Aller au contenu principal
التشكيلات العروضية بين موسيقى الشعر العربي وإيقاع الشعر الإيحائي التصويري (الهايكو)

مما يحتاج إليه، وتجب معرفته من صنعة الشعر، المعرفة الدنيا من العلوم الخمسة: (الإعراب)، و(التصريف)، و(اللغة)، و(علم المعاني)، من أصول وقواعد، ما يُعرف بها أحوال الكلام العربي التي يكون بها مطابقًا لمقتضى الحال، بحيث يكون وفق الغرض الذي سِيق له. و(علم البيان) من تشبيه، ومجاز، وكناية. وعلم البديع؛ من محسنات معنوية، ومحسنات لفظية.

أما ما يجب على الشاعر معرفته من صنعة شعر (الهايكو)، أن يتقن فن الإيحاء والتصوير، والعناية بالموضوعية الموسمية، واستبعاد مشاعره وعواطفه المباشرة، وأنسنة الأشياء، وتقديم رؤيته الجمالية المتميزة، وفلسفته القائمة على وحدة الكائنات من طبيعة وبَشَر. لذا؛ فإن التأصيل لمفهوم ومصطلح (الهايكو) وترجمته إلى اللغة العربية ما زال مضطرباً؛ لأن هذا النوع من الشعر (الهايكو)، ما زال إلى الآن عند كثير من الشعراء والنقاد العرب، فاقداً لمشروعيته كجنس أدبي شعري. إن الناظر إلى قصيدة (الهايكو) القصيرة؛ سيجدها تخضع إلى (سبعة عشر مقطعاً موزعة على ثلاثة سطور)، وهي صورة توحي لا تصرح، وهي مختصرة تشير إلى الفراغ بدون أن تملأه، وهي أكثر عناية بالأشياء في بداياتها أو نهاياتها، وهي تحدث أخيراً فيما بعد لحظة التمزق والصراع، أو في لحظة الصفاء والاستنارة. وحين البحث عن هذا النوع من الشعر (الهايكو)، والأسس التي قامت بها قصائده؛ نجد أن أقدم نصوص جمعت في كتاب، كان في القرن الثامن الميلادي، وأن لقصيدة (الهايكو) أربعة أسس؛ كما شرحها الراهب الياباني (كينكو) في القرن الرابع عشر الميلادي، وفي مطلع القرن العشرين عرضها الباحث (دونالد كين)، وهي: تثمين الإيحاء، واللاتماثل، والبساطة والهشاشة، أو صفة الفناء الملازمة للأشياء. وكلها قيم محورها الإيحاء، والإيحاء شكل من أشكال إثارة المخيلة والحيوية، والحدس، لذا؛ ولعلنا نجد في قصيدة الشاعر (باشو) الآتية؛ المتعة المتأتية التي هي نتاج حدس مباشر لإنتاج جدال عقلي:

على غصنٍ ذابلٍ

يجثم غراب وحيد

مساءُ الخريف الآن.

فكأننا نرى في هذه الصورة شعور الشاعر الحاد الذي يميل إلى السوداوية، ويشوبه التسليم. فالدور الرئيس يعتمد على الغراب، لذا؛ فإن مكونات النص تبتعث من ثلاثة أشياء: الغصنٍ الذابل، والغراب، مساء الخريف، هذا الشعور يحركنا ويؤثر فينا بوساطة العاطفة المشتركة، التي تتشكل منها هذه العناصر، وبذلك نستطيع عبر حدسنا؛ الإحساس بجوهر مساء الخريف الذي يعبر عن حزن الشاعر ويأسه؛ ولعلنا نشاهد في هذه المقطوعة كيف أن السماء معلقة بلطف فوق الأفق مثل مرآة فضية. وهنا على أرضية من هدوء الخريف، يتحول الأزرق أو يكاد إلى بنفسجي غامق، وبالإمكان رؤية الشجرة الطويلة الواقفة، ذابلة وباقية في عتمة غسق الخريف المتكاتفة، والغراب الأسود جاثم وحيداً على أحد الغصون الذابلة.

النظر إلى شعراء الغرب، نجد الشعراء التصويريين قد حاولوا محاكاة قصائد (التانكا والهايكو)، منذ العام (1909)، لأن العديد من مبادئ العروض الياباني التي تحكم الاستخدام الناجح لهذا الشكل؛ ستفتح آفاقاً جديدة أمام الشاعر الإنجليزي، كما حدث لقصيدة (السوناتة) التي جعلها الإنجليز ملكاً لهم، وهي في الأصل (عربية)، انتقلت من الشعر الأندلسي إلى شعر التروبادور الروفنسيون الأوائل، بشكله العروضي ومضمونه الراقص والغنائي والفكاهي والغزلي، فكان أول من أخذ على عاتقه اقتباس أشكال الشعر الغنائي الإسباني العربي ومعانيه؛ الأمير جيوم التاسع الأكيتاني الذي كان يعرف العربية، ويتحدث بها، وبعد هذا الأمر أصبحت قصيدة (السوناتة) إنجليزية صرفة، والشعر العربي الحديث أخذ الشكل منها مرة أخرى.

