Pasar al contenido principal

الهولوكوست الأفريقي

في رواندا قبل عشرين عامًا، هاجمتْ قبيلةُ الهوتو قبيلةَ التوتسي وبدأت عملية إبادة جماعية دامت لمائة يوم. وفي هذا المقال، يوضِّح دين وايت الخلفية التاريخية لفترة من العنف الشديد الذي ظنَّ كثيرون أن حدوثه في أواخر القرن العشرين ضربٌ من المستحيل.

قبل عشرين عامًا، دفع فيلم «قائمة شندلر» — الذي فاز المخرج ستيفن سبيلبرج عنه بجائزة الأوسكار — العالَم إلى التوقُّف برهةً متذكِّرًا أهوال الهولوكوست أو محرقة اليهود. في الوقت ذاته، كانت ثمة عملية إبادة جماعية أخرى دائرة. ففي عام ١٩٩٤، مزَّق العنف العرقي الذي ترعاه الدولة رواندا، ذلك البلد الصغير الذي يقع في أفريقيا الوسطى، والذي أدى إلى مقتل حوالي مليون شخص خلال مائة يوم فقط. وعلى عكس الهولوكست، لم يكن القتل في رواندا يتطلب أحياء الجيتو أو معسكرات الموت أو غرف الغاز، بل كانتِ الضحايا تُقتل بالمناجل أو الهراوات أو القنابل اليدوية، وكثيرًا ما كان يتم ذلك على يد جيران أو أصدقاء أو حتى أقارب.

يبدأ تاريخ الإبادة الجماعية في رواندا قبل قرن، في عام ١٨٩٤ مع وصول أول الأوروبيين إلى هناك. فقد أدرك المستعمرون، الذين كانوا من الألمان في البداية ثم تبعهم البلجيكيون عقب الحرب العالمية الأولى، أن المجتمع الرواندي يتألَّف من جماعتين رئيسيتين، هما: التوتسي التي كانت تمثل حوالي ١٥ بالمائة من التعداد السكاني، وجماعة الهوتو التي بلغت نسبتها ٨٤ بالمائة تقريبًا من السكان. ورغم كون التوتسي أقلية، فإنها كانت تشكل النخبة الحاكمة للبلاد. إذا وصفنا الهوتو والتوتسي في تلك المرحلة بأنهما كانتا جماعتين عرقيتين فسيكون هذا خطأً. فعلى خلاف الفكرة الغربية التقليدية عن القبائل الأفريقية، كانت هاتان الجماعتان تتحدثان اللغة ذاتها، وتدينان بالديانة نفسها، وتعيشان في القرى عينها. لم تكن القبيلتان منفصلتين عرقيًّا، بل كانتا أشبه بجماعتين اقتصاديتين؛ إذ كان أفراد التوتسي الذين يملكون الماشية أكثر ثراءً بصفة عامة من أبناء عمومتهم الهوتو الرعاة.

برغم تعقيدات المجتمع الرواندي، لم يرَ مسئولو المستعمرات البلجيكيون إلا أن التوتسي غالبًا ما يكونون أطول قامة من أفراد الهوتو، ويتميزون ببشرة أكثر شحوبًا وملامح أقرب للأوروبيين. وهذه السمات البدنية، إلى جانب أن التوتسي كان لهم باعٌ طويل في الحُكْم، دَفَعَت الأوروبيين إلى محاباة هذه الجماعة. وفي عام ١٩٢٦، قُنِّنتْ هذه المحاباة بطرح قوانين جديدة، كانت ستترتب عليها عواقب طويلة المدى. ألزمت هذه القوانين التي عُرِفت باسم «إصلاحات فوازان» الروانديين كافة بحمل بطاقات هوية تحدد إن كانوا من الهوتو أم من التوتسي؛ وهكذا بات الاختلاف الذي كان خافيًا فيما سبق موثَّقًا على الورق ليراه الجميع. علاوة على ذلك، كان التوتسي يحصلون على مناصب ذات نفوذ في الحكومة المحلية، فيما صودرتِ الأراضي من الهوتو؛ الذين كانوا يتلقَّوْن تعليمهم في المدارس التبشيرية ثم يتدربون ليصبحوا قساوسة كاثوليكيين. وهكذا، بدءًا من عام ١٩٢٦ فصاعدًا، أصبح الهوتو مواطنين من الدرجة الثانية فعليًّا وقانونيًّا.

