Aller au contenu principal

إنسان دينيسوفان: الإنسان المنقرض الذي شاركنا عالمنا

عاش إنسان دينيسوفان على هذا الكوكب معنا لمعظم تاريخنا، ولكن لم نعرف أنه موجود سوى قبل ستِّ سنوات. تعرَّفْ على النوع الذي يُعِيد كتابة التطوُّر البشري.

لم يتوافر إلا القليل جدًّا لتكوين رأيٍ حول الأمر، فقط قطعة صغيرة للغاية من عظمة إصبع. أيضًا كان من الواضح أن صاحب تلك القطعة كان ميتًا منذ فترة طويلة. كانت تلك قضية من أصعب القضايا التي لم يتم حلها. لكن كانت هناك أيضًا شكوك في أنَّ هناك قصة وراء تلك البقايا البشرية المكتشَفَة في كهفٍ في منطقة عالية من جبال ألتاي في جنوب سيبيريا؛ لذا غلَّفَ مايكل شونكوف — من الأكاديمية الروسية للعلوم — القطعةَ الصغيرةَ، ووضَعَ عليها مُلصَقًا وأرسلَها لتحليلها.

ملحمة إنسان دينيسوفان: علمنا بشأن إنسان دينيسوفان من خلال حفريات له في سيبيريا، ولكن هذا الإنسان القديم ربما نشأ في الشرق الأوسط، وهاجَرَ ناحية الجنوب الشرقي وكذلك إلى الشمال. واليوم توجد جيناته في الغالب لدى الأشخاص الذين يعيشون شرق خط والاس؛ مما يشير إلى أن جنوب شرق آسيا أصبح موطنه الرئيسي.

ملحمة إنسان دينيسوفان: علمنا بشأن إنسان دينيسوفان من خلال حفريات له في سيبيريا، ولكن هذا الإنسان القديم ربما نشأ في الشرق الأوسط، وهاجَرَ ناحية الجنوب الشرقي وكذلك إلى الشمال. واليوم توجد جيناته في الغالب لدى الأشخاص الذين يعيشون شرق خط والاس؛ مما يشير إلى أن جنوب شرق آسيا أصبح موطنه الرئيسي.

كان سفانتي بابو على وشك الانتهاء من تحديد أول تسلسُلٍ لجينوم إنسان نياندرتال عندما وصلَتِ القطعةُ إلى مختبره في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبسيج بألمانيا، وكان الشخصَ المناسب تمامًا الذي كان يمكن أن يؤكِّد شكوكَ شونكوف؛ فمن خلال مقارنة الحمض النووي المستخرَج من قطعة العظمة مع تسلسُل الجينوم الذي حدَّدَه، كان من المفترض أن يوضِّح بابو على نحوٍ مؤكدٍ أن تلك القطعة خاصة بإنسان نياندرتال، لكنهم تفاجئوا جميعًا عندما وجدوا أن جينوم القطعة السيبيرية مختلف تمامًا عن جينوم إنسان نياندرتال، كما أنه لم يتطابق مع جينوم أيِّ إنسانٍ حديثٍ؛ فقد كان شيئًا جديدًا تمامًا. كان هذا دليلًا على وجود أنواع غير معروفة من قبلُ من البشر قبلَ نحوٍ من ٥٠ ألفًا إلى ٣٠ ألف سنة؛ أيْ في نفس الوقت الذي كان فيه أجدادنا يرسمون صورَهم الرائعة في كهف شوفيه في فرنسا. يقول بابو: «كان الأمر مُدهِشًا حقًّا.»

