Pasar al contenido principal

الأمير الحديدي: الوجود البريطاني في أفغانستان عام ١٨٨٠

في عام ١٨٨٠، انسحبت القوات البريطانية من أفغانستان بعد محاولة فاشلة لاحتلال النصف الجنوبي منها. يصف بيجان عمراني كيف وحَّد عبد الرحمن خان — الحاكم الجديد الذي نُصِّب إثر انسحابهم — الدولةَ الممزقةَ، ولكن بثمنٍ باهظٍ.

شَهِدَ هذا العامُ الانسحابَ المقرَّرَ لقوات الناتو من أفغانستان. لا تزال فكرة رحيل هذه القوات سببًا في انتشار المخاوف بشأن احتمال انهيار حكومة كابول تحت وطأة الحرب الأهلية ومع غياب دعم الجيوش الأجنبية. وثمة توقُّع أيضًا أن تفكِّر الدول المجاورة — باكستان وإيران ودول وسط آسيا — في ظِلِّ هذه الفوضى في التدخل وتقسيم أفغانستان فيما بينها.

رسْمٌ كاريكاتوريٌّ من مجلة بَنش عام ١٨٧٨ يُظهِر أفغانستان وهي محاصرةٌ بين                        الدُّبِّ الروسيِّ والأسدِ البريطانيِّ.

رسْمٌ كاريكاتوريٌّ من مجلة بَنش عام ١٨٧٨ يُظهِر أفغانستان وهي محاصرةٌ بين الدُّبِّ الروسيِّ والأسدِ البريطانيِّ.

مع ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي تتعرَّض فيها أفغانستان لمثل هذا الموقف. فعَقِبَ الحرب الأفغانية الثانية (١٨٧٨–١٨٨٠) كانت الظروف تشبه في كثيرٍ من النواحي ما يحدث حاليًّا. ففي عام ١٨٧٨ غَزَتْ بريطانيا أفغانستانَ من الهند للمرة الثانية؛ خشية أن يصير لروسيا — التي تنافسها منذ أَمَدٍ طويلٍ على السيطرة على آسيا — نفوذٌ في كابول. وفي عام ١٨٧٩ فشلَتْ محاولةُ وَضْعِ أميرٍ سَهْلِ الانقيادِ على العرش، ووجدت قواتُ الاحتلالِ البريطانيِّ نَفْسَها فجأةً مسئولةً مسئوليةً مباشرةً عن الدولة. وانهارت الحكومة الأفغانية وبدأت الدولة تتداعى إلى مناطق ذاتية الحكم، أو إلى حالة من الفوضى التامة وانعدام القانون. احتلَّ البريطانيون كابول وقندهار، لكن كما اعترف نائب الملك في الهند، اللورد ليتون، فيما بعد: «لم يمتدَّ نطاق إدارتنا الفعلية أو نفوذنا إلى أبعد من هذا؛ لذا كانت الدولة برمتها دون حكومة.» دعا رجال الدين الأفغان؛ من أمثال رجل الدين سيئ السمعة موسكي علام، إلى «الجهاد» وأُنْهِكَتِ القوات البريطانية بسبب التعامل مع الثورات والمناوشات المستمرة. استقلَّتْ مدينةُ هراة والضواحي المحيطة بها بقيادة أحد الثوريين من أفراد الأسرة المالكة، وهو أيوب خان، الذي أَوْقَعَ هزيمةً مُخْزِيَةً بالقوات البريطانية في معركة مايواند في يوليو عام ١٨٨٠، قبل استسلامه في معركة قندهار في سبتمبر من نفس العام.

من نهاية عام ١٨٧٩ حتى عام ١٨٨٠ كانت السياسة البريطانية لأفغانستان في حالةٍ من الفوضى. قال البعض، من أمثال جلادستون والحزب الليبرالي المعارض: إن بريطانيا لا بد أن تنسحب بالكامل، في حين رأى آخرون؛ منهم الجنرال روبرتس، قائد القوات البريطانية في كابول، أن هذا البلد لا بد أن يُفكَّك ويدخل القسمُ الجنوبيُّ منه ضمن الهند البريطانية. غير أنه تحت ضغط التمرد المستمر وعقب فوز جلادستون على ديزرائيلي في انتخابات أبريل عام ١٨٨٠، اتَّضَح أن الاستيلاء على المنطقة الممتدة من كابول إلى قندهار أمرٌ غير واقعيٍّ. وكان لزامًا على بريطانيا أن تخرج خروجًا يَصُون هيبتها ويحفظ ماء وجهها.

