Aller au contenu principal

بريطانيا في بداية الحرب العظمى

عندما أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا في أغسطس عام ١٩١٤، لم يصاحب ذلك موجةٌ من الشوفينية، ولا اندفاعٌ فوريٌّ للتطوع في الجيش، بل إن ما وجده أنتوني فليتشر في الخطابات والمذكرات الشخصية والصحف كان شعبًا لا يعي جيدًا ما ينتظره من تغيرات عميقة الأثر.

 تحدث الناس عن «الحرب العظمى» قبل حتى أن تعلن بريطانيا الحرب على ألمانيا في أغسطس ١٩١٤؛ ففي الثاني من أغسطس أخبر روبرت سوندرز — الذي كان ناظر مدرسة في قرية فلِتشينج بمقاطعة ساسكس — ابنه الذي يعيش خارج البلاد عن خطط الحرب الجاري إعدادُها في جنوب إنجلترا، قائلًا: «كل شيء يشير إلى قرب اندلاع الحرب العظمى التي طال توقُّعُها، ومن ثم يمكنك تخيُّل جو الإثارة المحمومة المخيِّم على الطبقات كافة.» أما وينفريد تاور — التي كانت في بلدة كاوز لحضور مهرجان اليخوت السنوي — فقد تركت وصفًا آسرًا في مذكراتها لحالتها الذهنية يوم ٤ أغسطس، حين أُعلنت الحرب فعليًّا على ألمانيا. كانت قد حضرت اجتماعًا للصليب الأحمر وكانت تعبئة القوات الاحتياطية قد بدأت هناك. جاء صدور الإعلان عند منتصف الليل «أشبه بانفراجة»:

رغم ذلك كان من المستحيل تصديق أن «اليوم الموعود» قد جاء فعلًا. لقد تحدثنا عنه وتجادلنا حول احتمالات حدوثِهِ، وكتب عنه كُثُر. كان أشبه بكابوس يحدق بنا دومًا. ومع ذلك، فلا أظن أن الكثيرين منا اعتقدوا أنه سيُصبح واقعًا في زمننا هذا، وأن قَدَرنا هو معايشةُ هذه الأيام المثيرة من تاريخنا … بدا الأمر فجأة أشبه بحلم مزعج سنستيقظ منه لنجد عالمنا كما هو.

حشد من الناس في لندن يهللون عند سماع إعلان                        الحرب.

حشد من الناس في لندن يهللون عند سماع إعلان الحرب.

يستعرض هذا المقال فيض المشاعر — التوجس والقلق والصدمة والارتباك والخوف — الذي انتاب الشعب الإنجليزي في الشهر الذي مزَّقت فيه تلك الأزمة الدولية غير المسبوقة حياةَ الأشخاص والعائلات. وبدراسة المزاج الوطني آنذاك، يذهب المقال إلى أنه في شهر أغسطس عام ١٩١٤ كان نظام أخلاقيٌّ جديد يحل بالفعل محل التراخي الذي ساد حقبة السلام الطويلة في العهد الإدواردي. كان السياق العام والملامح الرئيسية لهذا النظام الأخلاقي الجديد — الذي أصبح جليًّا تمامًا مع نهاية العام — في طور التأسيس.

وقد ثبت أن الحديث عن الشوفينية وحُمَّى الحرب اللتين ظهرتا في أغسطس عام ١٩١٤ لا أساس له من الصحة؛ إذ تألَّفت الحشود التي تجمَّعت خارج قصر باكنجهام في الأسبوع الأول من ذلك الشهر في معظمها من شباب الطبقة الوُسطى في قبعاتهم القشية، الذين ذهبوا إلى هناك مدفوعين بحالةٍ من عدم اليقين يتلمَّسون الأخبار. انتهت المهلة الممنوحة لألمانيا مساء يوم عطلة للبنوك، وكان ذلك وقت التنزُّه في حدائق لندن. وفي المدن الأُخرى كذلك خرج الناس إلى الشوارع بمعدل يزيد على المعتاد. وقد سجَّلت فيرا بريتين أنها كانت بصحبة «مجموعة صغيرة متحمسة» تجمعت يوم ٤ أغسطس؛ لمشاهدة تعبئة القوات الاحتياطية في مدينة بوكستن بمقاطعة داربيشير. لكن بالنسبة إلى الكثيرين — من بينهم عضو البرلمان هولكَم إنجِلبي — كان ذاك يومًا تعِسًا؛ إذ صرَّح هولكم إلى ابنه بأنه بسبب بلجيكا «لا بد أن نمضي في هذا الطريق إلى آخره … والحقيقة أننا مقدِمون على أكبر حرب شهدها العالم.»

