طعمة فرمان " المرتجى والمؤجل.. أول رواية عربية تبشر بالجيل الثالث من المهاجرين "
د. نادية هناوي
مرتْ الرواية العربية في علاقتها بالحضارة الغربية بثلاث مراحل، فأما المرحلة الأولى فتبدأ مع النشأة في أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العشرين وإلى منتصفه، وفيها كانت علاقة الرواية بالحضارة الغربية علاقة اكتشاف ثقافي ما بين الشرق والغرب حافلة بالمثالية والرومانسية. وهو ما جسَّدته روايات (عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم 1938 ورواية قنديل أم هاشم ليحيى حقي 1943 ورواية الحي اللاتيني لسهيل إدريس 1954 كما مثلها جيل من الأدباء العرب اللبنايين الذين هاجروا إلى الامريكيتين وتمكنوا من التعايش مندمجين بالآخر الغربي وفي الوقت نفسه منشدين في جذورهم إلى الأدب العربي حتى شكلوا حركات شعرية وأسسوا روابط وجمعيات أدبية مثل الرابطة القلمية والرابطة الأندلسية.
وأما المرحلة الثانية من علاقة الرواية بالحضارة الغربية فكانت واقعية تقوم على القصاص من المستعمر الغربي والنضال ضد هيمنته واستبداده مستلبا الشرق باستعماريته، وهو ما جسَّدته كثير من الروايات العربية من منتصف القرن العشرين إلى نهايته تقريباً، متناولة موضوعات تتعلق بحروب النكسة والمقاومة والتحرير وما بعدها من حروب كالحرب الاهلية اللبنانية والحرب العراقية الايرانية، ولعل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح أوضح مثال على ذلك وقد أخذ عليها د. شجاع العاني تقبلها الحضارة الأوربية بعقد ومركب نقص كرد فعل على هذه الحضارة الغازية للأرض العربية. الأمر الذي ولَّد صدمة حضارية سببت انشطارا في الوعي التاريخي. وقد تمثل هذا الوضع عند كثير من المثقفين اليساريين العرب المغتربين وعبرت عنه الأعمال الادبية لأدونيس وغائب طعمة فرمان والطيب صالح ورشيد بو جدرة ومحمد شكري وواسيني الاعرج وسليمان الفياض وغيرهم.
وأما المرحلة الثالثة فكانت ما بعد واقعية وبدأت مع نهاية القرن العشرين ومستمرة إلى يومنا هذا، وفيها طرأت على العرب أحوال جديدة وظروف متنوعة، منها إيجابية كالثورة الرقمية التي اتسعت نطاقاتها التفاعلية عربياً وبسببها واكب الفرد العربي متغيرات التكنولوجيا، ومنها سلبية كالانحدار السياسي وفشل الربيع العربي والتطرف الفكري والإرهاب المجتمعي.
وبمجموع هذه الظروف صارت الأجواء مواتية للتغيير الحياتي على مختلف الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولم يعد العربي الذي تضطره الظروف إلى الهجرة يقذف في أحضان الغرب فجأة ليواجه الاغتراب بين حضارتين شرقية وغربية أسيرا للرومانسية مرة، وضحية للواقعية مرة أخرى؛ وإنما صار هو نفسه متقبلا الآخر وباحثاً عن التقبل أيضا مندمجاً بممكنات ذات مزدوجة بوعي صميم يجعلها مدركة خصوصياتها وقيمها التي تعتز بها ويحترمها الآخر الذي له أيضا خصوصياته وقيمه التي تحترمها الذات وتتأقلم معها.
وتجسد هذه المرحلة روايات الشتات ولاسيما الفلسطينية وكذلك أغلب روايات ما بعد الحداثة التي أعادت انتاج مفاهيم كانت قد رسخت في العقل العربي محاولة تثويرها وقولبتها من جديد، من ذلك مثلا لا حصرا مفاهيم التاريخ والذات والآخر والهوية والاستعمار والنسوية وغيرها.
وكان من تبعات هذه المرحلة أيضا ظهور جيل ثالث من المهاجرين العرب الذين استقروا في المهاجر، هو جيل متطلع للازدواج لا تشكل شرقيته عائقا أمام غربيته، ينشد التفاعل والتواصل نفسيا وسياسيا واجتماعيا.
ولعل رواية (المرتجى والمؤجل) لغائب طعمة فرمان هي أول رواية عربية بشَّرت بهذا الجيل الثالث، ممثلا بالبطلين: يحيى سليم المترجم المغترب الذي تأقلم مع الهجرة، وثابت حسين مواطنه الذي رفض فكرة الهجرة والاغتراب وآثر البقاء في الوطن.
ويتبين التلاقي في اختلافهما الفكري حول الوطن من خلال ولديهما فريد وإحسان اللذين دفعتهما الظروف إلى أن يكونا مع والديهما في الغرب، لكن الأول يتفاعل ويتواصل بصحة وتمام مع أنه غير مرتبط بوالده الذي كان يناديه عمو، والثاني مريض بجسد عليل ولم يفده في الشفاء حب والده له وتعلقه به، كترميز الى أن الحياة الحقيقية هي التي يكون فيها الانسان معافى جسديا ونفسيا سواء أكانت هذه الحياة في كنف وطن قريب أم في كنف وطن بعيد.
وتتضح هذه الرمزية في شخصيات الرواية المغتربة( يحيى سليم وصالح جميل وعلوان شاكر) الذين تتضح من دلالة اسمائهم حالة التعافي والحيوية بعكس الشخصيات ( ثابت حسين ومعه الشخصيات النسوية كلها) التي عاشت في الوطن لكنها كانت خائبة ومتوترة غير متأقلمة تتمسك بأفكار سلبية أعاقتها عن التعايش حين أجبرتها الظروف على أن تترك الوطن وتكون في غيره.