غير أنَّ بريطانيا، كما هو الوضع في الموقف الحالي، كانَتْ تخشى من التبعات التي يخلِّفها انسحابُها. فقد كانت روسيا تتقدَّم نحو شمال أفغانستان، وكانت إيران متلهفة لاسترداد مدينة هراة التي كانت تحت سيطرتها في وقت من الأوقات. ومع غياب الحكومة المركزية فعليًّا، تُرِكَتْ حرية التصرف لزعماء القبائل والقادة المحليين. وكان عدم الاستقرار المستمر على الحدود الشمالية الغربية للهند، أو في أسوأ الحالات حدوث غزو، من الاحتمالات المثيرة للقلق.

قرَّرَ المسئولون البريطانيون، بسبب حاجتهم الماسَّة إلى حلٍّ يسمح لهم بانسحابٍ مُشَرِّف ويُحقِّق أيضًا الهدف في الاستقرار، دَعْمَ اعتلاء فردٍ قاصرٍ من العائلة المالكة الأفغانية على العرش. قضى عبد الرحمن خان السنوات العشر السابقة في المنفى في سمرقند، لكن في يناير عام ١٨٨٠ ظَهَرَ في شمال البلاد ومعه نقودٌ وأسلحةٌ، وجيشٌ من المؤيدين مستعدون لبذل كلِّ ما يملكون مِنْ جَهْدٍ مِنْ أَجْلِ الحصول على السُّلطة. وعندما اكتشف البريطانيون أنه لا يُضْمِر لهم العداء دعوه لدخول كابول بصفته حاكمها. تَرَكَ البريطانيون كابول لعبد الرحمن في أغسطس عام ١٨٨٠ بعد أن أعطوه المزيد من الأسلحة ومنحةً تُقَدَّر بمليونَيْ روبية وتعهُّدًا منهم بعدم التدخُّل في شئون الدولة الداخلية ما دامَتْ بريطانيا تحتفظ بسيطرتها على العلاقات الخارجية الأفغانية.

بدا من الغريب للوهلة الأولى أن تُسَلِّم بريطانيا السلطةَ بهذه السهولة إلى هذا الوافد الجديد. في أثناء وجود عبد الرحمن في منفاه كانت سمرقند تحت سيطرة روسيا، وكان يحصل بصفةٍ منتظمةٍ على مبلغٍ ماليٍّ سخيٍّ من القيصر. وكانت ثمة مخاطرةٌ كبيرةٌ في احتمال أن يكون واقعًا تحت النفوذ الروسيِّ. ومع هذا حقَّقَتْ مغامرةُ البريطانيين نتيجةً مبهرةً. فلم يتجنَّبْ عبد الرحمن التدخُّلَ الروسيَّ فحَسْبُ، بل يمكننا القول إنه أصبح أَنْجَحَ حاكمٍ أفغانيٍّ على الإطلاق. فعلى مدار حُكْمِهِ الذي استمرَّ ٢١ عامًا استطاع توحيد الدولة وإنشاء حكومة مركزية قوية وتأمين الحدود. وعند وفاته عام ١٩٠١، انتقل حكم البلاد بسلام إلى يد الوريث الذي رشَّحَه، وهو إنجازٌ لم يُحَقِّقه أيُّ حاكمٍ أفغانيٍّ مِنْ قَبْلُ. ومن الأسباب الأساسية لنجاح عبد الرحمن تناولُهُ المختلفُ كليًّا لفلسفة الحكم الملكي الأفغاني، الذي شَرَحه باستفاضةٍ في سيرته الذاتية «حياة عبد الرحمن» (١٩٠٠).