جريدة برمنجهام إيفننج ديسباتش، يوم ٤ أغسطس                        ١٩١٤.

جريدة برمنجهام إيفننج ديسباتش، يوم ٤ أغسطس ١٩١٤.

اعتمدت كيفية وصول خبر خوض بريطانيا الحرب إلى الناس على مكان تواجدهم آنذاك؛ فقد سمعت ألِيس ريمنجتون — من قرية في مقاطعة لانكشير — صوت شاحنات على الطريق الرئيسي محمَّلة بأعداد كبيرة من الرجال، ووردت أنباءٌ عن «توجه تلك الشاحنات جميعًا إلى ما وراء البحار … ومن ثم أصبحت الحرب حقيقة واقعة.» كثيرون سمعوا عن إعلان الحرب من صيحات بائعي الجرائد، بينما تذكرت جرايس ويتام — عاملة في مغزل للقطن بمقاطعة شمال يوركشير — أن إعلانًا على لوحة إعلانات الكنيسة أذاع خبر الحرب، في حين اكتشف جورج إيوارت إيفانز أن بلده دخلت الحرب عندما مرت سيارة تعلِّق قصاصة من إحدى الصحف تحمل خبر «إعلان الحرب» بقريته في جنوب ويلز. في البداية ساد الريفَ الإنجليزي هدوءٌ قلِق، وهو ما يصفه روبرت سوندرز من مقاطعة ساسكس يوم ١٥ أغسطس قائلًا: «كان الجميع قلِقين ومستعدين لمُناقشة أنباء الحرب عند أدنى تشجيع»، مضيفًا: «يا للمستر فينِر المسكين! لقد تضرَّر كثيرًا عندما جاءوا وصادروا فرسته السوداء كيتي.»

لم يكن ثمة معارضة تُذكَر للحرب؛ إذ إن حِسَّ الالتزام العام كان يحتم على من لديهم تحفظات تنحيتها جانبًا سريعًا. وقد كتب روديارد كبلينج، الذي كان في إجازة خارج البلاد وقتها: «إن المواطن البسيط من مقاطعة سوفولك لا يجزع، بل يمضي في حياته في هدوء وسكينة.» يروي روبرت سوندرز في قرية فلِتشينج أنه كل مساء كان «الطبيب وزوجته يجلسان لتبادل الآراء ومناقشة أمور الحرب بوجه عام.» كان النموذج القوي الذي مَثَّلته وسائلُ الإعلام الوطنية مهمًّا في حشد الطبقات الوسطى والعُليا؛ إذ أفردت جريدة التايمز يوم ٧ أغسطس صفحاتها الرئيسية لمقالة افتتاحية قوية الحجة تحت عنوان «في صفوف المعركة»، كذلك عُرضت دعوة كتشنر لحمل السلاح في موضع بارز تحت الشعار الملكي، وبدأت الكلمات الشهيرة «ملكك ووطنك في حاجة إليك» تنطبع في أذهان جميع الرجال بين سن ١٩ وسن ٣٠.

كان وضوحُ إدراك الناس لأخطار الحرب مثيرًا للدهشة؛ إذ تضمَّنت الصحف في المدن الشمالية والوُسطى أنباءً كئيبة عن انهيار الأرصدة والتجارة، وسادتْ لندن حالةٌ من الذعر، وكتبت صحيفة الديلي ميل عن اندفاع الناس لشراء الطعام؛ مما أدى إلى نفاد البضائع في العديد من المتاجر يوم ٣ أغسطس، وذكرت إحدى سيدات لندن في مذكراتها أن «الأشخاص الموسرين» في هذه المدينة «فقدوا عقولهم»: «إنهم يشترون مخزونًا هائلًا من الطعام وكأنهم يتزوَّدون بالمؤن لحصار … سيارات الأجرة مثقلةٌ بالبضائع هذه الأيام … وبعض المتاجر الكبيرة نفد مخزونها من السمك.» ويوم ٤ أغسطس، دعا الرسام أغسطس جون رفيقَه مُلِحًّا إلى جلب «مخزون من الدقيق والبضائع المعلبة والشاي وما إلى ذلك يَكفي لشهر أو اثنين فورًا؛ يبدو أننا سنحتاجه.» عانت الصناعات الريفية والحضرية اضطرابًا، وفورًا أُصيبت الصناعات الرئيسية الثلاث في مقاطعة كورنوول — طين الخزف واستخراج القصدير وصيد السمك — بالكساد؛ ففي يوم ١٢ أغسطس، أشار الكاتب والنجَّار جورج ستيرت إلى الصعوبات التي يواجهها في عمله في مدينة فارنهام بمقاطعة سَري؛ نتيجة تعطل وصول الإمدادات ومصادرة الخيول.

