Pasar al contenido principal

استعارة التكامل لتولستوي من «الحرب والسلام»

(١) مقدمة

إن حركة البشرية الناتجة عن رغبات بشرية اعتباطية لا حصر لها، حركة متصلة.

وهدف التاريخ هو فهم قوانين هذه الحركة المتصلة …

وفقط من خلال أخذ وحدات متناهية الصغر من أجل ملاحظتها (تفاضل التاريخ، الذي يتمثل في النزعات الفردية للرجال) وتحقيق فن تكاملها (بمعنى التوصل إلى مجموع هذه الوحدات متناهية الصغر) يمكننا أن نأمل في التوصل إلى قوانين التاريخ [ صفحة ٩١٨ ].

يستخدم ليو تولستوي في روايته الملحمية العظيمة «الحرب والسلام» بعض الاستعارات الرياضية المذهلة من أجل توضيح نظريته عن التاريخ، وشرح سذاجة وعجرفة وضع مسئولية مسار التاريخ على عاتق قادة الجيوش والأمم. لا تشبه هذه الاستعارات أية إشارات رياضية أخرى رأيتها في الأدب. فهي ليست عددية، (جعل تولستوي بيير — أحد الشخصيات الرئيسية في رواية «الحرب والسلام» — يشارك في نقاش مسلٍّ عن علم الأعداد. وفي إطار بحث بيير عن إثبات لكراهيته لنابليون يرى تنبؤًا بِشر نابليون في الفصل ١٣ من «سفر الرؤيا». «عند كتابة كلمتي (L’Empereur Napoleon) بمعنى «الإمبراطور نابليون» بالأرقام، يبدو أن مجموعها ٦٦٦، ومن ثم، فإن نابليون هو الوحش الذي تنبأ به «سفر الرؤيا» …» [ صفحة ٧٣٨].) كما أن تولستوي لم يستعِرْ فحسب المصطلحات الرياضية؛ فهذه الاستعارات غنية وعميقة، وتتطلب معرفة ببعض المبادئ الرياضية من أجل فهم معناها بالكامل. كما أنها تفعل ما يجب أن تفعله أية استعارة جيدة؛ فهي تعزز وتوضح فهم القارئ لنظرية تولستوي.

وسوف أستعرض في هذا المقال هذه الاستعارات الرياضية التي استخدمها تولستوي لوصف نظريته عن التاريخ. (يستخدم تولستوي أيضًا استعارات من الرياضيات والفيزياء عندما يناقش العلوم العسكرية. وفي هذه الاستعارات أيضًا يستطيع المرء أن يرى التقليل من أهمية القادة. انظر فيتاني  للاطلاع على قائمة بهذه الاستعارات.) فأركز على الأفكار الرياضية التي استخدمها تولستوي من أجل توضيح نظريته، خاصة حساب التكامل واستخدام المنفصل للإشارة إلى المتصل. وأناقش في نهاية المقال أصل استعارات تولستوي الرياضية، وأصف بإيجاز استخدامي لاستعارات تولستوي في صفوف التفاضل والتكامل الدراسية. لا أعمِد في هذا المقال إلى نقد صحة قراءة تولستوي للتاريخ، بل إنني أترك مثل هذا النقد للمؤرخين والباحثين في الأدب (انظر، على سبيل المثال، أشعيا برلين أو جيف لوف ). دعوني أبدأ باستعراض عام للأحداث التاريخية التي يكتب عنها تولستوي ووصف موجز لنظرية تولستوي.

(٢) السياق التاريخي

تدور أحداث رواية «الحرب والسلام» في أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر في غمار الحروب النابليونية. يتعلق جزء كبير من الرواية بغزو نابليون بونابرت لروسيا في عام ١٨١٢. وفي أواخر شهر يونيو من ذلك العام، قاد نابليون الجيش الفرنسي عبر نهر نيمان إلى قلب روسيا. تولى قيادة الجيش الروسي بعد شهر أغسطس من عام ١٨١٢ المارشال ميخائيل إيلاريونوفيتش كوتوزوف. وكانت استراتيجية نابليون هي الاشتباك مع الجيش الروسي بسرعة والقضاء عليه، أما الاستراتيجية الروسية التي بدأها الأمير باركلي دي تولي وواصلها كوتوزوف، فقد كانت تتمثل في تجنب الدخول في صراع كبير والانسحاب قبل قدوم جيش نابليون مع تدمير المحاصيل الزراعية والقرى في أثناء انسحاب الجيش الروسي.