وبَعْد مُضِيِّ ست سنوات، أصبح للنوع الجديد اسمٌ وهو إنسان دينيسوفان؛ وذلك نسبةً إلى اسم الكهف الذي اكتُشِفت فيه بقاياه، ولا يزال يجري تجميع صورتنا لهذا الإنسان الغامض معًا بكلِّ حماسٍ وعنايةٍ؛ فشظية العظمة الأولى تلك — إضافةً إلى سنتين — هي كلُّ ما لدينا لنعتمد عليه؛ فلا يوجد جسد حتى الآن، ولكن ما كشفت عنه هذه البقايا الضئيلة مدهِش؛ فكلما اكتشفنا أكثر أصبحنا مُجبَرين أكثر على إعادة النظر في نوعنا. فبعيدًا عن حقيقة اكتشافه في سيبيريا، كان إنسان دينيسوفان أكثر انتشارًا من إنسان نياندرتال الذي تشارك العالم أيضًا مع الإنسان العاقل. وإنسان دينيسوفان ليس مجرد حالة من حالات الفضول التاريخي؛ فجيناته ما زالَتْ تعيش في بعضنا اليوم، وهو يتحدَّى مفاهيمنا حول ما يعنيه أن تكون إنسانًا (انظر الجزء بعنوان «الإنسانية في ٩٦ جينًا»).

يُسمَّى كهف دينيسوفا على اسم ناسِك يُدعَى دينيس كان يعيش هناك في القرن الثامن عشر، ولكن سكنى البشر هناك تعود إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وذلك كما اكتشف عالِم الحفريات القديمة الروسي نيكولاي أوفودو في سبعينيات القرن العشرين، عندما زار المكان باحثًا عن بقايا دِبَبَة كهوف ووجَدَ أدواتٍ حجريةً قديمةً. ومنذ ذلك الحين كشفَتْ عملياتُ التنقيب عن عدة مئاتٍ من الأدوات التي تكشف عن وجود الإنسان — والتي تمَّتْ على فترات متقطعة — والتي بقيت هناك لمدة ١٢٥ ألف سنة على الأقل. إن الحفريات البشرية نادرة، ولكن بحلول عام ٢٠٠٨، عندما اكتشف فريقُ شونكوف قطعةَ عظامِ إنسان دينيسوفان، اقتنَعَ علماء الآثار بأن الكهف كان مَوْطنًا لإنسان نياندرتال وكذلك الإنسان الحديث البدائي، والإضافة المدهشة لإنسان دينيسوفان إلى هذا المزيج تجعل الموقع كنزًا لكلِّ مهتم بأصول الإنسان. ولكن توجد مشكلة؛ فلم يكن أجدادُنا هم سكان الكهف الرئيسيين، ولكن كانت الضباع وأسود الكهوف ودِبَبَة الكهوف. يقول بنس فيولا الذي يعمل أيضًا في معهد ماكس بلانك في لايبسيج: «الضباع تحفر وتصنع أوكارًا، وهكذا تخلط كلَّ شيء حولها.» وهذا يجعل من المستحيل معرفة متى وصلَتْ كلُّ مجموعة من أشباه البشر وغادرَتْ، أو ما إذا تواجَدُوا في وقتٍ واحدٍ، أو أي مجموعة من الأدوات تنتمي لمَن فيهم.

نتائج الأبحاث التي تمَّتْ على قطعة الإصبع

لحسن الحظ، يوجد بديلٌ للطريقة الأثرية التقليدية؛ فقد شهد العقد الماضي تزايُدًا كبيرًا في الأبحاث حول تحديد الحمض النووي لحفريات الكائنات القديمة، والكثير منها كان بقيادة بابو، وذلك مع اكتشاف علماء الوراثة لكيفية قراءة جينوم حفرية أقدمِ كائنٍ تمَّ العثورُ عليه. وعلى الرغم من أن الحمض النووي يتحلَّل تدريجيًّا، فإنه يفعل ذلك بطرقٍ يمكن التنبُّؤ بها، وبهذا يمكننا معرفة كيف كان التسلسُلُ الأصلي. ويبقى الحمض النووي على حالته على نحوٍ أفضلَ في المناطق الباردة، وفي هذا الصدد كان كهف دينيسوفا مثاليًّا؛ فتطلَّبَ الأمرُ ٣٠ ملليجرامًا فقط من العظام المسحوقة للكشف عن نوعٍ جديدٍ تمامًا.