أصبحَتْ أفغانستان كيانًا مستقلًّا في منتصف القرن الثامن عشر. فقد كانت في الأصل منطقةً حدوديةً بين الدولة الصفوية في إيران وإمبراطورية المغول في الهند. وكانت كلتا الدولتين في حالة من التدهور في أوائل القرن الثامن عشر، وأتاح هذا الأمر للقبائل الخاضعة لحكم هاتين الدولتين في المنطقة الجنوبية من أفغانستان الفرصةَ للانفصال عنهما. وفي خمسينيات القرن نفسه استطاعَتْ هذه القبائلُ المعروفةُ بأسماء مختلفة؛ مثل: البشتون والبتان والأفغان، التوحُّدَ وتكوينَ إمبراطوريةٍ ضخمةٍ، وكان هذا أول ظهور لدولة أفغانستان الحديثة، امتدَّتْ من غرب إيران حتى كشمير وبحر العرب.

لكن، سرعان ما تفكَّكَتْ هذه الإمبراطورية الجديدة. كانت طبيعتها الجغرافية المنقسمة بفعل السلاسل الجبلية والصحاري جزءًا فقط من المشكلة. أما المشكلة الأساسية، فكانت في قرار قبائل البشتون بشأن الاستقلال. فنظرًا لخضوع هذه القبائل على مدى قرون لحكم الأباطرة الأجانب، كانت معارِضةً تمامًا لفكرة الحكام المستبدِّين، حتى وإن كانوا محليين. لقد كانوا على استعداد لتقديم الخدمة العسكرية للمملكة الأفغانية الجديدة، لكنهم لم يكونوا مستعدين لاتِّباع أي قوانين تُصْدِرها حكومةٌ مركزيةٌ، وبالطبع لم يوافقوا على دفع الضرائب، التي كانوا يَرَوْنها لزامًا على السكان الخاضعين لحكم الإمبراطورية، وهذا لا ينطبق عليهم.

نتيجةً لذلك لم يكن للملوك الأفغان الأوائل أيُّ سلطانٍ على الشعب. لقد كانوا يحتفظون بسلطتهم على مضضٍ من البشتون، وكان حكام القبائل الآخرون يرون أنَّ مكانة هؤلاء الملوك لا تزيد عن مكانتهم. كان الملوك يدركون أنه ليس بمقدورهم تحقيق الكثير فيما يتعلَّق بالعَمَلِ الحكوميِّ الفعَّال؛ لذا كان دورهم مقصورًا على القيادة في وقت الحرب والوساطة بين القبائل في وقت السلم. ولم يحاولوا تغيير الوضع الأساسي في أفغانستان ولا أسلوب معيشة الناس فيها. في عصر مبكر ربما كان من الممكن لهذه الأوضاع أن تستمر لأجَلٍ غير مسمًّى دون أية مشكلات، لكن خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقَعَتْ أفغانستان بين رَحَا التوسع السريع في آسيا لقوتين أوروبيتين، هما بريطانيا وروسيا، اللتان عزمتا على تحديث المناطق التي تستوليان عليها. ونتيجةً للقيادة الضعيفة في أفغانستان لم تستطع التنافس مع هذه القوى الخارجية، وبدا أنه مقدَّرٌ لها أن يدب الوهن في أوصالها.