ويروي السجل الزمني لعملية التجنيد قصة تختلف عن القصة التقليدية التي تَحكي عن رجال هبُّوا لتلبية نداء المعركة؛ إذ لم يطلب كتشنر يوم ٧ أغسطس سوى ١٠٠ ألف رجل. وواجه كثيرون صعوبة في اتخاذ قرار سريع حيال كيفية التصرف. وقد ذكر جورج سينجِلز — جندي نظامي كان يعمل في مركز تجنيد وايت هول — أن المتطوعين المتثاقلين كانوا «جميعًا متبرِّمين؛ إذ اضطر معظمهم إلى ترك وظائف جيدة.» وكانت أقل نسبة حضور يومية على المستوى الوطني في يومي ٢٢ و٢٣ أغسطس، حين كان الكثيرون ما زالوا يصدقون أن ١٠٠ ألف رجل هو إجمالي العدد المطلوب. وفي يوم ٢٥ أغسطس، أُعلن أن ذلك الهدف قد تحقَّق تقريبًا.

لم تنشر الصحف سوى القليل من الأنباء السيئة أثناء الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، إلى أن نشرت صحيفة التايمز «رسالة إخبارية من مونس» في ٢٥ أغسطس صَعَقت الأمة؛ كتب صاحب الرسالة آرثر مور: «لقد رأيت حُطام الكثير من الكتائب. ولا بد أن نواجه حقيقة أن قوات الاستطلاع البريطانية — التي تحملت الجزء الأكبر من الضربة — تكبَّدت خسائر فادحة وتحتاج إلى إمدادات فورية وهائلة.» كان لهذه الكلمات تأثيرٌ فوريٌّ؛ ففي ٢٩ أغسطس نشرت صحيفة التايمز طلب كتشنر ١٠٠ ألف رجل إضافي. وعقب يومين تخطى عدد المتطوعين في اليوم الواحد ٢٠ ألف متطوع لأول مرة. أصبح شهر سبتمبر ١٩١٤ أنشط شهور التجنيد ليس في عام ١٩١٤ فحسب، بل خلال فترة الحرب بأكملها. كان متوقعًا تمامًا أن يستغرق الرجال بعض الوقت ليتحولوا من مرحلة الصدمة إلى مرحلة اتخاذ القرار؛ إذ كانت عواقب التطوع على الأفراد والعائلات والمِهَن بعيدة الأثر.

انضم جراهام جرينويل إلى معسكر المدارس الحكومية في سن                        ١٨ عامًا.

انضم جراهام جرينويل إلى معسكر المدارس الحكومية في سن ١٨ عامًا.