استمر هذا الوضع حتى عام ١٩٥٩؛ إذ كان جليًّا بحلول هذا الوقت أن بلجيكا على وشك منح رواندا استقلالها. وإدراكًا من مسئولي المستعمرات البلجيكيين أن السلطة في رواندا بعد الاستقلال حتمًا ستكون لجماعة الهوتو التي تشكل الأغلبية، حوَّلوا دعمهم فجأةً من التوتسي إلى الهوتو. هكذا تشجَّعتْ جماعة الهوتو وشكَّلتْ أحزابًا سياسية وبدأت ترسِّخ وضعها كأغلبية في البلاد. حين انتشرت في نوفمبر ١٩٥٩ شائعات بأن مجموعة من شباب التوتسي قتلوا سياسيًّا بارزًا من الهوتو، جاء رد الهوتو غاضبًا، لتجتاح البلادَ الموجةُ الأولى من العنف العرقي. وخلال أسبوعين، قُتل ثلاثمائة من التوتسي.

نالت رواندا استقلالها في الأول من يوليو عام ١٩٦٢؛ وحصدت جماعة الهوتو أغلبية مقاعد البرلمان لتشكل الحكومة الجديدة. تصاعدَ اضطهادُ التوتسي في ظل بيئة بقيت مشحونةً عرقيًّا؛ مما أجبر آلافًا منهم على الفرار إلى خارج البلاد. وفي عام ١٩٦٤، حين شنَّتْ مجموعة من الأفراد المنفيين المنتمين للتوتسي غارةً مسلحةً على رواندا، ردتِ الحكومة على هذه الغارة ردًّا وحشيًّا بقتل آلاف من التوتسي على يد الجيش وعصابات الهوتو جزاءً لذلك؛ الأمر الذي أسفر عن هروب المزيد والمزيد من التوتسي خوفًا على حياتهم.

كانت جهود النخبة الحاكمة من الهوتو لاستعادة النفوذ والاستحواذ على المعونة الأجنبية التي تتدفق إلى البلد أحد العوامل التي لعبت دورًا في هذه الإبادة الجماعية. ففي عام ١٩٨٩، أجبر المانحون الأجانب — لا سيما الرئيس الفرنسي ميتران — الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا (١٩٣٧–١٩٩٤)، الذي كان مقربًا من الرئيس الفرنسي، على إنهاء حكم الحزب الواحد في رواندا. وقد هدد نمو الأحزاب المعارضة الذي ترتب على ذلك بإضعاف هابياريمانا، لكنه كان مصرًّا على إحكام قبضته على الحكومة.

في الوقت نفسه في أوغندا، بعد حوالي ٣٠ سنة في المنفى، حاولتِ الجبهة الوطنية الرواندية التي تقودها التوتسي بدء مفاوضات مع هابياريمانا، بهدف الاتفاق على عودة حوالي ٧٠٠ ألف لاجئ أغلبهم من التوتسي إلى رواندا. وعند فشل المفاوضات، اتفقتِ الجبهة الوطنية الرواندية على أنها لا تملك خيارًا آخر سوى القوة. وهكذا شنتِ الجبهة هجومها في أكتوبر ١٩٩٠، لتدور حرب متقطعة رغم عنفها بين الجبهة الوطنية الرواندية والحكومة الرواندية لثلاث سنوات؛ وكان من الممكن أن يكون النصر حليفًا للجبهة لو لم ترسل فرنسا جنودَ مظلات لدعم هابياريمانا. وأخيرًا، أجبر ساسة المعارضة في رواندا الرئيس على توقيع اتفاقية سلام مع الجبهة الوطنية الرواندية. وقد أتاحَتْ هذه الاتفاقية للتوتسي العودة إلى الوطن، وطالبت بقوة لحفظ السلام من الأمم المتحدة، وقلَّصت من سلطة هابياريمانا إلى حدٍّ كبير. وهذه الفقرة الأخيرة من الاتفاقية لم تكن مقبولة قطعًا من الرئيس وحلفائه السياسيين.

