Pasar al contenido principal

الصداقة: فوائد لا تحصى

لا عجب أن الصداقة شعور في منتهى الروعة؛ لأنه بالنسبة لنا — نحن معشر البشر — لا يُعَدُّ الأصدقاء رفاهية إضافية، بل لقد تطوَّرنا بحيث صرنا نعتمد عليهم. يمكنك القول إننا مدمنون للصداقة.

إننا نحتاج إلى الأصدقاء؛ فالأصدقاء لهم تأثير إيجابي في صحتنا وثروتنا وسلامتنا العقلية. على الجانب الآخر، نجد أن العزلة الاجتماعية تخلق مشاعر شبيهة بالألم البدني، وتتركنا متوترين وعُرضة للإصابة بالأمراض. وفي واقع الأمر، إن ردة فعل أجسادنا تجاه عدم وجود الأصدقاء تشبه ردة فعلها تجاه الحاجة البيولوجية الضرورية غير المشبَعَة. وهذا الأمر ليس مفاجئًا؛ لأنه بالنسبة لنا — نحن معشر البشر — لا يُعتبر الأصدقاء رفاهية إضافية؛ فلقد تطوَّرنا بحيث صرنا نعتمد عليهم.

غالبًا ما يتساوى التوءمان المتطابقان في مقدار محبة الآخرين لهما.

غالبًا ما يتساوى التوءمان المتطابقان في مقدار محبة الآخرين لهما.

ومع ذلك نجد أن الصداقة مكلِّفة؛ فالوقت الذي نقضيه في التواصل مع الآخرين يمكن استغلاله في إنجاز أنشطةٍ أخرى ضروريةٍ للحياة؛ مثل إعداد الطعام، وممارسة الجنس، والنوم. علاوةً على ذلك، أن كون أحد الأمور مفيدًا بالنسبة لنا لا يعني أن نفعله بالضرورة؛ ولهذا السبب أمدَّنا التطوُّر بالرغبة في تكوين الصداقات وقضاء الوقت مع الأصدقاء. وكما هي الحال مع الجنس أو تناول الطعام أو غيرهما من الأمور التي يحتاج إليها النوع للبقاء على قيد الحياة، فالصداقة أيضًا يحكمها نظام من التعزيز والمكافأة. وهذا يعني أن كونك شخصًا ودودًا يرتبط بإطلاق العديد من النواقل العصبية المختلفة في المخ، والمواد الكيميائية الحيوية في الجسم تُسبِّب الشعور بالراحة.

إن فهم الحافز وراء تكوين الصداقة يكمن في نقطةٍ تبدو غريبة؛ حيث يبدأ هذا الحافز مع الرضاعة. فعندما يرضع الطفل ينطلق من الغدة النخامية للأم بيبتيد عصبي يُسمَّى الأوكسيتوسين؛ مما يُسبِّب تقلُّص عضلات الثدي فيسمح بتدفق الحليب، لكنه أيضًا يُقلِّل التوتر وضغط الدم ومعدل ضربات القلب. وبالنسبة للأم وللطفل فإن الشعور بالراحة، المكتسب من الأوكسيتوسين، يشجِّع على الرضاعة، ويساعد في خلق رابطةٍ قويةٍ قوامها الحب. ويحدث هذا الأمر في كل الثدييات، غير أنه في البشر وبعض الأنواع القليلة الأخرى التي تُكوِّن صداقاتٍ حدث انتقاء لهذا النظام وتوسيع لنطاقه. وبدلًا من إعادة الكَرَّة من جديد اقتصد التطوُّر في الأمر وأصبح الأوكسيتوسين مرتبطًا بعلاقاتٍ أبعد من رابطة الأم والطفل؛ فالمرء يُطلقه استجابةً لأنواعٍ كثيرةٍ من التواصل الجسدي الإيجابي مع الآخر؛ مثل الأحضان واللمسات الخفيفة والتدليك. والشعور اللطيف الناتج هو مكافأتك على التفاعل ويشجعك على رؤية ذلك الشخص مرةً أخرى؛ فتتولَّد صداقة ناشئة.