كان التهور سمة سائدة إلى حد كبير بين الشباب الصغير السن. أحدهم كان جراهام جرينويل الذي بلغ ١٨ عامًا في ذلك الشهر، وكان قد غادر لتوه مدينة وينشستر معتزمًا التوجه إلى كلية كنيسة المسيح بجامعة أكسفورد في أكتوبر، إلا أنه انضم إلى معسكر المدارس الحكومية في مدينة تيدورث بسهل سالزبري عوضًا عن ذلك. وفي إجازة من التدريب يوم الأحد ذهب لتناول الطعام مع بعض الأصدقاء في حانة دوج آند ويسِل في قرية نِذِر إيفون، ووصف الحدث لأمه قائلًا: «أبدى الجميع وافر الاحترام للبذلة العسكرية.» أما ويلبرت سبنسر فقد التحق بالجيش في لحظة اندفاع بينما كان في طريقه إلى بيته في منطقة هايجايت قادمًا من كلية داليتش. وعندما أدرك والده — الذي كان من أصحاب المهن — إصرار ابنه على ترك المدرسة مبكرًا، أقنعه بحضور دورة تدريب مكثفة في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية. كتب ويلبرت إلى والديه يوم ١٤ أغسطس قائلًا: «كم هي شاقةٌ التدريبات ها هنا.» لكنه كان يرى الحياة هناك «صحية جدًّا وشائقة إلى أبعد حد»، وأضاف أنه بحاجة إلى معطفه المنزلي وأرسل قبلاته إلى أخته الصغيرة. وفي أوائل شهر أغسطس كان لانس سبايسر — البالغ من العمر ٢١ عامًا — يسير في شارع جيرمين بمنطقة وِست إند في لندن عندما دنت منه امرأة و«غرزت دبوسًا في طية صدر سترتي»، نظر لانس لأسفل ليجد «ريشة بيضاء مثبتة عليَّ» (رمز الجُبن)؛ مما عجل بخططه للالتحاق بالجيش.

كانت التكهنات حول مدة استمرار الحرب نادرة في شهر أغسطس. على سبيل المثال، كتب هارولد كازنز في مذكراته يوم ٩ أغسطس: «إنجلترا الآن أصبحت طرفًا فيما سيعرف على الأرجح بالحرب العالمية الأولى لعام ١٩١٤، وربما عام ١٩١٥.» لم يكن مفهوم حرب الخنادق بأسره قد بلغ إدراك البريطانيين بعد؛ فرسائل كلير هاورد إلى خطيبها ريجي ترينش — الذي كان يدرب الضباط في حديقة ريتشموند وساحة ويمبلدون كومون لإعدادهم للقتال في الجبهة الغربية — تكشف عن جهل تام بنوع الحرب القادمة. لم يكن حفر الخنادق قد بدأ بعدُ على الجبهة الغربية. وكانت القوات الاستطلاعية قد بدأت تصل فرنسا يوم ٧ أغسطس، لكن كل هذه الأحداث ظلت خفيَّة على العامة؛ ومن ثم ملأت الشائعات ذلك الفراغ، وساد شعور بأن هذه الحرب تستولي على حياة الناس على نحو بطيء لكن حتمي؛ إذ تقول ليديا ميدلتون — زوجة موظف حكومي — يوم ٢١ أغسطس: «من الصعب تصديق أن هذه الحرب لم تَدُمْ سوى ١٧ يومًا» وتابعت: لقد شعرنا «وكأنها ١٧ أسبوعًا على الأقل.»

كلير هاورد عام ١٩١١، في الثامنة عشرة من عمرها، ترتدي                        فستان حفلة خروجها إلى المجتمع.

كلير هاورد عام ١٩١١، في الثامنة عشرة من عمرها، ترتدي فستان حفلة خروجها إلى المجتمع.

وكلير هاورد — التي كانت تعيش في مدينة أوربنجتن بمقاطعة كنت — كانت على علم بالأنباء المحلية؛ فقد علمت مع حلول يوم ١١ أغسطس بإبحار القوات ليلًا إلى أوروبا من مدينتي دوفر ونيوهافن. في ذلك اليوم أخبرها ريجي أن كتيبة سَري الملكية في بلجيكا قطعًا. كانت كلير تعي جغرافيا الجبهة الغربية النامية من الخرائط التي سرعان ما أصبحت متاحة، وراجعت كذلك قصة معركة ووترلو — التي وقعت قبل ما يزيد على مائة عام — باعتبارها الشاهد الوحيد المتوفر على وقوع نزاع في أوروبا. كانت كلير ترى أنه آنذاك «كان خط المعركة يمتد مسافة ميلين ونصف ميل مقارنةً بمسافة ٢٢٠ ميلًا في الحرب الحالية»، بينما بلغ عدد الرجال المشاركين في هذه الحرب مليون رجل، وليس ٧٢ ألف جندي إنجليزي، إضافةً إلى ٥٢ ألف جندي بروسي وقتها. رغم ذلك خلُصَت يوم ١٤ أغسطس إلى أنها تظن «أن تلك المعركة سوف تبدأ في أي وقت الآن»، معتقدةً أنها قد تكون معركة حاسمة. وعقب ورود أخبار اجتياح الألمان شمال بلجيكا، قدَّرت كلير بفطنةٍ يوم ٢١ أغسطس أنه «لم يعد يفصل قواتنا عن الاشتباك الآن أكثر من يوم أو اثنين، حسب تصوري.» وفي الواقع، شهد اليوم التالي إطلاق الطلقات الأولى قرب قرية كاستو شمال مدينة مونس، وذلك في نزاع قُدِّرَ له أن يستمر أربع سنوات وثلاثة أشهر تقريبًا.