رغم تأييد هابياريمانا للاتفاقية علنًا، فإنه في السر كان يتعمد عرقلة كل خطوة على طريق السلام. وفي الوقت نفسه، أنشأ مؤيدوه محطة إذاعية تبثُّ دعايةً مناهضةً للتوتسي إلى حدِّ التعصب، وتنشر شائعاتٍ بأن جماعة التوتسي تتطلع إلى الانتقام بعد قضاء سنوات في المنفى. وقد شكَّل هؤلاء المتطرفون كذلك ميلشيات من الهوتو، والتي تدرَّبتْ على «حماية» منازل الهوتو ومجتمعاتهم من التوتسي الغزاة. وبحلول أوائل عام ١٩٩٤، كانت هناك حالة من الخوف الحقيقي بين صفوف الهوتو من التوتسي، وتزايدت حوادث العنف العرقي. رغم ذلك، في أبريل من العام نفسه، بدا للمقربين من هابياريمانا أنه بدأ في التنازل، وأن قبضته المُحكَمة على السلطة قد بدأت في الارتخاء أخيرًا. وباستعراضنا الماضي ورؤية الصورة الكاملة للأحداث، يتضح لنا الآن أن النخبة المحيطة بهابياريمانا من الهوتو لم تكن مستعدةً بأية حال للسماح لهذا السقوط البطيء للرئيس بأن يضر بمصالحها؛ فكانت لديها خطة لمجابهة ذلك.

في السادس من أبريل، سافر هابياريمانا إلى العاصمة التنزانية دار السلام للقاء قادة المنطقة الأفارقة، الذين أعربوا عن غضبهم إزاء مساعيه المستمرة لإعاقة اتفاقية السلام. وطالبه كلٌّ من رؤساء كينيا وأوغندا وتنزانيا وبوروندي بإحراز تقدم فوري في اتفاقية السلام. وطار هابياريمانا الذي تلقَّى لومًا شديدًا عائدًا إلى الوطن، وبينما كانت طائرته الخاصة، التي أهدَتْه إياها الحكومة الفرنسية، تهبط على أرض العاصمة كيجالي، أضاء صاروخان سماء الليل واستهدفا الطائرة لتسقط متحطمةً على الأرض؛ وتوفي كل مَن كانوا على متنها. لم يُتعرَّف حتى الآن على هوية مَن استهدفوا الطائرة؛ لكن يبدو أن أرجح الاحتمالات هو أن حلفاء الرئيس هم مَن دبَّروا الهجوم، آملين أن يثير موت الرئيس حربًا عرقية من شأنها أن تمكِّنهم من هزيمة أعدائهم التوتسي أخيرًا.

على الفور، سيطر مؤيدو هابياريمانا على الحكومة، وأقام الجيش والميلشيات حواجز طرق، وبدأ الحرس الرئاسي في إلقاء القبض على السياسيين المعارضين؛ وبدأت عصابات الهوتو المنظمة في الهجوم على التوتسي وقتلهم أينما وجدوا.

كان رد الجبهة الوطنية الرواندية المبدئي بأن دعت إلى السلام؛ وهو الالتماس الذي لم يلقَ أي اهتمام. وبعد يومين من العنف المفرط، بدأ جيش الجبهة الوطنية الرواندية، الذي كان يعسكر آنذاك شماليَّ البلاد، التقدمَ مرةً أخرى نحو كيجالي. وعلى مدار ١٠٠ يوم، اجتاحتِ الحرب رواندا، في الوقت الذي كانت فيه ميلشيات الهوتو تطارد وتقتل المدنيين التوتسي الأبرياء. ولم يكن القتل ليتوقف إلا بسقوط كيجالي أخيرًا في يد الجبهة الوطنية الرواندية.

حين تفجر العنف، كان ثمة حوالي ٢٥٠٠ فرد من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في رواندا، من بينهم حوالي ٩٠٠ من بنجلاديش، وحوالي ٤٢٠ من بلجيكا. ومع ذلك، سرعان ما تبين أن وضع البعثة، التي كانت تعرف ببعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا، لم يكن يسمح لها بإيقاف قتل التوتسي؛ في الواقع، كانت لدى متطرفي الهوتو خطة للتعامل مع الأمم المتحدة.

