Pasar al contenido principal
أسيمة درويش... الإبداع والمحبة ضد الموت

كانت أسيمة درويش صديقةً عاشقةً لبيروت وأهلِها ومثقّفيها ومؤسساتِها الثقافية، ومُدرِكةً قداسةَ رسالتِها ودورِها . أسيمة درويش، فقيدتُنا وفقيدةُ الثقافة والصداقة، كانت شخصيّةً عميقةً رائيةً متعدِّدةَ المواهب، عظيمةَ الشّهامة عاليةَ الذكاءِ والطموح، حيثما عبرَتْ خلّفَت أمواجَ محبّةٍ وروابطَ صداقاتٍ وروعةَ ذكريات. لكنها عاشت ممزَّقةً بين طموحِها وظروفِها الشّخصيّة وآلامِها.


واجهَتْ، في البدايات، أنظمةَ مجتمعٍ مُغلقٍ راسخٍ في التّقليد، مجتمع متشدّد يقفلُ المنافذَ في وجهِ النساء، لا سيّما في تلك المرحلة المبكّرة التي ذهبت فيها لتصبحَ مواطنةً في مهدِ الإسلام. مع ذلك عرفَتْ كيف تُفيدُ من أيّ فرصةٍ وأيِّ مَنفَذٍ يسمحُ لمواهِبها بالتجلّيّ. هكذا تابعَت الدروسَ العالية بقدرِ ما أُتيحَ لها في الجامعة، وكتبَتْ في الصحفِ المحلّية السعودية مقالاتٍ عديدة.

وما أن غادرَ زوجُها المـــملكةَ في مهمّاتٍ رسميةٍ أو خاصّةٍ حتى اغتنمَتْ، حين رافَقَته، كلَّ فرصة، فانتسبَتْ إلى الجامعة وأتْقَنَتِ اللغةَ الإنكليزية وانفتحَتْ على النتاجِ الأدبيّ العربيِّ والغربيّ. كانت مأخوذةً بالعلمِ واكتسابِ المعرفةِ والعطاءِ الأدبيّ. وأنتجَتْ في حقلِ الأدبِ نثراً وشعراً.

لكنّ هذه الشخصيةَ المُلهَمَةَ المليئةَ بالحياة أصابَتْها نكبةٌ قاصِمة، إذ مات ولدُها الأصغرُ في مطلعِ شبابِه، في حادثٍ مُروّع، فكانت فاجعتُها مزدوجة، ولم تُشفَ منها. ولم تعرفْ أنّ فاجعةً ثانية ستحلّ بها بعد ربع قرن وتذهب، في النهاية بالولدِ الآخر، لتقضي على كلِّ صلةٍ لها بالدنيا، فلم تعِشْ بعده إلاّ شهوراً.

هذه الشخصيةُ المتوهِّجة الذكية المبدِعة نهضَتْ من انهيارِها الأول، وعالجَتْ حزنَها بالعطاء على جميع المستويات:

فإلى العُمرة وغيرِها من الطقوسِ الدينية، جاءت إلى دمشق، مسقطِ رأسها، وطافَتْ على عديدِ الجمعياتِ الخيرية ومدارسِ الأيتام، وقدَّمَت التبرعاتِ السخيّة، والتزمَتْ بإجراءاتٍ ومساعداتٍ منتظِمة. لقد بحثَتْ عن العزاءِ في العطاءِ المادّيّ قبلَ أن تَستنجدَ بمواهبِها، وتُلقي بنفسِها في مجالِ العطاءِ الإبداعيّ. هكذا كتبَت الشعرَ وكتبت الرواية، خاصّةً، على مستوىً رفيعٍ من حيثُ العمقُ والرؤيةُ وتحليلُ الشخصيات، وبأسلوبٍ نظيفٍ مُباشِرٍ متحرّر من الحَشْو، فوقفت في صفِّ الروائيين الخلاّقين، في روايتها «شجرة الحبّ غابة الأحزان»، الصادرة عن دار الآداب.