تعرض باركلي وكوتوزوف لكثير من النقد في ذلك الوقت لعدم الاشتباك مع الجيش الفرنسي بصورة مباشرة أكثر؛ ومع ذلك نجحت هذه الاستراتيجية؛ فقد استولى نابليون على مدينة موسكو المحترقة في أوائل شهر سبتمبر، لكن تكلفة ذلك كانت باهظة؛ فقد تم استدراج جيشه إلى عمق روسيا دون وجود إمدادات مناسبة مع اقتراب فصل الشتاء. فظل نابليون في موسكو لأكثر من شهر، متوقعًا استسلام القيادة الروسية. ولكن لم تكن تلوح في الأفق أية بوادر استسلام، فبدأ جيشه في انسحاب طويل خارج روسيا؛ حيث أجبره كوتوزوف على اتباع الطريق المدمَّر الذي سار فيه في طريقه إلى موسكو. كان هذا الغزو كارثة إنسانية؛ فمن أصل نصف مليون جندي فرنسي غازٍ تقريبًا، لم يتبق سوى أقل من ٣٠ ألف جندي على قيد الحياة وقادر على القتال في نهاية الحملة، أما الجيش الروسي فقد خسر نحو ربع مليون رجل. (للاطلاع على تقرير كامل حول غزو نابليون لروسيا، انظر كتاب كرتس كيت «حرب الإمبراطورين»  أو كتاب يوجين تارل «غزو نابليون لروسيا، ١٨١٢» .)

(٣) نظرية تولستوي حول التاريخ

كان تولستوي — بوصفه رجلًا روسيًّا عاش في منتصف القرن التاسع عشر — يكره نابليون والثناء الذي انهال عليه. (للاطلاع على استعراض لميراث نابليون في الثقافة الروسية انظر كتاب مولي ويسلينج «نابليون في الأساطير الثقافية الروسية» [. يبدأ الكتاب بداية ملائمة باقتباس من أحد خطابات تولستوي.) عزم تولستوي في رواية «الحرب والسلام» على التقليل من مكانة نابليون في التاريخ، متبنيًا فكرة أن القوى هي التي تشكل مجرى التاريخ مما لا يدع مكانًا لنابليون العظيم. فيشير تولستوي إلى أن القادة الوطنيين — حتى العظماء منهم — لا يتحكمون في نتيجة الأحداث الكبرى في التاريخ. فإن الكم الهائل من الأفعال الفردية التي تشكل التاريخ ضخمة للغاية ومعقدة للغاية، وغير متوقعة بحيث يصعب أن تحدد أفعال شخص أو بضعة أشخاص مجراه. ربما يستطيع القادة تحديد تيار في هذا المحيط من الأفعال، ومن ثم يبدو كما لو أنهم يتحكمون في هذا التيار، لكن في الواقع اتجاه التيار لا يتأثر بهم.

وفقًا لنظرية تولستوي، فإن القادة الوطنيين في أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر لم يحشدوا شعوبهم للقتال من أجل عظمة أممهم ومن أجل قضايا عظيمة، لكن بدلًا من ذلك كانت أوروبا تتجه بالفعل نحو حريق كبير ينجرف فيه هؤلاء القادة. فقد كان نابليون متغطرسًا وساذجًا لاعتقاده بأنه يتحكم في مصير أوروبا. فقد كان مصيره هو والجيش الفرنسي الهزيمة والدمار، ولا يمكن لنابليون القيام بشيء لتغيير هذه الحقيقة.

على العكس من ذلك — كما يذهب تولستوي — فإن كوتوزوف كان يدرك أن مصير نابليون قد تقرر بالفعل. ومن ثم، فإن مهاجمة الجيش الفرنسي ستتسبب في خسارة غير ضرورية للأرواح الروسية ولن تحقق شيئًا بخلاف ما هو مقدر بالفعل. ويعتبر كوتوزوف بطلًا قوميًّا روسيًّا بسبب إدراكه لهذا الاحتمال، وبسبب تجنبه قيادة الجيش الروسي إلى هلاكه.