من بين أوائل ضحايا العنف، لقي عشرة جنود بلجيكيين مصرعهم قتلًا على يد الحرس الرئاسي أثناء محاولتهم حماية رئيسة الوزراء المنتخبة أجاتا أويلينجييمانا (١٩٥٣–١٩٩٤). وقد صح ظن حكومة الهوتو المتطرفة الجديدة في أن مقتل جنود قوات حفظ السلام سيدفع الشعب البلجيكي إلى المطالبة بعودة جنوده إلى وطنهم. وبعد ثلاثة أيام، أعلن رئيس الوزراء البلجيكي عن مغادرة الجنود. في الوقت نفسه، رفضت القوات البنجلاديشية مغادرة ثكناتها؛ فمع ضعف تسليحهم وسوء تدريبهم، رأى الجنود أن رواندا مكان بالغ الخطورة، وامتنعوا عن إطاعة الأوامر. وخلال أيام من بدء الإبادة الجماعية، باتتِ الأمم المتحدة عاجزة.

وعلى هذه الخلفية، اجتمع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيويورك لمناقشة الأزمة. وكالمعتاد، أصدر مجلس الأمن بيانًا يطالب بإنهاء العنف والعودة إلى اتفاقية وقف إطلاق النار، قبل مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بطرس بطرس غالي بإعداد تقرير بردود الفعل الممكنة. ومرَّ أسبوعان كاملان قبل أن يرفع بطرس غالي تقريره لمجلس الأمن.

في الوقت نفسه، تم إجلاء المغتربين الغربيين من رواندا، ورسم الصحفيون القلائل الذين بقُوا هناك صورة للفوضوية والتعطش للدماء اللذين استشريا في جميع أنحاء البلاد. ونقلتِ الصحف عن شهود عيان أوروبيين ذِكرَهم أن الروانديين كانوا أشبه بالحيوانات، وأنه ما من شيء كان يمكن فعله لوقف القتل. كانت هذه هي صورة الفوضى الماثلة في أذهان أعضاء مجلس الأمن عندما قدَّم بطرس غالي أخيرًا ثلاثة ردود أفعال ممكنة للأزمة؛ وكان أولها: تعزيز قوات بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا؛ وثانيها: سحب البعثة تمامًا؛ وثالثها: سحب معظم قوات بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا مع الإبقاء على قوة صغيرة في كيجالي لمحاولة التفاوض على وقف إطلاق النار.

قوبل الخيار الأول بالرفض على الفور؛ فقد قُتل عشرة جنود بلجيكيين بالفعل في رواندا، وكانت حكومة بنجلاديش في ذلك الوقت تهدد هي أيضًا بسحب قواتها؛ لقد كانت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة رواندا مفككة بالفعل، ومِن ثَمَّ، لم يكن إيجاد قوات جديدة لتعزيزها بفكرة واقعية. وهكذا، لم يتبقَّ سوى الخيارين الثاني والثالث، إما الانسحاب الكامل أو الانسحاب الجزئي، وهذا ما انقسم عليه مجلس الأمن.

من جانب، عارضتِ الولايات المتحدة في صرامة أي تدخُّل آخر للأمم المتحدة في رواندا، وأصدرت تعليمات لسفيرتها لدى الأمم المتحدة مادلين أولبرايت بتأييد الانسحاب الكامل والفوري. رغم أن إدارة الرئيس بيل كلينتون كانت داعمة للأمم المتحدة بوجه عام، فإنها كانت على دراية بأن الكونجرس يعارض بقوة فكرة انغماس الولايات المتحدة في لعب دور حامي حِمَى العالَم، خاصة في أعقاب وفاة ١٨ جنديًّا أمريكيًّا في الصومال قبل ٦ أشهر فقط من ذلك الوقت وبالتحديد في أكتوبر عام ١٩٩٣. وبالأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة أكثر الدول المانحة للأمم المتحدة، فإن صوتها كان له تأثيره.

على الجانب الآخر، اعتقد عددٌ من أعضاء مجلس الأمن — من بينهم المملكة المتحدة — أنه رغم عدم قدرة بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا على فعل الكثير على أرض الواقع للفصل ما بين الجيشين، فإن البعثة كانت في وضع جيد يُمكِّنها من العمل كوسيط في مفاوضات لوقف إطلاق النيران، وإنها كذلك توفر حماية قيِّمة لعدد محدود من المدنيين في كيجالي. وقد فضلت هذه المجموعة الخيار الثالث؛ ألا وهو الانسحاب الجزئي.