وبطبيعة الحال، فإن معظم صور التفاعل بين الأصدقاء لا تتضمَّن التواصل الجسدي، لكن الأوكسيتوسين يعمل بطريقةٍ أخرى أيضًا؛ إذ يحفز اتخاذ قراراتٍ داعمةٍ للتواصل الاجتماعي؛ فيزيد من مشاعر الثقة، ويشجع على الكَرَم. ومع أهميته، فإنه ليس المحفز الكيميائي الوحيد للصداقة؛ فهناك محفز أساسي آخر، وهو مجموعة من المواد الكيميائية الأفيونية تُسمَّى الإندورفينات. وتُفرَز تلك الإندورفينات من الغدة النخامية، وتنطلق استجابةً للآلام الخفيفة؛ مثل آلام التمارين الرياضية، وتعمل كنواقل عصبية في المخ لخلق شعور بالسعادة. وتفرِز كل الفقاريات هرمونات الإندورفين؛ ولذلك لا بد أنها قد تطوَّرت في مرحلةٍ مبكرةٍ، لكنها مثل الأوكسيتوسين جاءت لتلعب دورًا في تحفيز الصداقة؛ فهرمونات الإندورفين أيضًا تجعل التواصل الجسدي يُشعرنا بالراحة، لكنها تدعم سِمةً أخرى من سمات الصداقة.

طلب روبين دنبار وزملاؤه في جامعة أكسفورد من مجموعةٍ من الناس تجذيف أحد القوارب إما بمفردهم وإما في ثنائيات، وقاسوا مستويات الإندورفين قبل وبعد التجذيف، فوجدوا أمرًا مثيرًا؛ فعلى الرغم من بذل القدر نفسه من الجهد البدني، وجدوا أن الأشخاص الذين جذَّفوا كثنائيٍّ متزامنٍ أطلقوا قدْرًا أكبر من الإندورفينات مقارنةً بالأشخاص الذين جذَّفوا منفردين. وتُعَدُّ المزامنة السلوكية من أهم مكوِّنات الصداقة، فلا بد أن يكون الأصدقاء في المكان نفسه والزمان نفسه لتكوين العلاقة والحفاظ عليها؛ ويبدو أن هرمونات الإندورفين تعزِّز الصداقات عندما تجعل المزامنة تُشعرنا بالارتياح.

على الجانب الآخر من هذا، يوجد الشعور الْمُزْري بالعزلة الاجتماعية؛ فالأشخاص الوحيدون يعانون من ارتفاع مستويات هرمون التوتر المسمى الكورتيزول. إن التوتر المزمن يدمِّر الصحة، وهذا على الأرجح يفسِّر لماذا تزيد العزلة الاجتماعية من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والتعرُّض للعدوى. ومع ذلك يمكن أن يكون التوتر مفيدًا؛ فاستجابة التوتر تنشأ عن تحفيز نظامٍ يُعرف باسم المحور الوطائي النخامي الكظري. وهذا التحفيز يعمل بمثابة تحذيرٍ من حدوث اضطرابٍ في الاستتباب؛ وهو حفاظ الجسم على استقرار الوظائف الداخلية؛ ومن ثَمَّ فإن التوتر يدفعنا إلى التصرُّف بطرقٍ تعمل على استعادة هذا الاستتباب؛ ومنها الحصول على قسطٍ من الراحة عند الشعور بالتعب، والسعي للاستظلال عند الشعور بالحر، ومن المحتمل أنه يحثنا أيضًا على أنْ نتواصل اجتماعيًّا عند الشعور بالوحدة. إن حقيقة أن وجود الصديق بجوار المرء عند تعرُّضه لأزمةٍ يقلل من إفرازه لهرمون التوتر الكورتيزول؛ تشير إلى أن الأصدقاء يساعدوننا في استعادة الاستتباب أو منع تعطُّله من الأساس.

لكي نختار الأصدقاء ونكتسبهم ونحافظ على صداقاتنا نحتاج إلى جمع المعلومات الاجتماعية. وهذا أيضًا شيء نستمتع به؛ فالأطفال حتى قبل أن يستطيعوا الكلام يُفضِّلون مطالعة الوجوه على أي مؤثر بصري آخر. ونحن نجد المعلومات الاجتماعية مجزية بطبيعتها؛ لأنها تحفز مناطق في المخ مرتبطة بالمكافأة. فعندما عرض دار ميشي، طبيب الأمراض العصبية في جامعة برلين الحرة في ألمانيا، على أشخاصٍ تحت جهاز الرنين المغناطيسي؛ صورًا من حساباتهم على موقع فيسبوك، وجد نشاطًا قويًّا في النواة المتكئة، وهي منطقة في المخ مرتبطة بإدمان المخدرات.