بمجرد أن اكتشف بابو وزملاؤه إنسان دينيسوفان، كان التحدي الأول هو معرفة مكانه في شجرة العائلة البشرية، فحدَّدَتْ دراستهم الأولى — التي نُشِرت في أوائل عام ٢٠١٠ — تسلسُلَ الجينوم الخاص بالميتوكوندريات؛ وهو حزمة قصيرة من الجينات الموجودة في الميتوكوندريات التي على شكل نقانق، والتي تمدُّ الخلايا الحيوانية بالطاقة. وأشارَتْ تلك الدراسة إلى أن إنسان دينيسوفان كان من الأقارب البعيدين إلى حدٍّ ما لأجدادنا، فقد انفصلَتِ السلالتان قبل وقتٍ طويلٍ من تفرُّعِ سلالة إنسان نياندرتال (مجلة نيتشر، المجلد ٤٦٤، صفحة ٨٩٤). ولكن الحمض النووي هذا يمكن أن يكون مضلِّلًا لأنه يُورَّث من الأم فحسب، ومن أجل الحصول على صورة أفضل، فإنهم يحتاجون لتحديد تسلسُلِ الجينوم داخل نواة خلية.

كانت تلك العملية بسيطة على نحوٍ مدهشٍ. يقول ديفيد رايك من كلية طب هارفرد في بوسطن: «خلافًا لتسلسُلِ جينوم إنسان نياندرتال، حيث كان علينا بذل جهدٍ كبيرٍ جدًّا، فإن جينوم إنسان دينيسوفان كان ذا جودةٍ عاليةٍ نسبيًّا.» وفي غضون أشهر، كان يمتلك هو وبابو مسودة لتسلسل الجينوم، بيَّنَتْ أن مجموعة إنسان دينيسوفان كانت في الواقع مجموعة شقيقة لإنسان نياندرتال (مجلة نيتشر، المجلد ٤٦٨، صفحة ١٠٥٣). وتشير أفضل تقديراتنا الآن إلى أن سلفهما المشترك تفرَّعَ من سلالتنا منذ حوالي ٦٠٠ ألف سنة، ثم انفصَلَ إنسان دينيسوفان عن إنسان نياندرتال بعد ذلك بحوالي ٢٠٠ ألف سنة، وربما انفصَلَا في الشرق الأوسط؛ فتوجَّهَ إنسانُ نياندرتال إلى أوروبا وتوجَّهَ إنسان دينيسوفان إلى آسيا. ونظرًا لمدى حداثة عينة كهف دينيسوفا، فمن المعقول جدًّا أن إنسان دينيسوفان تواجَدَ منذ حوالي ٤٠٠ ألف سنة، أما الإنسان الحديث فقد ظهر فحسب منذ ٢٠٠ ألف سنة.

ولكثرة المعلومات التي قدَّمَتْها شظية العظمة، استمرَّ البحثُ عن مزيدٍ من البقايا. وفي عام ٢٠١٠، كشف تحليلُ حمضٍ نوويٍّ لسِنَّة منسية وُجِدَتْ في كهف دينيسوفا في عام ٢٠٠٠ أنها أيضًا كانت لإنسان دينيسوفان. وفجأةً صار لدينا حفريتان.

يحب علماء الآثار الأسنان؛ لأنها يمكن أن تكشف الكثير عن جسم الحيوان وعاداته، وخصوصًا نظامه الغذائي. كان من المفترض أن تكون العينةُ — التي كانت ضرس العقل الموجود في الجزء الخلفي من الفم — دليلًا مهمًّا، ولكنها كانت محيِّرةً على نحوٍ استثنائيٍّ. كان الضرس ضخمًا؛ إذ كان عرضه يقرب من ١٫٥ سنتيمتر، وهذا يشير إلى أنه بدائي؛ إذ كان لأسلافنا من أشباه القرود أسنان أكبر لأنهم كانوا بحاجةٍ إلى طحن الطعام الخشن مثل الأعشاب، ولكن منذ ٥٠ ألف سنة أصبح البشر يأكلون أطعمة أكثر لينًا وتقلَّصَتْ أسنانهم، فيبدو ضرس إنسان دينيسوفان كأنه عودة لصفات الأسلاف. يقول فيولا: «إنه على الأرجح الأكبر في المليوني سنة الماضية.» ومع ذلك، يظهر في أشباه البشر أشخاص يمتلكون أسنانًا غير عادية من حين لآخَر، وضروس العقل هي الأكثر اختلافًا في الفكِّ؛ لذلك من الممكن أن يكون هذا الضرس الضخم مجرد شذوذ من نوعٍ ما.