في الحادي والعشرين من أبريل، بعد أسبوعين من اندلاع أحداث العنف، التقى مجلس الأمن للتصويت على الخيارات الثلاثة. في هذه المرحلة، بدا الانسحاب الكلي حتميًّا. قبل بدء الجلسة الرسمية، اتصل ديفيد هاناي، الممثل الدائم للمملكة المتحدة لدى الأمم المتحدة، بمادلين أولبرايت وأعاد عليها مرة أخرى الأسباب المؤيدة للإبقاء على قوة صغيرة في كيجالي. ويتذكر هاناي أنه أخبر أولبرايت بأن خطة الولايات المتحدة للانسحاب الكامل «لن تصلح فعلًا» وحثَّها على الاتصال بواشنطن. ونظرًا لاقتناع أولبرايت الشخصي بقيمة بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا، فقد تجاوزتِ اتصالاتها المعتادة بوزارة الخارجية، لتتصل بدلًا من ذلك بمسئول كبير في مجلس الأمن القومي؛ في البداية، طلبت إصدار تعليمات جديدة، وحين تبيَّن أن هذه التعليمات لن تأتي، صاحت في الهاتف مطالبةً بها. وهكذا، أُعطي الإذن بالتصويت لصالح الإبقاء على قوة صغيرة في كيجالي في الوقت المناسب.

بدعم الولايات المتحدة، صوَّت مجلس الأمن في وقت متأخر من يوم الحادي والعشرين من أبريل لصالح الخيار الثالث؛ وهو سحب أغلبية بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا مع الإبقاء على قوة صغيرة بمقر القيادة مكلَّفة بالتفاوض لوقف إطلاق النار. وبإجلاء المغتربين الغربيين بسلام وتخفيض أعداد قوات بعثة الأمم المتحدة لمساعدة رواندا لبضع مئات، صار التوتسي في رواندا يواجهون مصيرهم وحدهم تمامًا.

بحلول أوائل مايو، أصبح عدد القتلى ٣٥٠ ألف شخص. وكانت عصابات الهوتو والجيش منتشرين في جميع أنحاء البلاد يطاردون التوتسي بنحو مُمَنهج ويقتلونهم. فرَّ بعض التوتسي إلى التلال، أو إلى المستنقعات، أو اختبئوا في الغابات، لكن الهوتو — الذين كانوا يتمازحون كل يوم بوصف أفعالهم بأنهم ذاهبون «لكسب رزقهم» — طاردوهم وقتلوهم. وبعضٌ آخر من التوتسي اجتمعوا في الكنائس أو المدارس، آملين في أن يوفِّر ذلك الحماية لهم؛ إلا أن هذا الأمر سهَّل المهمة على الهوتو، الذين ألقَوا القنابل اليدوية داخل المباني، قبل أن يستخدموا المناجل للإجهاز على الناجين.

في الوقت ذاته، كانت الحرب مستعرةً بين قوات الجبهة الوطنية الرواندية والقوات الحكومية. كانتِ الجبهة الوطنية الرواندية بصدد النصر في الحرب، لكنَّ تقدُّمها تجاه كيجالي كان بطيئًا، وكان استمرار الصراع ليوم جديد يمنح الهوتو يومًا آخر لمواصلة هجماتهم على المدنيين.

على مدار الأسابيع القليلة الأولى، لم يدرك المجتمع الدولي قطُّ أن ما كان يحدث في رواندا هو إبادة جماعية. فكانت الحرب الدائرة بين الجبهة الوطنية الرواندية وجيش الهوتو هي ما حظي بالاهتمام الأكبر. واستمرت الأمم المتحدة تطالب الجانبين بالتوصُّل إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار. وفي المملكة المتحدة، وصفت كلٌّ من الحكومة ووسائل الإعلام الأحداثَ بأنها حرب أهلية. أما أعداد الوفيات في صفوف المدنيين — التي لم يكن الغرب يدرك حجمها — فقد فُسِّرت بأنها ليست سوى النتيجة الحتمية لحرب أهلية أفريقية جديدة.