يكمن تَمَيُّز المُراسلات بين ترينش وهاورد — التي تضم ٣٧ خطابًا متبادلًا في شهر أغسطس — في توضيحها رد فعل إحدى العائلات المقيمة في الجنوب الشرقي؛ حيث كانت الأحداث تتوالى بسرعة، تجاه الحرب. كانت كلير بفزعها المبدئي من فكرة تعرُّض خطيبها للخطر تعبِّر عن مشاعر كثير من النساء. وبما أنه كان ضابطًا في فيلق التدريب في إنز أوف كورت، أمَّلت كلير أن يقتصر دوره على إرشاد المجندين، وهو ما علقت عليه متسائلةً: «أذلك جبنٌ مني؟» ومع اندماج ريجي في الحرب أصبح تدريجيًّا أكثر صراحة؛ ففي إطار تشجيعه كلير على عملها مع الصليب الأحمر في أوربنجتن، تنبأ يوم ٦ أغسطس بأنه «ستسقط أعداد كبيرة من الضحايا قبل أن ينقضي الأمر.» وفي غضون بضعة أيام كانت مجموعة من الجنود البلجيكيين الجرحى تتلقى الرعاية في مستشفى يضم ٥٠ سريرًا ساعدت كلير وشقيقاتها في تأسيسه بقاعة المناسبات بقرية أوربنجتن، وصارت تعمل به يوميًّا منذ يوم ١٢ أغسطس.

في تلك الأيام العصيبة مارس الرجال والنساء أدوارهم التقليدية، فتعهدت الإناث على الفور بالرعاية؛ إذ تولت بنات أسرة هاورد إطعام القوات الاحتياطية المحلية في شرق كنت، الذين كان ٩٠ منهم عائدين لتوهم من سهل سالزبري «وقد بلغ منهم التعب مبلغه»، وكان قائدهم «جائعًا جدًّا حتى إن ضلعًا من لحم الضأن لم يكفِهِ.» كان إدجار شقيق كلير قد «انضم إليهم … وقد احتشد جمع ضخم عند محطة القطار لتوديعهم» عندما صدر إليهم الأمر بالتوجه إلى دوفر. كذلك ارتفعت بغتةً قيمةُ الرجولة إلى أقصى حد؛ فقد سُرَّتْ كلير عند معرفة أن ريجي بدأ يطلق شاربه، وعندما رآه السائق في إحدى زياراته إلى بيتها أخبرها بأنه يمتلك «هيئة عسكرية» حقيقية وطلب «صورة له في الزي الرسمي»، وبدأت حُمَّى الزي العسكري تدير رءوس النساء. وقد عَبَرَ هربرت شقيق ريجي القناةَ الإنجليزية في رحلة مندفعة لم تُكَلَّل بالنجاح — بالدراجة النارية — لمساعدة الجيش الفرنسي. ذكر ريجي أن الجنود كانوا قد «ضاقوا ذرعًا بحالهم. بالطبع سيحققون شيئًا إذا انتظروا فترة كافية، لكن الوضع غير محتمَل.» كان متفقًا مع كلير في أن شقيقها والتر — المصاب بالتلعثم — سيجد وظيفته في الشرطة الخاصة «مملة وتتضمن ساعات عمل طويلة»، وأضاف: «ربما يشبه ذلك حال بقيتنا؛ حيث نقضي أيامًا وأسابيع من الروتين لإعداد الأفراد لمهام أخرى.» كان الشعار السائد وقتها «اضطلعْ بدورك.»