على النحو نفسه يرى تولستوي أن المؤرخين قد أساءوا عرض التاريخ بالتركيز على عدد قليل من الأفراد أو تسلسل مختار للأحداث. تمثل مثل هذه الطريقة على أحسن تقدير ظلًّا غامضًا للواقع التاريخي. بالإضافة إلى ذلك، فإن التركيز على الأسباب التاريخية أمر ساذج؛ فلا سبيل لمعرفة الأسباب. «لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، سبب لحدث تاريخي عدا السبب وراء كل الأسباب» [، صفحة ١٠٩٥]. يُشبِّه تولستوي التركيز على الأسباب بالتصريح بأن الأرض ثابتة وأن الشمس والكواكب الأخرى تدور حولها. إن مثل هذه الرؤية لا تصلح كتفسير لقوانين حركة الكواكب. بالمثل، فإن تركيز المؤرخين على الأسباب يعميهم عن رؤية قوانين التاريخ.

يصبح اكتشاف هذه القوانين ممكنًا فقط عندما نترك تمامًا محاولة العثور على السبب وراء إرادة رجل واحد، تمامًا مثلما كان اكتشاف قوانين حركة الكواكب ممكنًا فقط عندما تخلى الناس عن فكرة ثبات الأرض [، صفحة ١٠٩٦].

يحث تولستوي المؤرخين على السعي لتحديد القوانين التي تحكم التاريخ، وليس أسباب الأحداث التاريخية.

(٤) استخدام المنفصل للإشارة إلى المتصل

من منظور تولستوي النقطة الأساسية في فهم المؤرخين الخاطئ لطبيعة التاريخ وفشلهم في فهم تعقيد التاريخ، هي محاولتهم استخدام غير المتصل (المنفصل) من أجل الإشارة إلى المتصل، وعدم قدرتهم على فهم الاستمرارية.

إن الاستمرار المطلق للحركة غير مفهوم بالنسبة للعقل البشري. فأي نوع من قوانين الحركة يصبح مفهومًا للإنسان فقط عندما يفحص العناصر المختارة عشوائيًّا لهذه الحركة، لكن في الوقت نفسه، يأتي جزء كبير من الخطأ البشري من التقسيم الاعتباطي للحركة المتصلة لعناصر [منفصلة] غير متصلة [، صفحة ٩١٧].

يوضح تولستوي هذه النزعة من خلال استدعاء قصة زينون الإيلي عن أخيل والسلحفاة، التي أراد بها زينون إثبات أن الحركة لا وجود لها (انظر نقد أرسطو في كتابه «الطبيعة» [، صفحة ٢٣٩ ب]). إن أخيل أسرع بعشر مرات من السلحفاة التي يتسابق معها، وفي الوقت الذي قطع فيه أخيل المسافة بينه وبين السلحفاة، كانت السلحفاة قد قطعت مسافة إضافية تساوي عُشر هذه المسافة. وعندما قطع أخيل هذا العُشر كانت السلحفاة قد قطعت مسافة تساوي واحدًا على مائة أخرى، وهكذا. الاستنتاج غير المعقول من هذا هو أن أخيل لا يستطيع أبدًا اللحاق بالسلحفاة وتخطيها، إلا أننا نعلم أنه سيفعل ذلك.

يقول تولستوي: إن المفارقة تأتي من تقسيم الحركة إلى عناصر منفصلة، في حين أنها متصلة. في الواقع يذكرنا تولستوي بأنه لا وجود لمفارقة وأن المسألة قابلة للحل [ صفحة ٩١٧]:

من خلال اختيار عناصر أصغر وأصغر للحركة، فإننا نقترب فحسب من حل هذه المسألة، لكننا لا نصل إليه أبدًا. فقط عندما نعترف بفكرة الصغر المتناهي، والمتتالية الهندسية الناتجة عنه مع وجود نسبة مشتركة مقدارها واحد على عشرة، ونتوصل إلى مجموع هذه المتتالية إلى عدد لا متناهٍ، نصل عندها إلى حل هذه المسألة.