لم تبدأ المملكة المتحدة في إدراك أن أعداد الوفيات بين المدنيين فاقت مجرد كونها أضرارًا تبعية إلا في الأسبوع الأول من مايو؛ إذ وصفت صحيفة ذا تايمز — يوم الثاني من مايو — الأحداث في رواندا بأنها إبادة جماعية؛ وبعد ثلاثة أيام كانت صحيفة ذا جارديان هي الصحيفة الثانية التي تستخدم الكلمة ذاتها. كذلك بدأ عدد من المؤسسات غير الحكومية، مثل أوكسفام ومنظمة العفو الدولية، في وصف الأزمة علنًا بالإبادة الجماعية، وطالبت بتحرُّك فوري على المستوى الدولي.

وفي الولايات المتحدة، كان الوصول إلى معلومات أكثر دقة دالًّا على أن الحكومة هناك أكثر درايةً بما يدور في رواندا. ورغم ذلك، فإن إدارة الرئيس كلينتون ظلت مصرَّة على تجنب التدخل في حرب أفريقية جديدة، لا سيما بعد وقت قصير جدًّا من إخفاقها في الصومال. ونصح المحامون في وزارة الخارجية بأنه رغم أن ثمة «جرائم إبادة جماعية» تُرتكب في رواندا، فإنه يتعين على المسئولين تجنب استخدام هذا المصطلح؛ إذ إنه بمقتضى الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فإن مثل هذه النتيجة تُلزم الولايات المتحدة باتخاذ إجراء إزاء الموقف. وقد كانت هذه إحدى الأزمات التي صممت الولايات المتحدة على أن تظل بمنأًى عنها.

لكن حجم وطبيعة الأحداث في رواندا لم يكونا ليسمحا للمجتمع الدولي بتجاهلها طويلًا. وفي الثالث من مايو، ظهر بطرس غالي على التليفزيون الأمريكي، ووصف الأحداث صراحةً بأنها إبادة جماعية؛ وفي اليوم التالي، دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لشئون اللاجئين لجلسة طارئة لمناقشة الأزمة؛ وفي السادس من مايو، اقترحت أربعة من الدول الأعضاء بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة — إسبانيا، ونيوزيلندا، وجمهورية التشيك، والأرجنتين — قرارًا يدعو إلى زيادة بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا.

ورغم التزام حكومة الولايات المتحدة بعدم وصف الأزمة بالإبادة الجماعية علانيةً، فإنها وافقت أخيرًا في الحادي عشر من مايو — أي بعد خمسة أسابيع تقريبًا من اندلاع أحداث العنف — على أنه لا بد من القيام بتصرفٍ ما. ومع ذلك، بقي كلٌّ من البنتاجون ووزارة الخارجية على إصرارهما على ألَّا يتورَّط الجنود الأمريكيون في حرب بلد آخر. وتلقت مادلين أولبرايت تعليماتٍ بتقديم خُطة بديلة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وكانت الخطة، التي أُطلق عليها «الانتشار إلى الخارج»، تقضي بنشر قوات الأمم المتحدة في البلاد المجاورة وإنشاء مناطق آمنة. وحينئذٍ ستُوفَّر الحماية لأيٍّ مِن التوتسي الذين ينجحون في الوصول إلى أيٍّ من هذه المواقع. وأوضحت أولبرايت كذلك أن في حالة تبنِّي هذه الخطة، سيكون البنتاجون على استعداد لتوفير الدعم اللوجستي، في حين أن الولايات المتحدة لن تساهم أي مساهمة في زيادة قوات بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا.

في المملكة المتحدة، لم تقتنع وزارة الخارجية بخطة «الانتشار إلى الخارج». وفي مقر الأمم المتحدة، أخبر هاناي نظيره الأمريكي بأن الناس يموتون داخل رواندا و«لن توقِفَ ذلك من أوغندا أو تنزانيا». وراحت المملكة المتحدة تبحث عن حل وسط بدلًا من خطة «الانتشار إلى الخارج». وأمام ما بات آنذاك أدلةً واضحة على معاناة المدنيين على نطاق هائل، اتفقت وزارة الخارجية البريطانية على ضرورة نشر قوات داخل رواندا، لكنها زعمت أنها مشكلة أفريقية تستلزم حلًّا أفريقيًّا؛ فأي بعثة جديدة لحفظ السلام لا بد أن تتشكل من قوات أفريقية لا قوات غربية.