لكنّ أسيمة درويش كتبت النّقدَ، بالأخصّ، من ضِمنِ المنظوراتِ والنظرياتِ الحديثة. وأصدرت كتابين بالِغَي الأهمية، هما «مسارُ التحوّلات» و «تحريرُ المعنى»، ( دار الآداب). وهي لم تختَرْ للدراسةِ والتحليل، في الكتابين، المألوفَ سهلَ المقتَرَب من الشعراء، بل مَن كان مشهوراً بغموضه وعمقِ نصوصِه وخلفياتِه التراجيديةِ والفلسفيّة، ما جعلَه محلّ سجال. أنا نفسي سألتُها بشيء من التشكيك وحتى التحذير: لماذا تختارين أدونيس، وهناك شعراء مُجيدون أقلُّ غموضاً وأكثرُ شعبيةً وأسهلُ مقتَرَباً. وأذكر أنّ سؤالي لم يعجِبْها، ورأت فيه غضّاً من قدراتها. كانت في الحقيقةِ تهوى التَحَدّي، وترمي إلى الغوصِ في نصوصٍ تحرِّكُ الأسئلةَ وتُقلِقُ الاطمئنانَ. ولعلّها كانت تلتمسُ ما يضيءُ ويقودُ إلى شفاءِ تساؤلاتها واستكشافِ تراجيديا الوجود.

وأوّلُ ما أدهشني عند فقيدتنِا أسيمة درويش، هو مستوى مطالعاتِها، عبرَ الترجماتِ إلى الإنكليزية، وتمثلُها المدهشُ الثقافةَ الأدبية الحديثة، والتقنياتُ والأساليبُ التي ابتدَعَتْها لدى تحليل شعر أدونيس. وقد كتبت بثقةٍ كبيرة، وبكثيرٍ من الحيوية والدّفْقِ والعمق وسعةِ الأفق. ومنذ كتابِها الأوّل، ناقشَتْ كبارَ الباحثين، واعتمدَت النّظريّاتِ الحديثة، وأرسَت مفهوماتٍ وطوّرتْ تقنيات.

إنّ تحليلَها لنصوص أدونيس يقدّم ما هو أكثرُ من إضاءةٍ معرفيّة يتمُّ اكتسابُها بالاطّلاع. إنها أضواءُ نظرٍ راءٍ وتجربةٍ فكريّةٍ وصميميةٍ بعيدةِ الغَوْر. وقد كشفَتْ لنا كتاباتُها عن قدرةٍ عاليةٍ على القراءة، وقدرةٍ أعظمَ على الذهاب بعيداً في أعماق النصِّ وخفايا دلالاتِه.

هكذا كانت سنواتُ حزنِها العظيمِ الذي لم ينقطعْ، هي في الوقت ذاته سنواتُ تفجّر العَطاء وتألُّقِ الموهبة.

كأنّما كانت تريدُ التعويضَ عن العُمر الذي مضى، والتماسَ المعنى الضّائعِ ومداواةَ الكارثة التي حلّت بها. فتوسّلت لذلك تلك الرحلةَ في الشعر لاكتشافِ أعماقِ الإنسان في خلجاتِ اللغة الإبداعية. وكانت بذلك تتساءلُ حول معنى الأعجوبةِ الكونيّةِ التي نسمّيها الحياة.

إنّني أعتبر كتابيها عن أدونيس «تحرير المعنى» و «مسار التّحوّلات» بين أهمِّ الدراسات التي وُضِعَت حول هذا الشاعر، وهي، كما نعرف، بالغةُ التعدّدِ والتنوُّع. فما كتبَتْه يتجاوزُ عديدَ أطروحات الدكتوراه حول الموضوع من حيث العمقُ والإشراقُ والاستقصاءُ وبُعْد الرّؤية، وجِدّةُ المقارَبَة، فضلاً عن حيويةِ الأسلوب ودقّةِ التحليل وجودةِ التّعبير. هذا المستوى الرفيعُ من تلقّي النّصِّ الشعريّ لشاعرٍ ذي خلفيّاتٍ فلسفيّةٍ- صوفيّة (على الأقلّ في بعض المراحل) يدفعُ إلى الدّهشة؛ كما يكشفُ عن عُمقِ رؤيةِ الكاتبة وتمثّلِها الثقافةَ الأدبيّة الحديثة، فكتابُها «مسار التحوّلات» يطرُق باب السّجال من موقِعٍ رفيعٍ مُتَمَيّز، كما يتوسّع في بحثٍ نظريٍّ فكريٍّ عميقٍ يُمثِّل رسالةَ الفِكرِ النّقديّ الحديث، ورحابةَ أفقِه ليشملَ حقولَ التاريخِ والاجتماعِ والفلسفة. وهذا التجاوزُ هو نفسُه، في رأيها، وبحسبِ تعبيرِها، «ما خرج بالشعراء والروائيين والنّقّاد من الحدودِ الحصريّةِ إلى فضاءِ القضايا الإنسانية»، كما ورد في كتابها السابق ذكره.