ولقد برع الكاتب غائب طعمة فرمان فنيا أيضاً في تعزيز سلبية الشخصيات الثابتة وغير الحيوية مدللا على قدم رؤيتها وأنها لم تعد تناسب روح العصر بأن جعل السارد( ثابت حسين) متمسكاً من مفتتح الرواية إلى وسطها تقريباً بصيغة الحكّاء، متدخلاً في التعليق على شخصياته، واضعاً تعليقاته بين قوسين كبيرين مثل( وكان يحسب نفسه علامة فهامة) و( أرى في عينيك تساؤلاً يا ولدي ستعرف هذه الكلمة فيما بعد حين تتعافى وتكبر) ومجسدا القصة في شكل فيلم، فيه هو المخرج ( لقطة سينمائية أحب المخرج أن يظهرها على الشاشة) الرواية، ص11
وقد يتعاطف السارد مع الشخصية التي تتضاد معه تارة بالكشف عن تمنياتها وتارة أخرى باستبطان دواخلها. وبالرغم من تضاد وجهتي نظر الشخصيتين يحيى سليم وثابت حسين واختلاف حياتهما؛ فإنهما كان متقاربين في مشاعرهما تجاه ولديهما «ود لو يحمل الطفل بين يديه .. مثلما أود أن أفعل أنا الآن أن أفعل معك لولا وجود المرضى هنا ويحيى أيضا خشي أن يخاف الطفل الذي لم يألفه بعد وإن كان أباه..وجد الرجل فرصة ليتمعن ابنه باحثا عن الشبه بينه وبين الطفل مثلما يفعل كل الاباء والامهات وقد فعلت أنا ذلك من قبل معك عندما كنت صغيرا ولا أزال» الرواية،ص16 ولقد كتب القدر عليهما أن تكون أبوتهما على غير ما هو معهود في الأبوة التي هي في الرواية معادل موضوعي للتاريخ الذي لا بد له أن يتجدد وتعاد صياغته إزاء جيل جديد ينبغي ألا يقيد التاريخ تقدمه لأنه سيكون تاريخا جديدا.
وقد أدرك يحيى سليم ذلك وهو الذي أول الأمر أشعرته المدينة الحجرية المغلقة المكشوفة بشوارعها العريضة ومكعباتها ومستطيلاتها من الحجارة والأسمنت والزجاج والفراغات الهائلة بالانفصام وأنه خارج الوطن بلا تاريخ، لكنه تمكن فيما بعد من التأقلم مع المدينة بعد أنْ «وجد السلوى في جمع شتات صورة قديمة عنها» الرواية، ص32
وتتوضح هذه الازدواجية في الحوار الذي جرى بين مجموعة مغتربين في المقهى حول الأمور التي تنقص العمر ومنها الوطن، ورمزية ما تعنيه استطابة الاقامة في المهاجر وافضلية المغتربات على أوطان فيها انتظار ثمرات الثورات أشبه بالمستحيل، حتى قال أحدهم:»هذا يتوقف على الوطن إذا كان العراق، قال قارئ الجريدة لا تدخلنا في ايراد ومصرف» الرواية،ص32
وتتضح الرؤية أعلاه بأقل من هذه الرمزية في ما قاله يحيى سليم لثابت حسين محاولاً اقناعه بوجهة نظره :»أن الحياة يجب أن تعاش لا أن تفلسف وهي ليست قابلة للانتظار..هل تتذكر جدالاتنا عن اللحظة الثورية؟ بقينا ننتظرها وما زال الجماعة هنا ينتظروننا على موائد مترعة بالخمرة ولكنها لم تحل؟» الرواية،ص42
وبسبب ذاته المزدوجة رأى يحيى سليم أن «الحياة في الغربة ليست إلا انتظارا لشيء سيحدث دون أن نعرفه على نحو التحديد الحياة هنا سهلة ورتيبة تقتل كل شوق للمجازفة لتجريب أنواع أخرى من الحياة للمعاناة الحقيقية» الرواية، ص54
وبينما فضّل ثابت حسين الوطن الذي سيعيش فيه أيامه متكدرا ومهموما عاش يحيى سليم سعيدا في الغرب ووسيلته في الازدواج الخيال «يسرح ذهني إلى عالم آخر هو عالم الحلم وحتى حين أترجم وتستعصي عليّ كلمة أو جملة فاتذكر موقفاً استعصى علي في حياتي الواقعية» الرواية،ص44
وهو الذي ما غادر الوطن إلا هاربا منه لأنه شاهد فيه النخلات مقطوعات الرؤوس» كيف استطيع بعد الان أن أقابل أعواد المشانق هذه منصوبة لي.. ومنذ ذلك لم أر البلدة..هكذا هي الحياة تنتهي فجاة بضربة جلاد» الرواية، ص44. ولأن عودة ثابت حسين للوطن لم تفرق عن بقائه مع يحيى في المنفى، انتابت يحيى سورة غضب وتمرد وانتفاض وهو الذي عرف أن الحياة انتظار وأننا «كلنا مشاريع مؤجلة» الرواية،ص139. هكذا عاش يحيى سليم بالازدواج خيالياً مع الوطن الأصل داخل وطن بديل متكيفاً مكانياً وزمانياً من دون حاجته الى حساب المسافات والتوقيتات، وهو ما رمزت إليه نهاية الرواية فقد تخلى يحيى سليم عن ساعته واجداً فيها أثراً من عهد تاريخي قديم.
المصدر:الدستور