بعد ذلك، اكتشَفَ علماءُ الآثارِ في كهف دينيسوفا في أغسطس ٢٠١٠ سِنَّةً كبيرة أخرى، اعتقد فيولا — والذي كان حاضرًا — أنها خاصة بدبٍّ، ولكِنْ أَظْهَرَ التحليلُ الجينيُّ أنها خاصة بإنسان دينيسوفان. كان ضرس عقل أيضًا، على الرغم من أنه ضرس لفرد مختلف؛ مما يؤكِّد أن الضرس الأول كان عاديًّا. يقول فيولا: «يعني هذا — على الأرجح — أنَّ إنسان دينيسوفان عمومًا كانت لديه أسنان غريبة وكبيرة.»

وهذا يشير إلى نظام غذائي نباتي مليء بالألياف، ولكن لا نزال نفتقد الأدلة على هذه الفكرة. أحيانًا تحتفظ الأسنان القديمة ببقايا الطعام على سطحها، ولكن ليس في هذه الحالة؛ فقد حاوَلَ فيولا استخلاصَ الحفريات الدقيقة النباتية والحمض النووي الخاص بها، ولكن دون جدوى. وصَنَعَ فريقُهُ الآن قالبَيْن للضرسين ويخطِّطون لإعادة بناء الخدوش أو «التآكلات الدقيقة» الناجمة عن المضغ، التي ينبغي أن تقدِّمَ فكرةً أفضلَ عمَّا كان إنسان دينيسوفان يأكله.

يمكنك استنتاج الكثير عن نمط الحياة من النظام الغذائي، مثل ما إذا كان الأشخاص يصطادون ويحفرون للحصول على الجذور والدرنات، وما إذا كانوا تعلَّموا استخدام النار للطبخ أم لا. وبالتأكيد لدى الأسنان الكثير مما تخبرنا به. في الوقت نفسه، كشف الجينوم النووي بالفعل سرًّا آخَر عن إنسان دينيسوفان؛ سرًّا يُغَيِّر كلَّ شيء.

عندما نشر بابو ورايك أول جينوم لإنسان نياندرتال، كانت الأخبار المثيرة هي أن ١٫٧ بالمائة من الحمض النووي لدى الإنسان المعاصر في المتوسط بخلاف الأفارقة تأتي من إنسان نياندرتال، بعبارة أخرى، تزاوَجَ أسلاف الجنسين. السؤال: هل تزاوَجُوا أيضًا مع إنسان دينيسوفان؟ لمعرفة ذلك، درس علماءُ الوراثة الأجزاءَ القليلةَ من الجينوم البشري التي تختلف من شخصٍ لآخَر؛ بحثًا عن الأفراد الذين يحملون نسخًا من هذه الأجزاء من إنسان دينيسوفان. لم يحمل معظمُ الأشخاص الذين تمَّ فحصُهم أية علامةٍ على حمضٍ نوويٍّ من إنسان دينيسوفان، حتى لو كانوا من البر الرئيسي لقارة آسيا؛ حيث من المتوقَّع أنَّ أسلافنا تقابَلُوا مع إنسان دينيسوفان. ومع ذلك، باعتباره جزءًا من دراسة إنسان نياندرتال، حدَّدَ الباحثون تسلسُلَ الجينوم لشخصٍ ما من بابوا غينيا الجديدة. يقول رايك: «كان ذلك اختيارًا عرضيًّا؛ فعندما تمَّ تحليلُ تسلسل جينوم هذا الشخص، وجدنا فجأةً هذا التشابُه الكبير.» وأظهر المزيدُ من المقارنات أن أشخاصًا آخَرين من الميلانيزيين كانوا أيضًا يحملون حمضًا نوويًّا من إنسان دينيسوفان، بمتوسط ​​٤٫٨ في المائة من الجينوم الخاص بهم من إنسان دينيسوفان.