استوعب الشعب البريطاني بوضوح حقيقة الحرب نتيجة الاضطراب الذي عَمَّ أنحاء البلاد كافة بصورة أو أخرى، فكان ما دونته بياتريس تريفيوسيس في مذكراتها في لندن يوم ٥ أغسطس هو: «ألغى الجميع خططهم، كل شيء تغير فجأة.» وفي بليموث ذكر دبليو إيفز في خطاب كتبه يوم ٨ أغسطس أنه واجه «شبكة من الأسلاك الشائكة وتحصينات من أكياس الرمل»، بينما لاحظت الروائية فيرجينيا وولف — أثناء زيارتها لمدينة لويس قادمة من منزلها في قرية رودميل — حُرَّاسًا منتشرين في جميع أرجاء المكان؛ مما أعطى انطباعًا بصدور «الأحكام العرفية». وذكر زائرٌ أمريكيٌّ لمدينة لندن رؤية مسيرات القوات الاحتياطية والأحصنة والسيارات المصادرة، و«صفوف طويلة من العربات المحمَّلة بأسلحة المدفعية والذخيرة، والخيول التي تجرها مربوطة في الجوار.» كذلك وزع أُسقُف كنيسة جالوواي صلاة تقام في جميع القُدَّاسات عن المعاناة والاضطراب اللذين تسببت فيهما الحرب، وتحث على الهدوء في مواجهة هذه «النكبة العامة». وفي جلاسجو أجرى توماس ماكميلان وأخوه قُرعةً باستخدام عُملة معدنية؛ لتقرير أيهما يتطوع في الجيش وأيهما يبقى لرعاية والديهما المسِنَّين. كذلك وافق قس في مدينة ليشلايد على انضمام ابنه إلى فرقة البحرية الملكية، واعترف بعد ذلك بأن ذلك القرار سبب له «لوعة شديدة»، ويقال إن الأمهات في قرية ليتل كروزبي بمقاطعة مرزيسايد كُنَّ يوم ٢٥ أغسطس «معارِضاتٍ بشدة لفكرة التطوع في الجيش.»

وقد تبادلت ماري، كونتيسة ويمز، وليدي إتي ديزبرا — كان لكلٍّ منهما ثلاثة أولاد بالغين أو على وشك البلوغ — «حديثًا اتسم بالحزن والجدية» محاولتَين «الاحتفاظ بالهدوء ورباطة الجأش» يوم ٤ أغسطس. كان إيجو ابن ماري قد رحل للانضمام إلى وحدة فرسان جلوسترشير، وفي يوم ٩ أغسطس رأتهم يسيرون في عرض عسكري في الكاتدرائية ودوَّنت في مذكراتها كيف حرَّك المشهد مشاعرها. وبعد ذلك بسنواتٍ ذكرت ماري أنها عندما شاهدت «الوجوه الجادة الهادئة» لأفراد فرقته أثناء الصلاة «وقر في قلبي لأول مرة أنهم ذاهبون للقتال.» كانت تواظب على تدوين مذكراتها منذ أن كانت في السادسة عشرة من عمرها، إلا أنها هجرت الكتابة لفترة قصيرة ذلك الشهر، وهو ما فسرته قائلةً: «يمكن أن أعزوَ ذلك إلى الحرب التي تسببت في قدر هائل من البؤس والأسى والخسائر اللانهائية لأعداد كبيرة جدًّا من الناس حتى لم يعد شيءٌ يهم؛ مع اختلال كل شيء.» وكما كتب رئيس الوزراء هربرت أسكويث إلى زوجته مارجوت في ١٨ أغسطس: لم يعد في وسع أحد تجاهُل حقيقة أن «الستار قد رُفع.»