(بالطبع تتلاقى المتسلسلة الهندسية، ومن ثم يلحق أخيل بالسلحفاة ويتخطاها في مسافة محددة ومن ثم في وقت محدد.)

يوضح تولستوي أن التاريخ بالمثل ظاهرة متصلة؛ «إن حركة البشرية — الناتجة عن رغبات بشرية اعتباطية لا حصر لها — متصلة. وهدف التاريخ هو فهم قوانين هذه الحركة المتصلة» [، صفحة ٩١٨]. إلا أن المؤرخين — للأسف — ارتكبوا الخطأ نفسه الذي ارتكبه القدماء عند تأمل قصة أخيل والسلحفاة. فبدلًا من أن يتعامل المؤرخون مع حركة البشرية على أنها متصلة، أخذوا «وحدات اعتباطية ومنفصلة»؛ فعملوا على حساب المتصل بالمنفصل.

يرى تولستوي أن المؤرخين يستخدمون طريقتين، كلتاهما تقترف هذا الخطأ الفادح المتمثل في استخدام المنفصل للإشارة إلى المتصل. الطريقة الأولى هي اختيار تسلسل أحداث — حتى وإن كان الحدث لا يمكن أن تكون له بداية ولا نهاية — من مجرى التاريخ المستمر والتعامل مع هذه الأحداث على أنها تمثل الكل. أما الطريقة الثانية — والتي كرس تولستوي المزيد من الطاقة لتفنيدها — فتتمثل في التعامل مع أفعال شخص ما (على سبيل المثال، نابليون بونابرت أو القيصر ألكسندر) على أنها تساوي مجموع رغبات فردية متعددة.

تقدم هاتان الطريقتان فحسب تقديرات تقريبية للتدفق المتصل للتاريخ البشري، كما أن التعامل مع الوحدات الصغيرة لا يسفر عن الحقيقة.

إن العلوم التاريخية في سعيها الحثيث للاقتراب من الحقيقة تأخذ باستمرار وحدات أصغر حجمًا لفحصها. إلا أنه أيًّا كان صغر حجم الوحدات التي تأخذها، فإننا نشعر أن أخذ أية وحدة منفصلة عن غيرها، أو افتراض «بداية» لأية ظاهرة، أو قول «إن رغبات العديد من الرجال تعبر عنها أفعال أية شخصية تاريخية»؛ في حد ذاته خطأ [، صفحة ٩١٨].

النتيجة: رصد المؤرخون «ربما ٠٫٠٠١ في المائة فقط من العناصر التي تشكل فعليًّا التاريخ الحقيقي للشعوب» (نقلًا عن تولستوي في [، صفحة ١٥]).

(٥) استعارة التكامل لتولستوي

من وجهة نظر تولستوي، فإن علاج فشل المؤرخين هذا في استنباط الحقيقة هو نفسه الموجود في قصة أخيل والسلحفاة؛ يجب أن نتعامل مع حركة البشرية على أنها متصلة (ونلجأ للرياضيات!) [، صفحة ٩١٨]:

باستطاعة فرع جديد من الرياضيات توصل إلى فن التعامل مع العناصر متناهية الصغر حاليًّا أن يقدم حلولًا لمسائل أخرى للحركة أكثر تعقيدًا، كانت تبدو غير قابلة للحل.

يقر هذا الفرع الجديد من الرياضيات — الذي لم يكن معروفًا للقدماء — عند التعامل مع مسائل الحركة بفكرة الصغر المتناهي؛ ومن ثم يتوافق مع الشرط الأساسي للحركة (الاستمرارية المطلقة)؛ وعليه يصحح الخطأ الحتمي الذي لا يستطيع العقل البشري تجنبه عندما يتعامل مع عناصر منفصلة للحركة بدلًا من فحص الحركة المتصلة.