وظل الجدل دائرًا حول كيفية الاستجابة للموقف في الأمم المتحدة لأسبوع آخر. فقط في السابع عشر من مايو — بعد ستة وعشرين يومًا من التصويت على تقليص حجم بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا — وافق مجلس الأمن على زيادة أعداد قوات حفظ السلام في بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا إلى٥٥٠٠ فرد، على أن تكون هذه القوات من بلاد أفريقية وفقًا للحل الوسط البريطاني. وطولبت جميع حكومات القارة على النحو المناسب بتوفير قوات. وطولبت الدول الغربية، بما فيها المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بتقديم الدعم اللوجستي، إلا أن ذلك الدعم لم يكن ليتوفر سريعًا؛ فقد قدمت الولايات المتحدة حاملات جنود مدرعة، ثم دخلت في جدل مع الأمم المتحدة حول الكيفية التي ينبغي أن تُنقل بها إلى رواندا. في الوقت نفسه، استغرقت المملكة المتحدة شهرًا لتتخذ قرارًا بتقديم ٥٠ شاحنةً؛ مما ترتب عليه عجز قوات حفظ السلام الأفريقية عن التصرف.

بعد شهر آخر من التلكؤ، خاطبت فرنسا الأمم المتحدة، عارضةً إرسال بعثة مشكلة من قوات فرنسية فحسب لإقامة منطقة آمنة جنوبي غرب رواندا. وحسبما أشار الفرنسيون، في الوقت الذي أخذت الأمم المتحدة تماطل فيه، كان المدنيون الروانديون يُقتَّلون. ومع ذلك، لم تكن هذه البعثة تلقَى ترحيبًا عالميًّا على أية حال. فمع إدراك الخارجية البريطانية للعلاقات التاريخية الوطيدة بين فرنسا ونظام هابياريمانا، فإنها لم تكن متحمسة لدعم مثل هذه الخطة؛ فقد خشي البريطانيون ألا تكون هذه الخطة سوى غطاء للفرنسيين لتقديم الدعم العسكري مرة أخرى لحكومة الهوتو، مثلما فعلوا على مدار الحرب الأهلية. وربما تكون هذه المخاوف قد تأكَّدتْ حين أرسل الفرنسيون أكثر من ٣٠٠٠ جندي من قوات النخبة، و١٠٠ ناقلة جنود مدرعة، وطائرة نفاثة، ومروحيات هجومية، ومدفعية؛ وهذه القوة ملائمة أكثر لخوض حرب صغيرة منها لتقديم مساعدات إنسانية.

كذا، كان رد فعل الجبهة الوطنية الرواندية غاضبًا إزاء التدخل الفرنسي؛ إذ رأَتْ أن هذه محاولة من فرنسا لدعم جيش الحكومة. وبحلول أواخر شهر يونيو، بات انتصار الجبهة الوطنية الرواندية في الحرب مؤكَّدًا، لكن بينما أعطت انتصارات الجبهة أملًا للتوتسي، فإنها أجبرت الهوتو على الفرار من منازلهم خوفًا من الانتقام. في البداية، فرَّ عشرات الآلاف من الهوتو شرقًا إلى تنزانيا؛ ثم في منتصف يوليو، حين سيطرت الجبهة الوطنية الرواندية على أكبر ثلاث مدن رواندية، توجَّه مئات الآلاف من الهوتو غربًا، وظل كثيرون في المناطق المحمية التي تحتلها القوات الفرنسية. لكن، في الأسبوع المنتهي يوم الثامن عشر من يوليو، عَبَرَ أكثر من مليون من الهوتو — وفيهم الآلاف من جنود جيش الحكومة، الذين كانوا لا يزالون يحملون أسلحتهم — الحدود إلى زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية الآن). وعلى هذا النحو، تحولت أسرع إبادة جماعية في العالم إلى أكبر أزمة لاجئين في العالم.

وفي التاسع عشر من يوليو، اكتمل انتصار الجبهة الوطنية الرواندية، وأُعلِن وقف إطلاق النار في كيجالي، وعُينت حكومة جديدة. خلال تلك المائة يوم من العنف، قُتل حوالي مليون شخص، وتحوَّل أكثر من مليونين إلى لاجئين. هنالك هبَّ الغرب أخيرًا إلى التحرك.