كان ركوب الخيل في الصباح الباكر عند أطراف منطقة كوستوولد يرفع من روح ماري ويمز المعنوية؛ إذ تصف الريف بأنه كان «ساكنًا ساحرًا؛ حيث امتدت حقول الذرة المتمايلة والمساحات التي يغطيها الضباب، وبدا العالم غريبًا خياليًّا.» نحن نجهل عمومًا كُنْهَ أفكار الشعب البريطاني ومشاعره، لكن في بعض الأحيان نجد لمحةً بليغة تعبر عن بزوغ حس الالتزام الوطني؛ ففي الأسبوعين الأخيرين من شهر أغسطس، أصبح لدى الجميع إدراك، ولو مبهمًا، بأن بعض أبناء وطنهم كانوا في أوروبا آنذاك حاملين السلاح للدفاع عن جزيرتهم. كان الشاعر إدوارد توماس في قرية ديموك بمقاطعة جلوسترشير أثناء شهر أغسطس يقضي وقته في التحدُّث والسير برفقة صديقه الحميم وزميله الشاعر الأمريكي روبرت فروست، وفي يوم ٢٦ أغسطس كتب في مفكرته: «السماء ملبَّدة بغيوم مظلمة ناحية الشمال الغربي … فكرت في الرجال جهة الشرق الذين يشاهدونها في اللحظة ذاتها. يبدو من السخف أني أحببت إنجلترا حتى هذه اللحظة دون أن أدري أنها قد تُدَمَّر وأنا قد لا أفعل شيئًا لمنع ذلك.» حينئذٍ خطرت له فكرة الدفاع عن الأراضي الإنجليزية، التي دفعتْه في النهاية إلى التطوع في الجيش. يتضمن مقاله «إنجلترا وطننا»، الذي نُشِر في نوفمبر، فقرةً محورية جاء فيها التالي: «كل ما أستطيع قوله هو أنه يبدو لي أنني لم أحب إنجلترا قط، أو أحببتها حُبًّا أحمقَ — يقتصر على النواحي الجمالية، مثل العبيد — دون أن أدرك أنها وطني؛ ما دمت غير مستعد للموت عوضًا عن هجرها كما هجر النساء والعجائز والأطفال البلجيكيين بلدهم. لقد كنت غافلًا عن هذه الحقيقة من قبل، وكان من الضروري أن أدرك ذلك قبل أن أستطيع النظر إلى الطبيعة الإنجليزية مجدَّدًا بهدوء نفس …»

وقد انتابت البعضَ مشاعرُ وطنيةٌ مصحوبة بفورة من العزيمة قبل ذلك؛ فعلى سبيل المثال تطوَّع سيجفريد ساسون في الأول من أغسطس — بعد جولة بالدراجة في الريف المشمس بمقاطعة كنت — وارتدى الزي العسكري في الثالث من نفس الشهر. وعن ذلك قال: «إن منطقة ويلد هي العالم الذي قضيتُ فيه طفولتي، وبينما أتأملها الآن أشعر بأني مستعد لفعل ما بوسعي للدفاع عنها؛ فعلى أية حال لطالما ارتُئِيَ الموت في سبيل الوطن كأعظم ما يمكن للمرء القيام به.» وفي الإطار نفسه يقول الشاعر روبرت بروك من مقاطعة واريكشير لأحد أصدقائه يوم ٢ أغسطس: «أعرف قلب إنجلترا، بهوائها الدافئ الحاني العليل وحقولها اليانعة الممتدة أعلى التلال وأسفلها، وطرقها المتعرجة الملأى بالسرور.» وسرعان ما كتب بعد ذلك نصًّا يتضمن سيرته الذاتية، تأمَّل فيه «بقلب يعتصره الألم» غارة شُنَّت على الساحل الإنجليزي. وقد بدأ يستوعب حينها قداسة «تراب إنجلترا» في نظره.

كان بروك يعبر بدقة غير معتادة عن هذه الحالة الذهنية الجديدة التي تملَّكت الأمة، وكان يتسم بالتصميم والإصرار والعزيمة. وقد لخَّص هذه الحالة في خمس سونيتات ألَّفها عام ١٩١٤، تشكلت كلماتها في ذهنه في شهر أغسطس، ودَوَّنَها في أكتوبر ونُشرت في ديسمبر:

عاد الشرف عودة الملوك إلى الأرض

وأجزل لرعاياه العطاء

وعاد النُّبْل يسلك سبُلنا

فظفرنا حينها بالتراث.

من ناحية أخرى، كان الأزواج والأحبة الذين تورطوا في الحرب يحاول كلٌّ منهم باستمرار إثناء الآخر عن إنهاك نفسه؛ فقد استحثَّت كلير ريجي يوم ٣ أغسطس قائلةً: «اغتنم وقتًا للراحة متى استطعت.» بينما عبرت يوم ٢٧ عن تعاطفها معه قائلة: «يؤسفني أنك مضطر إلى العمل يوم الأحد أيضًا، لكني على يقين من أنك سترتاح قدر استطاعتك.» بجانب عمل كلير في المستشفى، بدأت مجموعات العمل التي تنظمها النساء في عائلتها يوم ١٤ أغسطس، وكانت تركز على صنع الصُّدرات وحشوة الجبائر. كان ما يهمهما هو أنهما معًا؛ إذ ألح عليها ريجي قائلًا: «تذكري أني أحب أن أعرف كيف تقضين كل دقيقة من يومك.»