ثمة الكثير من الجوانب في نشأة عبد الرحمن تُؤَهِّله لحكم أفغانستان؛ فعبد الرحمن هو حفيد دوست محمد (١٧٩٣–١٨٦٣)، وهو مَلِكٌ أفغانيٌّ سابِقٌ، ومن ثمَّ نشأ معتادًا على السلطة. وُلِد عبد الرحمن عام ١٨٤٤ تقريبًا، وتعلَّمَ على يد ضابطٍ اسكتلنديٍّ سابقٍ في الجيش الهنديِّ أُسِر في أثناء الحرب الأفغانية الأولى (١٨٣٩–١٨٤٢). وبالتالي، حصل على معرفة عميقة بالعلوم العسكرية الأوروبية لم تكن سائدةً بين أقرانه من الأفغان. وفي سن ١٦ عامًا تقريبًا عُيِّن عبد الرحمن حاكمًا على مدينة تاشكورجان في الشمال، وقد اضطلع بدوره في حكم هذه المدينة باستقلالية ومهارة. وفي أواخر مرحلة المراهقة، عُيِّن قائدًا على الفرقة الشمالية من الجيش الأفغاني. وخاضَ بحماسٍ معتركَ السياسة القَبَلِيَّة التي أثبَتَ جدارتَه فيها من خلال جَمْعِه بين استخدام الدبلوماسية والقوة العسكرية في سَحْق ثورات الزعماء المحليين. وفي عام ١٨٦٣ تُوفِّي دوست محمد واندلعت حربٌ أهليةٌ على مَنْ يَخْلُفه. حارَبَ عبد الرحمن نيابةً عن والده أفزال خان، وعلى مدار السنوات الخمس التالية اقترب من الفوز بالعرش لأبيه. غير أن أفزال تُوفِّي عام ١٨٦٧ وسعى عَمُّ عبد الرحمن، شير علي، جاهدًا لاعتلاء العرش، وأرسى دعائم حكمه بالكامل عام ١٨٦٩، وهرب عبد الرحمن إلى سمرقند.

عندما تولَّى عبد الرحمن زمام الأمور عام ١٨٨٠، لم تكن خبرته وحدها هي التي مكَّنته من تحقيق النجاح في منصب الأمير. فقد رأى ضرورة وجود دولة مركزية قوية من أجل تطور البلاد والحفاظ على استقلالها؛ لذا أعاد تعريف مفهوم الحكم الملكي، مؤكدًا على أن الحق في حكم أفغانستان لا يقوم على إجماع آراء القبائل، بل على حقٍّ إلهيٍّ. فالملوك في الدول الإسلامية يحتفظون بعروشهم لا بسبب عدم قدرة الشعب على الاعتراض، بل بفضل إرادة الله. وكان دور ملك أفغانستان الدفاع عن الدين والحفاظ على شَرَف الشعب ورفاهيته وحماية الأمة من هجوم الكفار. وترتَّبَ على ذلك أن كانت الخيانة ضد الملك ضربًا من الكفر، فهي بمنزلة اعتداء على إرادة الله.

ظَهَرَ أولُ تطبيقٍ عمليٍّ من جانب عبد الرحمن لهذا المبدأ الجديد، الذي كان المقصود منه زلزلة الوضع الراهن وتعزيز حكمه، في قراره بتقويض سلطة القبائل. في بداية حكمه، عندما لم يكن لديه جيشٌ كبيرٌ، لم يتردَّد في استغلال المنافسات بين القبائل، فكان يتحالف مع إحداها مِنْ أَجْل تدمير الأخرى. وكان يستغل الاختلافات الطائفية، على سبيل المثال، فيستدعي جهاد السُّنِّيين ضدَّ هزارة الشيعة «الزنادقة» من أجل تحريض الناس على القتال. ثم اتَّخَذَ الإرهاب أداة من أجل تهدئة القبائل؛ فأي فرد يثور ضده عليه أن يتوقع أن يُقتَل أو يُستعبَد أو تُصادَر ممتلكاته وتُحرَق محاصيله وقريته وتُدمَّر حصونه وتُقطَّع أشجاره وتُغتصَب نساؤه. وفي مناطق اندلاع الثورات، أقام أهرامًا من الجماجم من أجل ترويع الناجين. ومن أجل زعزعة تماسك العشائر القبلية اقتلعها من جذورها جملةً واحدةً، ونَقَلَها إلى أماكن نائية في الدولة. أما مَنْ كان يرفض من زعمائها دَفْعَ الضرائب، فكان إما يُقتَل أو يُحبَس، ويحل محله خلفاء يُقَدِّمون فروض الطاعة، وعادةً ما كان أولادهم يُؤخَذون رهائن في كابول ضمانًا لإذعانهم.