فعندما فقط نأخذ الوحدات الصغيرة متناهية الصغر لفحصها (تفاضل التاريخ الذي يتمثل في النزعات الفردية للأشخاص)، ونصل إلى فن تحقيق التكامل بينها (بمعنى التوصل إلى مجموع هذه الوحدات متناهية الصغر)، نستطيع أن نأمل التوصل إلى قوانين التاريخ.

ومن ثم، من أجل فهم القوانين التي تحكم التاريخ، يجب علينا «تحقيق التكامل» بين رغبات كل الناس. وبمجرد أن نتمكن من تحقيق هذا التكامل، فإن القوانين التاريخية ستصبح واضحة.

إن مسألة التكامل هذه صعبة إلى حد ما، ولا يقدم تولستوي أية إشارة إلى كيف يمكننا حلها، حتى إن ماهية المتغيرات ليست واضحة تمامًا. ومع ذلك، لا أعتقد أن تولستوي كانت لديه أية نية أن نتوصل إلى حلها. بدلًا من ذلك نجد أن الهدف من استعارته هذه مزدوج؛ أولًا: فإنها تلخص بإيجاز وجهة نظره في كيفية تحديد حركة البشرية. ثانيًا — والأكثر أهمية: أن الاستعارة توضح مدى تعقد التاريخ والطبيعة متناهية الصغر للتأثيرات على مجرى التاريخ.

يشرح تولستوي في الخاتمة الثانية (رواية «الحرب والسلام» فقط هي التي تحتوي على خاتمتين) أهمية استعارته [، صفحة ١٣٤٩] فيقول:

فقط من خلال اختزال عنصر الإرادة الحرة هذا إلى أقل مقدار ممكن — بمعنى اعتباره على أنه مقدار ضئيل للغاية — نستطيع إقناع أنفسنا بالاستحالة التامة للوصول إلى الأسباب، ثم بدلًا من السعي وراء الأسباب، سيعتبر التاريخ مشكلته هي اكتشاف القوانين.

وبما أن الرغبات التي تحدد اتجاه التاريخ مقدارها صغير للغاية وعددها لانهائي، فنحن البشر — الذين لا نستطيع فهم مثل هذا التعقيد — لن نتمكن أبدًا من تحديد الأسباب. فإن استخدام المؤرخين للأحداث المنفصلة والشخصيات من أجل تفسير التدفق المستمر للتاريخ الإنساني محكوم عليه بالفشل. فلا طائل من وراء البحث عن الأسباب التاريخية، ويجب على المؤرخين البحث بدلًا من ذلك عن القوانين التي تحكم التاريخ.

يقود تولستوي التاريخ في الطريق الذي يرى أنه يجب على كل العلوم أن تنتهجه [، صفحة ١٣٤٩]:

لقد سارت كل العلوم الإنسانية على هذا الدرب. ومع وصول الرياضيات — أكثر العلوم دقة — إلى الكميات متناهية الصغر، فإنها تترك عملية التحليل وتبدأ عملية جديدة تتمثل في دمج الكميات غير المعروفة ومتناهية الصغر. إن الرياضيات، إذ تتخلى عن فكرة السبب، فإنها تبحث عن القانون، وهو السمة المشتركة بين كل العناصر غير المعروفة متناهية الصغر.

إذا كان هدف التاريخ هو دراسة حركة الأمم والبشرية وليس سرد الأحداث في حياة الأفراد، فإنه أيضًا يجب أن يسعى — مع تنحية فكرة السبب جانبًا — وراء القوانين المشتركة في كل عناصر الإرادة الحرة متناهية الصغر والمترابطة على نحو متلازم.

للأسف، لم يقدم تولستوي دليلًا إرشاديًّا جوهريًّا حول ماهية هذه القوانين، كما أنه لم يقترح كيفية البحث عنها. (يقول أشعيا برلين في مقاله الطويل «القنفذ والثعلب» إن تولستوي عانى صراعًا داخليًّا بين قدرته على رؤية الخلل في أية نظرية ورغبته — التي لم تتحقق أبدًا — في وجود «رؤية واحدة شاملة» للعالم. يقول برلين: «نشأت رواية «الحرب والسلام» من هذا الصراع العنيف» وتبنى فيها نظريته التاريخية.) لقد أوضح لنا تولستوي فحسب الطريق الذي يعتقد أنه ينبغي على المؤرخين أن يسلكوه، لكنه لم يشر إلى ما يمكن أن يجدوه فيه.