من الواضح أن التزاوُجَ حدَثَ، ولكن إذا كان إنسان دينيسوفان قد عاش في جنوب سيبيريا، فكيف وصَلَ حمضُهُ النوويُّ إلى ميلانيزيا على بُعْد آلاف الكيلومترات عَبْرَ أعالي البحار؟ التفسير الأكثر وضوحًا هو أيضًا الأكثر إدهاشًا؛ انتشر إنسان دينيسوفان فوق رقعةٍ شاسعةٍ من البر الرئيسي لقارة آسيا، وكذلك عَبَرَ البحرَ وصولًا إلى إندونيسيا أو الفلبين، وهذا يعني أن انتشاره كان أكبر من انتشار إنسان نياندرتال. والبديل عن ذلك أنه ربما تزاوَجَ مع الإنسان الحديث في البر الرئيسي لقارة آسيا، ثم انتقَلَتِ الذرية الناتجة في وقتٍ لاحقٍ ناحيةَ الجنوب الشرقي، دون تَرْكِ أي أثرٍ على البر الرئيسي؛ وهذا يعني أن إنسان دينيسوفان لم ينتشر على نطاق واسع مثل أسلاف الإنسان الآخَرين.

لمعرفة أيٍّ من الافتراضين السابقين هو الافتراض الصحيح، تعاوَنَ رايك مع مارك ستونكينج من معهد ماكس بلانك في لايبسيج من أجل تحديد تسلسُلِ الجينوم للشعوب الأصلية في آسيا وإندونيسيا والفلبين وبولنيزيا وأستراليا وبابوا غينيا الجديدة، ففكَّرَا أنه إذا كان التزاوُجُ قد حدث على البرِّ الرئيسيِّ في قارة آسيا قبل أن يسكن الناس الجُزُر، فإن الأشخاص الموجودين على جميع تلك الجُزُر يجب أن يحملوا بعضَ جينات إنسان دينيسوفان. ولكن إذا كان إنسان دينيسوفان وصل إلى الجُزُر وتزاوَجَ مع البشر الموجودين بالفعل هناك، فربما يوجد بعض السكان المنعزلين الذين لا يحملون جينات إنسان دينيسوفان، واكتشَفَا وجود النمط الأخير. يقول رايك: «كانت جُزُر جنوب شرق آسيا قبل ٤٥ ألف سنة تتضمَّن خليطًا من السكان من سلالة إنسان دينيسوفان أو من غيرها، وهذا يعني أنه من غير المحتمل حدوث التزاوُج في البر الرئيسي.»

وبهذا يخبرنا علمُ الوراثة أن إنسان دينيسوفان تزاوَجَ مع الإنسان الحديث البدائي في مكانٍ ما فيما يُطلَق عليه الآن جنوب شرق آسيا. إذا كان ذلك صحيحًا، فإنه كان مُستعمرًا عظيمًا؛ فقد انفصَلَ عن إنسان نياندرتال فيما يبدو في منطقة الشرق الأوسط وانتشر في الشمال نحو سيبيريا، وفي الشرق نحو إندونيسيا ونحو ميلانيزيا. وفي طريقه، كان عليه عبور أحد أكبر الحواجز الطبيعية على الأرض؛ خط والاس، والذي يمتدُّ عَبْرَ مضيق لومبوك — وهو قناة بَحْرية عميقة تفصل بين الجزيرتين الإندونيسيتين بالي ولومبوك — ويتسم بالتيارات الشديدة.