ومن المثير أن الأشخاص الذين أظهروا أقوى الاستجابات كانوا ممن يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة. وعلى الرغم من أن العمليات العصبية والبيوكيميائية المميزة للصداقة متماثلة في كل الأشخاص، فإن هناك أشخاصًا أكثر ودًّا من غيرهم. وربما يكون الأمر راجعًا ببساطةٍ إلى براعتهم في تكوين الصداقات، لكن نتائج بحث ميشي تشير إلى أن لديهم دافعًا أكبر للقيام بذلك؛ لأن هذا الأمر يمنحهم دفعة معنوية أكبر. فالأشخاص الودودون اجتماعيون أكثر من غيرهم، وهذا يعود جزئيًّا إلى جيناتهم التي تجعلهم هكذا. قارن جيمس فاولر، الباحث في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، ونيكولاس كريستاكيس، الباحث في جامعة هارفرد، بين الشبكات الاجتماعية لتوءمَين متطابقَين يتشاركان في الجينات كلها، وبين توءمَين غير متطابقَين يتشاركان في ٥٠ في المائة فقط من الجينات في المتوسط؛ فوجدا أن العوامل الوراثية مسئولة عن ٤٨ في المائة من الاختلافات في مدى شعبية الأفراد بين أقرانهم.

حتى الأشخاص النشطون اجتماعيًّا أنفسهم لا يُكوِّنون صداقاتٍ مع الجميع. فمن بين الكثير من الأشخاص الذين نقابلهم كيف لنا أن نختار منهم قلةً مُنتقاة؟ يبدو الجواب بسيطًا للوهلة الأولى ويتمثَّل في أننا نُصادق الأشخاص المشابهين لنا، سواءٌ كانوا من نفس العمر أو الجنس أو المهنة. ومع ذلك اتَّضح أن مَيْل «المثيل» للارتباط «بالمثيل»، الذي يُعرف بمصطلح حب المثيل، يرتبط في الأساس بالجينات. لقد اكتشف فاولر وكريستاكيس أن الناس يتشابهون مع أصدقائهم غير ذوي القُربى مثلما يتشابهون مع الأقارب البعيدين. ولطالما كان سبب استعدادنا للتعاون على الرحب والسعة مع أشخاصٍ غرباء تمامًا عنا لغزًا من ألغاز الصداقة. وبِلُغة التطوُّر، يجب أن تتعاون مع القريب بدلًا من الأصدقاء المقرَّبين؛ لأن التشابه الجيني مع أقاربك سيسمح لك بجنْيِ فوائد غير مباشرة. وهذا يعني أنهم إذا نجحوا في تمرير المزيد من الجينات المشتركة بينكم للأجيال القادمة فستكون أنت مستفيدًا بشكلٍ غير مباشر. أما إذا كان الأصدقاء أكثر تشابهًا معنا من الناحية الجينية عما يمكن أن نتوقع أن يحدث بالصدفة، فربما يجب ألا نفكر فيهم كغرباء بل «كأقارب اختياريين».

وهكذا يمكن أن يساعد الجينوم في تحديد مدى وُدِّكَ مع الآخرين، بالإضافة إلى مَن تختارهم ليكونوا أصدقاءك. إن أحدًا لا يعرف كيف نحدد الأشخاص المشابهين لنا جينيًّا. ربما تكمن تلك التشابهات في ملامح الوجه أو الصوت أو إيماءات الجسد أو الرائحة. ربما يحمل مَيلنا إلى عقد صداقةٍ مع الأشخاص المشتركين معنا في السمات، الإجابةَ في طياته. فشخصيتك تُشكِّلها جيناتك إلى حدٍّ ما؛ ولذلك إذا اخترت أصدقاء شخصيتهم مشابهة لك، فعلى الأرجح ستكون جيناتهم متشابهة مع جيناتك. وأيًّا كان الذي يجذبنا إلى أشخاصٍ بأعينهم يبقى هناك شيء أكيد، ألا وهو أن صداقة هؤلاء الأشخاص ستعود علينا بالنفع؛ لأن هناك شيئًا واحدًا نعلمه جميعًا عن الصداقة، ألا وهو أنها تُشعرنا بالسعادة.

07 Dic, 2015 01:29:35 PM
0