(٦) أصول استعارة التكامل

حظي حساب التفاضل والتكامل في القرن التاسع عشر بأساس متين بفضل أعمال أوجستين لوي كوشي، وبرنارد ريمان، وكارل ويرستراس وغيرهم (انظر كتاب سي إتش إدواردز عن تاريخ حساب التفاضل والتكامل [، فصل ١١])، التي ردت أخيرًا على نقد جورج بيركلي اللاذع لحساب التفاضل والتكامل في كتابه «المحلل» . كتب تولستوي رواية «الحرب والسلام» في الفترة بين صيف عام ١٨٦٣ وخريف عام ١٨٦٩، ومع ذلك لا توجد أية إشارة إلى أن تولستوي كان على دراية بهذه الثورة في الرياضيات. يستخدم تولستوي في هذه الرواية لغة حسابات لايبنتز للقيم متناهية الصغر، وليس المفاهيم المتعلقة بالنهايات ومجاميع ريمان. بالإضافة إلى ذلك، لم يذكر تولستوي هذه المسائل الرياضية في ملاحظاته أو خطاباته أو أية مسودات أخرى للرواية . هذا ويقول بوريس أيخنباوم: إنه بدلًا من ذلك كانت فكرة توضيح فلسفته التاريخية باستخدام حساب التفاضل والتكامل مستوحاة من صديق تولستوي سيرجي أوروسوف، وهو عالم رياضيات ولاعب شطرنج محترف . (نشر أوروسوف أعمالًا عديدة عن الرياضيات ونظرية الشطرنج؛ منها «المعادلات التفاضلية» في عام ١٨٦٣، و«حول عامل التكامل في المعادلات التفاضلية» في عام ١٨٦٥، و«حول حل مسألة الحصان» في عام ١٨٦٧.)

كان لدى أوروسوف إيمان عميق بقدرة الرياضيات، كما هو واضح من الفقرة المذهلة التالية من أحد خطاباته (وردت في [، صفحة ٢١٣]):

ردًّا على السؤال: «كيف يمكن للمرء أن يعرف ما إذا كانت مجموعة معينة من الأفراد تتمتع بالعبقرية والاستقلال والقوة، وأين يكون التنوير أكثر تطورًا؟» أقول: يعتمد كل شيء على تطور العلوم الدقيقة، خاصةً الرياضيات. لقد كانت الجمهورية الفرنسية أقوى دولة على الإطلاق؛ لأن أشخاصًا مثل لاجرانج وليجندر ولابلاس وآخرين كانوا يعيشون فيها. أما الآن لم تعد فرنسا مهمة بسبب عدم وجود علماء رياضيات بها. كذلك في عصر هيرشل كانت إنجلترا في أوج قوتها وحاليًّا هي في المستوى نفسه لوجود أشخاص في ثقل تومبسون. كما يوجد في بروسيا أشخاص في ثقل أويلر وجاكوب، ويوجد في السويد أبيل. أما روسيا فلديها أوستروجرادسكي وشيبيشيف وبونياكوفسكي ويوريف.

اعتمد أوروسوف في كتابه الصادر في عام ١٨٦٨ «دراسة لحملات عامي ١٨١٢ و١٨١٣، مسائل رياضية عسكرية وما يتعلق بطرق السكك الحديد» على إيمانه هذا بالرياضيات عند عرضه لنظرية عن التاريخ مطابقة جوهريًّا للنظرية التي يصفها تولستوي في «الحرب والسلام». على وجه الخصوص يناقش أوروسوف الاختلاف بين العالم المادي المتصل والتقديرات التقريبية غير المتصلة التي يستخدمها العقل البشري لفهم العالم، ويقترح استخدام التكامل من أجل استنتاج قوانين مادية أخلاقية (ورد في [، صفحة ٢٢٠-٢٢١]):