من المغري أن نستنتج أنه لا بد من أن إنسان دينيسوفان كان بحَّارًا ماهرًا، ربما يقود زوارق شجرية، ولكن عمليات العبور ربما كانت من قبيل الصدفة، كما يشير كريس سترينجر من متحف التاريخ الطبيعي في لندن، فيشير إلى كارثة تسونامي في آسيا في عام ٢٠٠٤ قائلًا: «عُثِرَ على أشخاص يركبون أطوافًا شجريةً بعد أسبوع في وسط البحر على بُعْد ١٥٠ كيلومترًا من مكان بداية تحرُّكهم.» ويقترح سترينجر أن إنسان دينيسوفان عاش في مستنقعات المانجروف بالقرب من الشاطئ؛ حيث كانت الأطعمةُ البَحْرِيَّة وفيرةً، ولكنه كان أيضًا عرضة لأمواج تسونامي، والتي ربما نقلته مع نباتات المستنقعات الطافية نحو البحر وأنزلته عن طريق الصدفة على جزيرة أخرى. ويقول: «حسنًا؛ لا بد من حدوث ذلك عدة مرات لكي ينتقل من جزيرة سولاويسي إلى جزيرة فلوريس، ولكن نظرًا لمرور مئات الآلاف من السنين، فإن ذلك ممكنًا.» ويضيف أنه إذا كان إنسان دينيسوفان قد انتقَلَ على نحوٍ واضحٍ بسرعة من جزيرةٍ إلى أخرى، فإنه سيوجد سببٌ للافتراض أنه استخدم الزوارق.

خلال العصر الجليدي الأخير، منذ ما يتراوح بين ١١٠ آلاف سنة و١٢ ألف سنة، كان يمكن أن يكون جنوب شرق آسيا مكانًا جيدًا للعيش على نحوٍ خاصٍّ؛ فبدلًا من الغابات الوارفة، كانت توجد مساحات عشبية مفتوحة، واحتجز الجليدُ الموجودُ عند القطبين الكثيرَ من الماء، وخفَّضَ مستويات سطح البحر بمقدار عشرات الأمتار؛ ونتيجةً لذلك كانت جزيرتا سومطرة وبورنيو جزءًا من البر الرئيسي للقارة (انظر الشكل). يقول سترينجر: «في أوقات انخفاض مستوى سطح البحر، كانت توجد قارة بأكملها ظاهرة في جنوب شرق آسيا، التي تكون جافة ومثالية لمَن يعيشون على الصيد وجمع الثمار عندما تكون الأجواء باردة نسبيًّا.» ويعتقد سترينجر أن قصة إنسان دينيسوفان التي لدينا معكوسة؛ إذ ربما تعود تسميته إلى كهف في سيبيريا، ولكن هذا لم يكن مكان سكنه المعتاد، ويضيف قائلًا: «كان جنوب شرق آسيا مركز عيشه، ولكنه كان يتنقَّل، وعندما كانت الظروفُ جيِّدةً توسَّعَ شمالًا، وعندما أصبحَتِ الظروفُ سيئةً انقرض أو اختفى.».

كانت البقايا البشرية في كهف دينيسوفا قليلةً للغاية، بسبب أنَّ تواجُدَ إنسان دينيسوفان في هذا المكان كان قليلًا للغاية «ربما تكون سيبيريا هي الحد الخارجي لنطاق معيشته.» في الحقيقة، الحمض النووي لدى الميلانيزيين المعاصرين — على الرغم من أنه الحمض النووي لإنسان دينيسوفان على نحوٍ واضحٍ — يختلف عن ذلك الخاص بعينات سيبيريا؛ مما يشير إلى أن الشماليين كانوا مقيمين بعيدًا عن موطنهم الرئيسي. الأكثر من ذلك هو أنَّ نسخةً عاليةَ الجودة من جينوم إنسان دينيسوفان — نُشِرَتْ في عام ٢٠١٢ — تكشف أشكالًا متغيِّرة من الجينات ترتبط — لدى البشر — بالبشرة الداكنة والشعر البني والعيون البنية؛ وهو ما يتفق مع ملامح الميلانيزيين اليوم.

