إلى أتمتة عمليّات استرجاع الكتب وفرزها، وإجراء عمليات الجرد والإعارة والإدارة وغيرها.
ضآلة في برمجيّات الكومبيوتر للغة الضاد
هل انها وجه آخر لأزمة العرب مع التقدم التقني والعلمي؟ برز في المؤتمر الرابع لـ «جمعيّة المكتبات اللبنانيّة» فقر عربي في برمجيات الكومبيوتر التي تتيح الوصول إلى الوثائق والمعلومات باللغة العربيّة، بمعنى أنها ضئيلة العدد تماماً، على عكس الحال في معظم اللغات الأخرى. ويعني ذلك أنه يتوجب على العاملين في التصنيف والتنقيب والبحث الآلي وصنع الكشوفات عن الوثائق، زيادة الجهود في ذلك المجال.
ومن الصعوبات التي تواجه الباحث عن المعلومات بالعربيّة، تعدّدية طرق كتابة الكلمة (مع همزة أو من دونها مثلاً) أو البحث عن أسماء العَلَمْ والتميز بين الأعلام والأسماء بمعناها القواعدي، إضافة الى مشاكل إدماج بعض الأحرف كالفاء وواو العطف وغيرها. وما زالت تلك الظاهرة تشكّل عقبة أمام مصممي البرمجيات وصُنّاع تطبيقات البحث الآلي بالعربيّة. ولا يتعلق ذلك بضآلة الإنتاج العلمي العربي، إذ إن بعض البرمجيات ودور النشر العلمي تتطلب من الناشر والباحث معايير ما زالت غير مطبقة من قبل الناشرين العرب، ككتابة العنوان والمستخلص باللغة الأجنبية.
كذلك يتوقع أن يكون للبرمجيات المتصلة بالمعالجة الآليّة للغة العربيّة واللسانيات الحاسوبية دور متعاظم مستقبلاً، في عالم إدارة المكتبات والوثائق الرقميّة. ويفترض بها أن تسهل للمستخدم سُبل الوصول الى المعلومات المكتوبة بالعربيّة. ويضاف إلى ذلك أن تلك البرمجيات ستُوصل المستخدم إلى الأجزاء التي يبحث عنها في نص ما، ما يغنيه عن قراءته بأكمله. من يفتش عن «تعريف» لمصطلح ما، لن يبحث في كل الكتاب ليصل الى التعريف، بل سيصل إلى الجزء الذي يحتوي على ذلك التعريف.
لا مجال لتناسي أهمية ملكة الإبداع عند الإنسان، خصوصاً عندما يهضم المعلومات المتاحة له. وإذ تساعد الشبكات الإلكترونيّة في ربط الحواسيب بعضها ببعض، دخلت المعلومات والبيانات مرحلة الترابط في ما بينها أيضاً.
وفي المؤتمر عينه، نالت الهندسة المعمارية حصّة كبيرة من النقاش، باعتبار أنها تؤمن الراحة لجمهور المكتبة، وتساعد أيضاً على استغلال الضوء والطاقة في هيكلية مبناها. لم تعد المكتبة رفوفاً وأشخاصاً يلبسون نظارات سميكة، ودرجاً فيه بطاقات تدّل إلى موقع الكتاب، بل أصبحت مساحة للتسلية وأخذ قيلولة وشرب القهوه وغيرها.
والأرجح أن المعلومات وطرق اكتساب المعرفة باتت منتشرة، وضمنها المكتبة، بانتظار من يستفيد منها.
وخلص المؤتمر إلى حثّ وزارات الثقافة في العالم العربي على تبني المكتبات والعمل على تطويرها، إذ يفترض بالوزارات أن تكون في طليعة من يغذي الثقافة التي يصعب أن تتطور بعيداً من الدور الفعّال للمكتبات.