كان الكثيرُ من الناس «يتوقون إلى فعل شيء ما»، كما عبرت أخت كلير لها يوم ١٩ أغسطس؛ لذا اعترفت كلير أنها فوتت حضور مجموعة العمل التالية وذهبت للعب التنس في قرية قريبة. وفي مساء اليوم التالي عادت مجددًا إلى ملعب التنس بعد يوم كامل قضتْه في تنظيف المستشفى. لكن الأخبار التي وردت في عطلة نهاية الأسبوع يومَي ٢٢ و٢٣ أغسطس أورثتْ ريجي — الذي انضم إلى العائلة للعب التنس — إحساسًا بالذنب والقلق، وقال لكلير: «كانت عطلة نهاية الأسبوع التي أخذتها لا تقدر بثمن.» لكن بعد سقوط مدينة نامور بَدَا الأمرُ، على حد قوله، «خطيرًا للغاية، لقد كان رجالُنا يحاربون طوال اليوم بالأمس، يحاربون من أجل حياتهم بكل ما في الكلمة من معانٍ، بينما كنت أنا في بارك هارت متقاعسًا عن أداء واجبي في ذلك اليوم القائظ.»

عاودت كلير ممارسة دور الحامي قائلةً له: «يا حبيبي، لا فائدة من الاضطراب لكون قواتنا تقاتل بينما أنت هنا تكدح في سبيل الجيش نفسه طوال الأسبوع … لتفكر في هذا إذن يا عزيزي ولا تفكر في أن خط القتال هو المكان الوحيد الذي تستطيع أن تسدي فيه نفعًا.» وصارت لعبة التنس — بكل ما تُمثله من دلالات حياة الدعة في المنازل الريفية — نوعًا من المجاز المعبر عن الماضي. وفي ذلك العالم الجديد صار لدى الشباب إدراكٌ عميقٌ لخطورة حالة الحرب التي تعيشها بلادهم، وانغمس الأحباء منهم بحماس في أدوار غير متوقعة؛ فتعلَّم ريجي الصوت القوي الذي يحتاجه في ساحات الاستعراض العسكري، بينما صارت كلير تستمتع بالعمل البدني المتمثل في ترتيب الأسِرَّة وتنظيف العنابر، بل وتأقلمت كذلك مع مشاهدة تضميد الجروح، وهو ما كانت «تكرهه». «لقد أبلت قواتنا بلاءً رائعًا.» هكذا أكدت كلير يوم ٢٦ أغسطس أثناء حالة الارتباك التي صاحبت ورود تقارير متضاربة من الجبهة، ثم أكملت قائلة: «كم أُشفق على من ينتظرون قائمة الضحايا الآن.» كانت تلك أمثلة على الواقع الشخصي الذي فرضتْه الحرب في كنت ولندن خلال شهر أغسطس ١٩١٤.

أطلق روبرت بروك على أُولى قصائده التي تناولت الحرب عنوان «السلام». كان يشعر بالحنين للسنوات الماضية الخالية من الهموم لكنه لا يتحسر على انتهاء السلام:

حمدًا لله الذي ألحقنا بدهره

وأدرك شبابنا وأفاقنا من السبات

بأيدٍ واثقة، ورؤية ثاقبة، وقدرات مشحوذة

لنتحول في حبور سباح يثب في الماء النقي

عن عالم أبلاه الدهر والبرد والسأم.

عبَّر بروك عن الموقف بصراحة تفُوق ما قد يفعله معظم الناس، لكنه ربما كان أفضل مَن لخَّص رد فعل بريطانيا للحرب العُظمى، كما شعر به الناس في أعماقهم. لقد كان ذلك شهرًا استثنائيًّا حقًّا، يختلف عن أي شهر عاشه البريطانيون من قبل، في بلد نشئوا معتقدين أنه «أرض خضراء بهيجة» آمنة من الأخطار.

03 déc, 2015 11:47:12 AM
1