تشكل حالتان العائق الأساسي أمام اكتشاف القوانين المادية الأخلاقية؛ الأولى: حقيقة أنه في العالم المادي تكون كل علاقة متبادلة (دالة) متصلة، بينما يدرك الإنسان — ككائن أخلاقي في المقام الأول — أن كل العلاقات المتبادلة منفصلة. والثانية: حقيقة أنه كثيرًا ما تُختزل الظواهر الاجتماعية — حتى في معظم الحالات — إلى دوال منفصلة، لا نستطيع التعامل معها من الناحية العلمية. إن الدوال المتصلة تستطيع إنتاج مجموع (يمكن تحقيق التكامل بينها)، لكن العناصر المتكاملة تكون غير معروفة ولا يمكن تصورها. أما الدوال المنفصلة فلا يمكن تحقيق التكامل بينها، لكنها تكون عناصر معروفة ويمكن إدراكها. فالحقائق العامة والقوانين العامة والقواعد العامة يسهل على العقل البشري الوصول إليها. وهذه الازدواجية في الدوال خير دليل على ازدواجية الطبيعة وعلى وجود عالم أخلاقي. وفي ظل وجود هاتين الحالتين — ومن أجل التخلص من صعوبات التحليل — اخترع الإنسان طريقة لدمج المتصل مع المنفصل؛ فتُختزل العناصر المنفصلة وتُدخل في صورة حاصل جمع، أو عن طريق تغيير التكامل، نقوم بتطبيقها على عناصرها دون تغييرها مطلقًا.

نرى هنا أصل استعارات تولستوي الرياضية. (نشر الجزء من رواية «الحرب والسلام» الذي يحتوي على الاستعارات الرياضية عقب كتاب أوروسوف [، صفحة ٢٢١].) فمن ملاحظات أوروسوف عن العالم المتصل والإدراك المنفصل لعقل الإنسان كوَّن تولستوي نقده اللاذع للمؤرخين. بالإضافة إلى ذلك، دفع تولستوي أفكار أوروسوف قدمًا من أجل التعبير بوضوح عن فكرة الحصول على قوانين التاريخ من خلال دمج «تفاضل التاريخ»، وهي فكرة تستدعي ثناءً حماسيًّا من أوروسوف: «إنك تدرك كم شعرت بالإثارة تجاه فكرتك عن تفاضل التاريخ. إذا كان ما توصلتَ إليه صحيحًا، فعندها ستصبح القوانين المادية الأخلاقية في متناول أيدينا» [، صفحة ٢٢١]!

(٧) استعارة تولستوي داخل حجرة الدراسة

عقب قضاء بعض الوقت في دراسة مجاميع ريمان والتكامل المحدد، قدمت إلى طلبة التفاضل والتكامل لدي استعارة التكامل لتولستوي، مستخدمًا إياها لدعم إدراكهم المفاهيمي للتكامل المحدد. قمت بتوزيع الاقتباس من «الحرب والسلام» عليهم وشرحت لهم فلسفة تولستوي للتاريخ، رغم أنه لم يكن بالتفصيل الذي أوردته في هذا المقال. وكان الفرض المنزلي المطلوب من الطلاب كتابة بحث قصير يحللون فيه استعارة تولستوي من وجهة نظر رياضية. وقد طلبت منهم بالتحديد أن يقوموا بتحديد أوجه التشابه بين نظرية تولستوي التاريخية وتعريف التكامل المحدد. وأعطيتهم كدليل أسئلة للتفكير فيها، لكن ليس بالضرورة الإجابة عنها. على سبيل المثال، سألتهم:

  • ما هي متغيرات تولستوي؟
  • لماذا يشير تولستوي إلى أن حركة البشرية متصلة؟
  • ما الذي يشبه مجموع ريمان في استعارة تولستوي؟
  • أي جزء من تعريف التكامل المحدد يشبه «وضع وحدات صغيرة متناهية الصغر تحت الملاحظة»؟
  • هل تؤدي الاستعارة وظيفتها أم تفشل في ذلك؟
  • ما شعورك تجاه هذا الاستخدام للرياضيات في توضيح أفكار تاريخية؟