إذا كان الموطن الرئيسي لإنسان دينيسوفان هو جنوب شرق آسيا، فإن هذا هو المكان الذي يجب أن نبحث فيه عن الحفريات الخاصة به، وربما حتى لا يكون من الضروري التنقيب عن أدلةٍ جديدةٍ؛ فالعديد من عينات أشباه البشر من هذه المنطقة لم تخضع للتحليل، فربما توجد حفريات إنسان دينيسوفان جيِّدة قابعة في أدراج المتاحف، مصنفة على نحوٍ خاطِئ على أنها تنتمي لأنواعٍ أخرى، ولكن إثبات هذا سيكون تحديًا؛ لأن الحمض النووي يتحلَّل بسرعة في المناخ الحار والرطب. مع ذلك، يُنشِئ بابو مختبرًا جديدًا في بكين بالصين؛ حيث سيحاوِل الباحثون استخراجَ الحمض النووي من الحفريات الآسيوية. ويقول فيولا: «أملنا الكبير هو الصين.» ومع ذلك، يبحث أيضًا في البلدان الأكثر برودةً والتي منها أوزبكستان وقيرغستان.

حتى الآن، لم يصل كلُّ هذا إلى شيء؛ فبالطبع تتمثَّل إحدى المشكلات في أننا لن نعرف شكلَ إنسان دينيسوفان حتى نجد واحدًا. من الناحية النظرية، يمكن أن يوفِّر الجينوم دلائلَ، ولكن عمليًّا حتى بالنسبة للأشياء البسيطة مثل الطول تتحكم فيها المئات من الجينات. وجاء أحد الدلائل من مصدر مثير للدهشة؛ ففي أواخر عام ٢٠١٣، حصل فريق بابو على حمض نووي من عينة من حفرية لإنسان هايدلبرج وُجِدَتْ في كهفٍ في شمال إسبانيا. ويُعَدُّ جينوم هذه العيِّنة أقدم جينوم لشبه إنسان يُحدَّد تسلسلُه على الإطلاق — إذ إن عمره ٤٠٠ ألف سنة — وكان مماثِلًا لجينوم إنسان دينيسوفان. وفضلًا عن دعم فكرة أن إنسان هايدلبرج كان السلف المشترك لإنسان دينيسوفان وإنسان نياندرتال، فإن هذه العيِّنة — والعينات التي وُجِدَتْ معها — ربما تشير إلى بنية ذريتهم. يقول فيولا: «هؤلاء أشخاص كبار وأقوياء؛ حيث تبلغ تقديرات كتلة جسم الواحد منهم حوالي ١٠٠ كيلوجرام.» مما يوحي بأن إنسان دينيسوفان كان كبير الحجم أيضًا.

إننا لا نعرف متى انقرَضَ إنسان دينيسوفان، ولكن حوالي ٤٠٠ ألف سنة من التطوُّر، فضلًا عن التزاوُج مع البشر، ربما تُغَيِّر من مظهره الجسماني. ولمزيد من تعقيد الأمور، اتضح أنه تزاوَجَ مع إنسان نياندرتال أيضًا بعد فترة طويلة من الانفصال عن سلفهما المشترك المحتمل إنسان هايدلبرج. قارَنَ بابو ورايك مؤخرًا حمضًا نوويًّا من عظمة إصبع قدم إنسان نياندرتال تمَّ اكتشافها في كهف دينيسوفا، بحمض نووي من حفريات أخرى لإنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفان والإنسان الحديث؛ جاءت نسبة ٠٫٥ بالمائة على الأقل من جينوم إنسان دينيسوفان من إنسان نياندرتال. كما تزاوَجَ إنسان دينيسوفان أيضًا مع مجموعةٍ مجهولةٍ، ربما آخِر ما تبقَّى من إنسان هايدلبرج.

من المرجح أن تتواصَلَ الاكتشافات. ففي وقت سابق من هذا العام، تبيَّنَ أن الجينات التي ورثناها من إنسان نياندرتال تؤثِّر على البشرة والشعر، وتجعل الناس أكثرَ عرضةً للإصابة بأمراضٍ معينةٍ منها مرض السكر من النوع الثاني. وينشغل الآن فريق رايك بتحديد تسلسُلِ جينوم المزيد من الميلانيزيين لمعرفة — على وجه التحديد — جيناتهم التي تأتي من إنسان دينيسوفان. وإضافةً إلى الإشارة إلى ما تفعله هذه الجينات اليوم، فربما تكشف عن بعض طرق تكيُّفِ إنسان دينيسوفان مع بيئته الآسيوية، بما في ذلك الأمراض المحلية التي طُوِّرَ مقاوَمَةً لها.