بمجرد تهدئة القبيلة وقبولها دفع الضرائب، يفرض عليها عبد الرحمن التجنيد الإجباري؛ حيث كان يأخذ عادةً رجلًا واحدًا من كل ثمانية رجال. ومع تنامي جيشِهِ الشخصيِّ — الذي كانت قوته تُقَدَّر بنحو ٦٠ ألف رجل عام ١٨٩٠ ثم وصلت إلى ١٠٠ ألفٍ عامَ ١٩٠٠ — استطاع توطيد عمليات التهدئة. عيَّن حدودًا ثابتة لأفغانستان مع الدول المجاورة وأخضع لسيطرته مناطق شرق أفغانستان ووسطها، التي لم تذعن أبدًا مِنْ قَبْلُ لكابول.

عزَّزَتْ أيضًا فلسفة عبد الرحمن في النظام الملكيِّ مِنْ طريقة تشكيله لحكومته؛ فقد أشار في إحدى المرات إلى وجوب النظر إلى المَلِك باعتباره سيِّدًا ووزراؤه هم عبيده. واتخذ جميع الإجراءات التي تمنع أيَّ فردٍ آخَرَ من تكوين مركز سلطة يُمَكِّنه من التصدِّي لسلطته. وتيسيرًا للإدارة، قسَّمَ الدولة إلى عدة مقاطعات صغيرة، وفصل السلطتين المدنية والعسكرية، وقلَّلَ سلطة المسئولين. وأَمَرَ بأن تُعرض عليه شخصيًّا كل الأمور، حتى قليلة الأهمية منها. وكان يختار لتولِّي المناصب الوزارية الأشخاصَ الذين لا تظهر عليهم علامات الطموح الكبير، وكثيرًا ما كان عبد الرحمن ينقلهم من وظيفة لأخرى، ويصادر ثرواتهم إذا راوَدَهُ أدنى شكٍّ في احتمال خروجهم عليه وانشقاقهم عنه.

ساد شعورٌ غيرُ مسبوقٍ بوجود الحكومة. ومع نمو الجيش تزايَدَ النظام البيروقراطي المسئول عن تقييم الضرائب وَجِبَايتها وإدارة الدَّخْل. وكان الجيش يدعم تطبيق هذا النظام في جميع أنحاء الدولة، لكنَّ هؤلاء المسئولين كانوا يعيشون في خوف تمامًا مثل المواطنين العاديين. أَمَرَ عبد الرحمن بالاحتفاظ بسجلات مفصَّلة عن جميع المعاملات التجارية. وكان يفحص عملية التوثيق بنفسه، وكان يأمر بسجن المسئولين لأصغر الأخطاء، أو يأمر بفقء أعينهم أو بإعدامهم. وإلى جانب النظامِ البيروقراطيِّ أنشأ شبكةَ تجسسٍ واسعةٍ، كان يُقال إنها تقوم على النظامِ الروسيِّ، الذي شاهده وأُعجِب به. وربما بالغت المزاعم التي قالت إنه في هذا الوقت كان ثمة جاسوس مِنْ بين كلِّ أربعة من الأفغان، لكن كانت تُقدَّم تقارير وفيرة إلى الأمير يوميًّا عن المسئولين والأشخاص ذوي الشأن، وكان يقرؤها في وقت متأخر من الليل.

كانت قرارات الحكومة من اختصاص عبد الرحمن وحده. وكان يبغض النظام الديمقراطي البرلماني الغربي، وعلَّق على هذا ذات مرة قائلًا إنه يعتقد أن مجلس العموم البريطاني أشبه ما يكون بالحمَّام التركي المليء بالثرثرة. وبدلًا من ذلك، كان لديه مجلسٌ ثنائيُّ التمثيل مختارٌ بعناية مِنْ أَجْلِ التصديق على قراراته، لكن وظيفته الأهم تمثَّلَتْ في الإبقاء على الزعماء ورجال الدين لفترات أطول في كابول بعيدًا عن مراكز سلطتهم المحلية من أجل تقليل قوتهم.