كان رد فعل الطلاب لهذا الفرض المدرسي أنهم تفاجئوا، وهو بالطبع ما كان قصدي منه. فقد انبهروا — على حد قول أحد الطلاب — من هذا «التطبيق» غير التقليدي لحساب التفاضل والتكامل، خاصة عندما يأتي من رواية شهيرة مثل «الحرب والسلام»، كما أنهم استمتعوا بمناقشة الأدب والتاريخ في فصل الرياضيات، إلا أنهم تعاملوا مع هذا الفرض وتمكنوا من ربط استعراض تولستوي بالرياضيات: يستنتج الطلاب بوجه عام أن تقديرات المؤرخين تشبه مجاميع ريمان، وأن التوصل إلى حاصل جمع «الوحدات الصغيرة متناهية الصغر» يوازي أخذ النهاية من مجاميع ريمان. يرى معظم الطلاب أن الاستعارة ناجحة، ويرفض قليل منهم استخدام تولستوي للرياضيات ويصفونه بأنه غير ملائم، ربما لم يريدوا جرح مشاعر أستاذ الرياضيات الذي أظهر حماسًا شديدًا تجاه هذا الروائي الروسي الراحل وأفضل أعماله على الإطلاق. وكان أكثر ما يرضيني كأستاذ رياضيات هو اعتراف العديد من الطلاب بأنهم تمكنوا من فهم أفكار تولستوي التاريخية على نحو أفضل بسبب دراستهم لحساب التفاضل والتكامل.

(٨) خاتمة

من المذهل حقًّا ما تتمتع به استعارة تولستوي من حسن الصياغة واكتمال التطور. يبني تولستوي طبقات من الفطنة داخل الاستعارة؛ فيشرح بمهارة كيف أن الفهم الخاطئ لملاءمة إحلال الأحداث المنفصلة محل الحركة المتصلة للبشرية يؤدي إلى فشل المؤرخين. ولعلاج هذا الفهم الخاطئ يضع تولستوي أسس استعارته: إذا وضعنا في اعتبارنا مفهوم اللانهائي، يمكننا اكتشاف الحقيقة. ومثلما يلاحظ طلابي عادةً عند الإجابة عن سؤالي بشأن الاستمرارية، فإن تولستوي يحرص على الإشارة إلى أن التاريخ أيضًا متصل، تمامًا مثلما تستلزم نصوص التفاضل والتكامل التمهيدية أن تكون الكمية المتكاملة في التكامل المحدد متصلة. (أنا لا أعتقد أن هذه الملاحظة غير تاريخية، وكذا طلابي الذين يحاولون استنباط المزيد من لغة تولستوي. قبل ظهور عمل فورييه في أوائل القرن التاسع عشر، لم تكن هناك حاجة للتوصل إلى التكاملات المحددة للدوال بخلاف المعرفة من تعبيرات تحليلية واحدة. لذا لم يكن وضع قيود على الكميات المتكاملة ضروريًّا [، صفحة ٣١٧]. في الواقع لم تُعرَّف الاستمرارية على النحو الذي نعرفه حتى بداية القرن التاسع عشر على يد بولزانو وكوشي [ صفحة ٣٠٨-٣٠٩]. إلا أنه إذا كان تولستوي فعليًّا يستخدم فهم أوروسوف للتكامل كأساس لاستعارته، فإنه سيكون حريصًا على الإشارة إلى أن حركة البشرية متصلة.) وبعدما أكد تولستوي على ضرورة وجود نهج تاريخي مختلف ووضع بدقة المتطلبات الضرورية، طلب من المؤرخين التوصل إلى قوانين التاريخ من خلال «تحقيق التكامل» بين «تفاضل التاريخ». وكانت النتيجة تشبيهًا قويًّا وثاقبًا.

إهداء

هذا البحث إهداء لذكرى جون موهان.

شكر وتقدير

أود أن أشكر جيف لوف لمراسلاته المفيدة بشأن أصول استعارة التكامل لتولستوي، ومن أجل لفت انتباهي لعلاقة الصداقة بين تولستوي وأوروسوف. كما أود أن أشكر دان فلاث، وكارين ساكس، وراشيل وود لقراءتهم مسودات هذا المقال واقتراح تعديلات عليها.

13 Dic, 2015 05:47:14 PM
0