فبعد شهور من المماطلة، أعلن الرئيس كلينتون نشر ألفي جندي أمريكي للمساعدة في تخفيف أزمة اللاجئين في زائير. ووافقت كلٌّ من بريطانيا وأستراليا وكندا على إرسال مسعفين عسكريين وخبراء لوجستيين إلى رواندا لدعم القوات الأفريقية التي تمكَّنتْ أخيرًا من الانتشار كجزء من بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا. أما وسائل الإعلام الغربية — التي ظلت طويلًا تُرحِّل أزمة رواندا إلى الصفحات الداخلية من الصحف، وتجاهلت الأزمة تمامًا في نشرات الأخبار التليفزيونية — فراحت فجأةً تقدِّم تغطيةً موسَّعةً لأزمة اللاجئين. وفي حين أن عدد الصحفيين الدوليين الذين كانوا ينقلون الأحداث من داخل رواندا كانوا زهاء العشرة، فقد تجاوز عدد الصحفيين الذين ينقلون الأحداث من المعسكرات في زائير الخمسمائة.

وما برحت مبالغ هائلة للمعونات تتجه آنذاك إلى أزمة اللاجئين. وخصصت الحكومات الغربية ملايين الدولارات للأغذية والإيواء وأدوية الطوارئ، وتبرع العامة بمبالغ مالية ضخمة؛ ففي المملكة المتحدة وحدها جُمِعت تبرعات بقيمة ٤٠ مليون جنيه استرليني. وفي زائير، كانت الجمعيات الخيرية تتصارع تقريبًا وهي تحاول إنفاق المال، إلا أن قليلين من العاملين في الإغاثة أدركوا أن كثيرًا من الأشخاص الذين يقدمون إليهم المساعدة هم في الواقع منفذو جرائم الإبادة الجماعية وليسوا الضحايا. وبسبب هذه المعونة جزئيًّا، ستمر سنوات قبل أن يعود معظم هؤلاء اللاجئين إلى وطنهم الذي تحكمه الجبهة الوطنية الرواندية المنتصرة.

عشرون عامًا مرت ولا تزال أحداث عام ١٩٩٤ عالقةً في أذهان الروانديين وجيرانهم. وقد حظرت الحكومة الجديدة استخدام اسمَيِ الهوتو والتوتسي، لكنها — كما هو الحال في كل البلدان الأفريقية — تبنَّتْ نظام حكم الحزب الواحد الأوتوقراطي. ورغم النمو الاقتصادي الذي حققته الحكومة الجديدة والجهود التي بذلتها لتشكيل حضور رواندا الإقليمي والدولي، فإنها لا تزال خائفة من تكرار أحداث عام ١٩٩٤، وبذلت جهدًا جهيدًا من أجل التعامل بفاعلية مع المعارضة؛ فيما يدَّعي الناقدون أن هذه الحكومة اضطهدت وسجنت بل واغتالت معارضين لها باسم الحفاظ على الأمن، مثلما فعلت حكومة هابياريمانا من قبل.

علاوةً على ذلك، كان فرار جيش الهوتو القديم إلى زائير دون أن يمسَّه سوء يعني أن الحرب لم تنتهِ؛ فالغارات على رواندا استمرت إلى أن دفعتِ الحكومة بقواتها أخيرًا إلى زائير، وسرعان ما تحولت المناوشات الحدودية إلى حرب كاملة عبر البلدين، والتي حين بلغت ذروتها تضمنت جنودًا من سبعة بلدان أفريقية وميلشيات متنوعة — بعضٌ منها كان يحارب بتفويض من الحكومة الرواندية. وحتى يومنا هذا، حصدت الحرب أرواح ستة ملايين رجل وامرأة وطفل، علاوةً على المليون الذين راحوا ضحية أحداث عام ١٩٩٤، وهو رقم قريب إلى حدٍّ مخيف من عدد الضحايا الذين لقوا مصرعهم في الهولوكوست. إنه لمن المفارقة المؤلمة أن تبدأ هذه الفترة البشعة من التاريخ في نفس الوقت الذي يُذكِّر فيه فيلمُ «قائمة شندلر» العالمَ بشعار: «لن يتكرر هذا أبدًا».

29 Dic, 2015 02:34:47 PM
0