ركّزَت في كتاباتِها على اللقاءِ بين التطوُّرات الشعريّةِ، الحداثية بالأخص، والتطوّراتِ الحضاريّةِ الثقافيةِ والفكرية- السياسية، ولاسيما اللقاء بين التعبير الأدبيّ والتفكيرِ الاجتماعيّ السياسيّ النّضاليّ. بل إنّها ترى أنّ «الكتابةَ الأدبيّة المعاصرة، هي الممارسةُ الأوضحُ والأقوى حضوراً، في غيابِ مؤسَّساتٍ ومنابرَ ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ وفاعلة»، وذلك «على مستوى الجذريّةِ والبحثِ والاستمراريّةِ والتّواصل».

بعد النقد كتبت أسيمة درويش الرّواية. كتبتها بحيويةٍ وعمقِ تحليلٍ ورهافة تعبير، وتصويرٍ حيّ للشخصيات، فكأنها كتَبَتْها على امتداد سنين. إذ تميزَت روايتُها «شجرةُ الحبّ غابةُ الأحزان»، بأسلوب حيويٍّ جزلٍ وسردٍ وثّاب متدفِّق، ورسمِ ظِلالٍ تلوحُ عبرَها ملامحُ الشخصيات، وتُعالَج قضايا مصيرية، كما تحضُر رؤيةٌ شاسعة تمجّد الحريّةَ وتَجاوُزَ النفسِ والتسامي.

وفي ما يتجاوز شغفَها بالكتابة إلى الأمور الشخصيّة، لم يكنْ أيُّ شيءٍ يشبهُ اندفاعَها للوقوفِ إلى جانب الأصدقاء. كان فيها مستوى باهرٌ من التعاطفِ والوفاء. فهي من ذلك المستوى الأريَحيّ الشاهقِ الذي لا يعترف بالصعوبات أو يتوقّف أمام العقبات. آلافُ الأميال كانت تعبرُها بين قارة وقارة لعيادةِ صديقةٍ في سريرِ المرض. وما كان أيُّ شيءٍ ليثنيَها عن مناصرةِ من ترى وجوبَ مناصرتِه وقولِ ما ينبغي قولُه.

فإلى تميُّزِها بعمقِ الكتابةِ وبهاءِ الحضورِ الإنسانيّ كانت تتميزُ بعبقريةِ الصّداقة.

آراء في ندوة حول أعمالها

ألقي مقال الناقدة خالدة سعيد في ندوة عقدت بدعوة من دار الآداب ودار نلسن للنشر وتجمّع الباحثات اللبنانيات في دار الندوة بعنوان «تحية إلى الأديبة الراحلة أسيمة درويش(1939-2017)» في ذكرى مرور سنة على رحيلها. وشاركت فيها أيضاً الناقدات: يمنى العيد ونجلا حمادة ورولا بعلبكي وأدار الندوة الكاتب سليمان بختي.

وجاء في كلمة يمنى العيد: «حين جاءت الأنثى إلى الكلام، الكلام الذي يأتي بالذاتي إلى الضوء، منع عليها. قلّة هنّ الكاتبات اللواتي تجرّأن على رفع الغطاء عن أرواح الإناث المعذّبة وقلّة هنّ اللواتي جئن بأرواحهن الطافحة برغبة الحياة ومتعها إلى عوالم المستحيل. فينتصر الأنثوي التاريخي في «شجرة الحب غابة الأحزان» بصفته المرجعية عن الأنثوي الحلمي في المتخيل الروائي. هكذا ينتهي العشق بـ «مدى» إلى احتجازها في عالمها، فيما ينتهي عاشقها الغربي إلى موته. نحن وريثات أولئك النسوة اللواتي كنّ صوتنا الأَولى، صوتنا الذي ارتفع عالياً كي نكون إناثاً غير منقوصات الحقوق، غير محرومات بسبب أنوثتنا من أن تكون لنا إنسانيتنا. صمتت «مدى» بعد أن بقي عشقها سجين الكلام الدفين طيات الروح والجسد. صمتت الكاتبة عن كتابة الروايات، قالت ما تريد، وذهبت إلى موتها البطيء. صمتت صاحبة القلم الجميل واللغة الباذخة. صمتت ربما لتنجو، ربما لتنقذ الأنثوي الذي تركته لنا.

كم يا صديقتي لهنّ ذكاؤك وصبرك الجميل وقوة عزيمتك على مواجهة الحياة حين ترميهنّ بالحرمان من فلذات أكبادهنّ. قلّة لهنّ مشاعر أمومتك وإخلاصك العالي. أنت المرأة الأنثى الطافحة بالحب والعطاء الشامخة على الأذى والألم. نادرة في صفاتك وعزيمتك على الكتابة والحب والحياة. نادرة أنت في وفائك. تحيتي لك ولصداقتك الجميلة».

18 Jul, 2018 09:51:49 AM
0