وسَّعَ عبد الرحمن سلطته، بوصفه «حاكمًا مفوَّضًا من الله»؛ لتشمل الدين أيضًا. فقد كان هو الوحيد الذي يملك سلطة تقرير العقيدة التي يتم الاستقرار عليها، أو الدعوة إلى الجهاد. وفصل رجال الدين المعارضين له من وظائفهم معللًا ذلك بافتقارهم إلى المعرفة الدينية، أو ببساطة لمعارضته. وفي عام ١٨٨١ خنق بيديه أحد رجال الدين، الذي قال عنه إنه غير مسلم لتلقِّيه منحةً من البريطانيين، وأرداه قتيلًا. كما أصدر كُتَيِّبات تحرِّض على كراهية الأجانب من البريطانيين والرُّوس الملحدين، وشكَّل شُرطة دينية تُدعَى «المحتسبين» من أجل المعاقبة على السلوك الآثم. وكان كلُّ مَنْ لا يُقِيمون صلواتهم أو يبدو أنهم يزدرون الإسلام أو يخلُّون بالآداب العامة — بالسباب مثلًا — يتعرضون للضرب.

كان العقاب هو التجسيد الواضح لوجود الحكومة. أدرك عبد الرحمن ضرورة وجود نظامٍ قانونيٍّ موحَّدٍ من أجل دولة موحَّدة؛ حيث أراد أن تحل محاكم «الشريعة» محل خليط الجمعيات القَبَلِيَّة التي كانت مسئولة في السابق عن تحقيق العدالة. غير أنَّه نصَّبَ نفسه المحكمة العليا، وأَمَرَ بعرض جميع القضايا عليه، حتى البسيطة منها. وكانت الأحكام التي يصدرها وسيلة أساسية لإرهاب الشعب من أجل إخضاعه. ارتفع عدد المسجونين من ١٥٠٠ سجين عام ١٨٨٠ حتى ٢٠ ألف سجين عام ١٨٩٦. وكان السجناء يُحبَسون في أماكن مكتظة وظروف غير صحية، ويتناولون عادةً كسرتين فقط من الخبز في اليوم. ويُعتقَد أن من ٦٠ إلى ٨٠ في المائة من المحتجزين قد ماتوا، وكثيرٌ منهم قُتِلوا لإفساح مكانٍ لغيرهم. وكانت مشاهد الإعدام والتعذيب من الأمور المألوفة، وتُنفَّذ على الملأ. وكان مرتكبو الجرائم يتعرضون للإعدام شنقًا أو رميًا بالرصاص. أما السارقون، فكانوا يُحبَسون داخل أقفاص حديدية تُعلَّق فوق الطرقات ويُترَكون حتى يموتوا جوعًا. أما مرتكبو الزنا، فكانوا يُطعَنون بالحِراب أو يُوضَعون في ماء مَغْليٍّ ليصيروا حساءً يشربه أزواجهم. وتمثَّلَتْ عقوبات الجرائم الأخرى الأقل حدة في قطع الأيدي أو الألسنة أو خياطة الشفتين أو فقء العينين أو صبِّ زيت مغليٍّ على فروة الرأس لحرق المخ.

نجح عبد الرحمن في توحيد أفغانستان، لكن استمر الجدل قائمًا بين المؤرخين حول ضخامة ثمن هذه الوحدة. فقد اعترف عبد الرحمن بنفسه أنه قتل نحو ١٠٠ ألف شخص في أثناء حكمه. كانت الدولة تنعم بالسلام، لكن مستويات المعيشة لم ترتفع. وقيَّدَ التجارة بالضرائب القاسية، لكنه ظلَّ غير قادر على موازنة الحسابات دون مساعدة الْمِنَح البريطانية. ورفَضَ تنمية البنية التحتية للدولة وشبكة النقل والموارد الطبيعية؛ لأنه كان مقتنعًا أن هذا سيجعل الدولة تقع فريسة للغزو. كذلك تصدَّى لتطوير التعليم الحديث ورَبْطِه بالعالم الخارجي؛ خشية أن يُشَجِّع هذا الناس على التشكيك في سلطته وظروف معيشتهم. وإجمالًا، فقد تَرَكَتِ الأساليبُ التي انتهجها عبد الرحمن في تحقيق وحدة أفغانستان — بما اتسمت به من عنف وعزلة وانعدام للتنمية — أَثَرَها على الدولة، ولا تزال هذه الآثار واضحة حتى يومنا هذا.

29 Dic, 2015 02:59:45 PM
0