وهذا ما حدث لقصيدة (الهايكو)، حيث وجد الغرب عامة، والإنجليز خاصة، أن هذه القصيدة القصيرة الموحية والمميزة؛ هي جوهر المخيلة الصافية، واللغة المكثفة؛ وبذلك أرادوا استبدال الشعر الحر الصافي بالشعر الإنجليزي، باستخدام قصائد (التانكا والهايكو)، ومع ذلك فإنهم كانوا يكتبونها للتسلية.

لذا نجد من مصطلحات قصيدة (الهايكو)، (الهوكو، والهايكاي، والهايكو)، فأصل شكل قصيدة (الهوكو)، هي (قصيدة المطلع) التي كانت تشكل مطلع قصيدة من النوع المكون من حلقات متصلة (الشعر المسلسل) ويدعى (رنجا)، وعرف هذا المطلع باسم (هايكاي نورنجا)، ثم أطلق عليها اسم (هايكو) بعد أن أصبحت مستقلة مكتملة بذاتها، وهي تماثل (الهوكو) في بنيتها الإيقاعية وعناصرها التصويرية.

وإذا ما ذهبنا إلى النموذج العربي من هذا النوع من الشعر، سنجد أن الشاعر عبدالرحيم جداية قدم لنا في ديوان (وحدي أنا والناي)، شعراً يحاكي الشعر الياباني (الهايكو)، متمثلاً بقصيدة الشعر الإيحائي التصويري، بلغة عربية خالصة من شوائب الترجمة من اليابانية إلى الإنجليزية، ومن الإنجليزية إلى العربية. فنقل الواقع من تجربته ومرجعيته وخبرته إلى متخيله فصبغ شعره؛ بالمعاني الإيحائية والمشاهد التصورية، التي نقلها عبر كتاباته إلى متخيل المتلقي الذي ألقى بتجربته ومرجعيته وخبرته إلى واقع آخر باختلاف المكان والزمان؛ حتى تتمكن المخيلة من ملء الفراغات بكل التفاصيل، وهذه الأشياء تكمن في قيمة الخبرات الشعورية للصور، وليس خروجاً من الواقع إلى الخيال أو الوهم، بل إلى شكل جديد من الواقع الخاص الماضي أو الحاضر، كالنص الآتي:

رماد تذروه الرياح

كان شجرة تسكنها العصافير

لولا عود ثقاب

فالرماد الذي تذروه الرياح، ما كان إلا شجرة خضراء كنا نسمع حفيف ورقها، وزقزقة تلك العصافير التي كانت تسكنها في الماضي، فكانت نتيجة عود ثقاب حول الشجرة إلى صورة أخرى من نار ورماد لا تراها إلا ذاكرة المكان والزمان، وبذلك تكون حالة الكاتب هي حالة التمثل، والنص هو حالة التمثيل الذي يشكل التصويرات الذهنية المشتركة بين الكاتب والمتلقي.

إن نجاح جداية في ضبط قصيدة الشعر الإيحائي التصويري، ما كان لولا تجربته ومرجعيته وخبرته وحسن متخيله؛ سواء أكان في الفن التشكيلي أم الشعر أم النثر أم النقد. وهذا النجاح جاء عبر التشكيلات العروضية التي تتماهى في موسيقا الشعر العربي وإيقاع الشعر الإيحائي التصويري (الهايكو) في أغلب ما كتبه. حيث اتخذنا أربعة وعشرين نموذجاً من شعره، للكشف عن التفعيلات المستخدمة فيها؛ فوردت تفعلية (فاعلن) (19) مرة، و(فَعِلن) (16) مرة، و(فَعْلن) (27) مرة، و(فاعل) (10) مرات، و(فعولن، فعول) (29) مرة، و(مستفعلن، مُتْفاعلن) (10) مرات، و(متفعلن، مفاعلن) (6) مرات، و(مستعلن) (7) مرات، و(متعلن) (5) مرات، و(فاعلاتن) (4) مرات، و(فعلاتن) (4) مرات، و(مُتَفاعلن) (8) مرات، وفي كلٍ من (مُتَفاعلْ، ومُتْفاعلْ، ومفاعلتن، ومفاعيلن، ومفعلات) مرة واحدة.

فكأن جداية حين يكتب أي جنس أدبي، يزينه بلغته الموسيقية التي تتميز بالصور الشعرية والتفعيلات المطبوعة، لأن موهبته الأصلية هي الشعر، وأما النثر فهو عارض على أدبه ونقده المتنوع.

ولو كان أصل موهبته النثر لصبغت أشعاره بلون يقترب من الجملة النثرية، أكثر منها إلى الجملة الشعرية.

وبذلك يكون مفهوم ومصطلح شعر (الهايكو) الياباني، يقترب من مفهوم ومصطلح الشعر الإيحائي التصويري في الشعر العربي.

 

 

 

المصدر: الدستور

13 Aoû, 2021 02:30:33 PM
0