Pasar al contenido principal
رانية الجعبري قراءة نقدية في «كما لا يحب أبي أن يراني»

رانية الجعبري قراءة نقدية في «كما لا يحب أبي أن يراني»

 

 

لأن العنوان عتبة النص، فإن القاصة رانية الجعبري، ترفض من خلاله- باسمها وباسم بنات جنسها- المفاهيم والقيم التي تجعل من «النظام الأبوي» مهيمنا،موضحة في مقدمة مجموعتها أن الأمر ليس شخصيا ولا يتعلق بأبيها، كما ترفض «النظام الذكوري»، الذي جعل من الرجل فى المجتمعات العربية القبلية هو من يعتلى قمة الهرم، فيتخذ قرارات الأسرة والعائلة والقبيلة ومن ثم المجتمع ككل، وفيه يمثل الأب القوة، بينما تمثل الأم والأبناء والبنات الطاعة والخضوع، كما ترفض القاصة ما نجم هذا النظام، الذي جعل المرأة ضحية، تنتظر من الذكر أن يحن عليها ويتصدق حين يشاء بما يحقق لها بعض رغباتها، بينما هي مكبلة بعدد كبير من العادات والتقاليد والقيم البالية.

تطرح رانيا الجعبري في مجموعتها هذه - أدبيا وجماليا - العنف الأسري، وأزمة العلاقة بين الرجل والمرأة بعامة، وثيمة وتابو الجنس بخاصة، وفيها يمد أدب المرأة، أو الأدب النسوي، وتمد نون النسوة، وتاء التأنيث، أظافرها الطويلة، في وجه كل الموروثات المادية والروحانية التي تجعل من الرجل عاجزا ومكبلا عن الوفاء بالتزاماته تجاه المرأة، وتجعله يمارس الحرمان تجاه نصف المجتمع، فنجحت في إبراز الهيمنة الذكورية، وفضحت أسرارها المطمورة في قلوب النساء الذابلة، والمثقلة بالجراحات النفسية والأزمات العاطفية، مثلما نجحت قبلا - في الخيال، وبصورة أجرأ مما عهدناه لدى غيرها من القاصات- في تصوير العلاقة الحميمة التي ينبغي أن تكون بين الرجل والمرأة.

وتتمادى القاصة، وبجرأة غير عادية، لتنتقد الأهل الذين يعادون المرأة ويسجنونها ويعذبونها ويغتصبون حقوقها، فلا تجد أمامها إلا اللجوء للخيال، لتعويض هذا الحرمان، فتبدأ بالهذيان، وتتحدث عبر تيار الوعي والمونولجات الداخلية مع كل الماديات المحيطة بها، ولو تمثلت في جدران المنازل وسقوفها وبلاط ارضياتها، متخذة من مكان الإستحمام، بيتا لأسرارها، ومن أدوات تجميل المرأة وإبراز أنوثتها، وسيلة للإرتقاء بالقصة العربية، لما فيها من حوارات بين المرأة المحرومة، وبين تلك الأدوات المادية من تجسيد وتشخيص بلاغي يحيلها إلى كائنات حية تحاور تلك المرأة، وتساهم في إبراز ما تعيشه من حرمان، وذلك في اثناء بحثها عن اسرار تقضي بها حاجتها، بعيدا عن الرجل ومجتمعه الذكوري.

وفي هذه المجموعة التي تؤكد وجود أزمة ثقة بين الجنسين، الأمر الذي يحيل الألفة بينهما إلى صراع، والتعاون والتكامل بينهما إلى تفرقة، تـُجسّد المرأة نفسها دون حرج أو حياء وبصراحة مطلقة كائنا إنسانيا تعتريه ذات الحاجات التي يسعى الرجل لإشباعها، فتمارس التعبير بصدق وجمال عن ذلك الحق، متجاوزة مناطق الحظر الاجتماعي، والعوائق التي وضعها الذكور، لحرمان المرأة وجعلها عانسا بحجة أن قطار الزواج قد فاتها، وكأني برانية قد وجدت في فن القصة عالما تتنفس فيه، وتمارس حريتها في التعبير عما يحتشد في داخل بنات جيلها من صرخات كبرى لكسر القيود المفروضة على المرأة، كما انتصرت عبر فن القصة للنساء المهمشات والمقموعات اللواتي أخرسهن النظام الاجتماعي، فقاومت بالأدب الجميل، الهيمنة الذكورية، وكسرت حواجز الصمت، واخترقت كل الحصون الاجتماعية المنيعة، التي تحول بين المرأة وبين نيل حقوقها، وتوقفت طويلا عند الجنس بكل ما يحمله من دلالات رمزية وعاطفية ترتبط بعالم اللذة والجسد وجمال الأنوثة، منتهزة فرصة تمتعنا بالديمقراطية والانفتاح الثقافي لتقتحم عالما ظل حكرا على الرجال، بعد أن كانت النساء تلامسه بحيطة وحذر ويعمدن فيه إلى التلميح بدل التصريح وفقا للعادات والتقاليد الاجتماعية المحافظة، فقامت بتصوير العلاقة الحميمة المثلى التي ينبغي أن تسود بين الرجل والمرأة في الواقع وليس في الخيال بصورة جريئة ، بل أجرأ مما الفناه لدى القاصات العربيات.

ورغم لجوء القاصة للأدب المكشوف، إلا أنها في بعض المحطات كانت تلجأ للتلميح الرمزي، وتستخدم تقنية الأحلام، ولم تفارق القصة السيكولوجية التي افرغت من خلالها كل ما في عقلها الباطن.

وفي اثناء سردها، كانت القاصة تتملص من مواقفها وتنسبها لساردة أخرى عبر تيار الوعي، لتبث من خلاله بوح بنات جنسها، مستغنية عن تقنية الحوار، وعن فضاءات الزمان والمكان، فكان يكفيها أن تغوص في قلب وفكر ووجدان المرأة فقط، كما أنها لم تلجأ لأقانيم الدين والجنس من أجل الشهرة أو التشويق أوجذب القارئ وكسب رضاه وإعجابه، بل كانت لها رسالتها الفكرية المقنعة دونما مفاجآت أو صدمات للقارئ، مضيفة لجماليات الوصف، شخصيات ترفض الثبات، فتنمو لتحقيق ما تطمح إلى القاصة في اثناء معالجتها للعلاقة بين الرجل والمرأة، وبجرأتها لم تسمح رانية لأي من الرقيبين الداخلي والخارجي التأثير عليها وهي تبدع قصصها، كما أنها لم تتأثر بأي قاص أو قاصة غيرها بل كانت قصصها - التي كان بعضها قصيرا جدا- مستقلة متميزة، كما انعكس وعيها ونضجها وما تتمتع به من تنوير وعمق معرفي على مضامين وجماليات قصصها.

 

 

المصدر: الدستور

13 Mar, 2021 03:17:38 PM
0