كشفَتْ قطعةُ عظمة الإصبع الأولى كميةً ضخمةً من المعلومات الجينية، ولكن توجد أسئلة أساسية لا يمكنها الرد عليها. على سبيل المثال، هل كانت القدراتُ العقلية لإنسان دينيسوفان بسيطةً نسبيًّا مثل تلك الخاصة بأسلافه من إنسان هايدلبرج، أم كان يمتلك قدراتٍ عقليةً أعلى مثل إنسان نياندرتال والإنسان الحديث البدائي؟ لا يستطيع تحليلُ الحمض النووي الإجابةَ على هذا السؤال؛ لأننا لا نفهم التغيُّرات الجينية التي صنعت الإنسان الحديث، ولكن الجمجمة ذات القِحْف الكبير أو الصغير يمكن أن تخبرنا؛ لذلك يبقى التحدي الأكبر، الذي يتمثَّل في العثور على جسدٍ لإنسان دينيسوفان. ويقول رايك: «إنسان دينيسوفان هو جينوم يبحث عن حفرية.»

الإنسانية في ٩٦ جينًا

إنَّ اكتشافَ أن أسلافنا عاشوا جنبًا إلى جنبٍ مع إنسان دينيسوفان، وأن بعض جينات هذا الإنسان توجد لدى الإنسان الحديث؛ يتحدَّى طريقةَ رؤيتنا لأنفسنا. فمن الواضح الآن أن الإنسان الحديث هو نتاج خليطٍ من الأنواع التي تطوَّرَتْ على نحوٍ منفصلٍ ثم تزاوَجَتْ، ولكن دراسة إنسان دينيسوفان ينبغي أن تساعدنا أيضًا في الإجابة عن سؤالٍ عميقٍ: ما الذي يجعلنا بشرًا؟

أقرب أقاربنا الأحياء هم قرود الشمبانزي، فقد تطوَّرْنا تطوُّرًا كبيرًا منذ وقت سلفنا المشترك، منذ أكثر من ستة ملايين سنة، ولكننا لا نعرف التغيُّرات الجينية التي حدثَتْ عندما كنَّا لا نزال من أشباه القرود، التي دفعتنا لكي نصبح بشرًا كاملين. ولمعرفة ذلك، نحتاج إلى معرفة طريقة اختلافنا عن الأنواع المنقرضة من أشباه البشر التي كانت موجودةً بينما كنَّا نخطو تلك الخطوات في طريق تطوُّرنا. يقول سفانتي بابو من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبسيج بألمانيا: «إن إنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفان معًا هما أقرب أقاربنا من الناحية التطورية، وهما النوعان اللذان نحتاج إلى بحثهما.»

بطاقة تعريف للإنسانية

بمقارَنة الحمض النووي للإنسان الحديث وإنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفان والشمبانزي، اكتشَفَ بابو ٩٦ طفرةً وراثيةً وظيفيةً — وهي طفراتٌ تغيِّر البروتينات التي تنتجها الجينات — فريدة من نوعها لدى الإنسان الحديث، ولا نعرف في معظم الحالات ما تفعله هذه الطفرات، ولكن تشارَكَ ثلاث منها في انقسام خلايا المخ؛ مما يشير إلى أنها ربما لعبَتْ دورًا في تعزيز قدراتنا العقلية. في الواقع، حدَّدَ بابو قائمةً من الجينات التي كانت حاسمةً في المرحلة الأخيرة من تطوُّرنا، وعندما ندرك الاختلافات التي تقدمها للوضع النفسي والعضوي والكيميائي الحيوي لدينا، سوف نحصل على رؤى جديدة حول تطوُّرنا.

إذا كان الاكتشاف غير المتوقَّع لإنسان دينيسوفان قد أخبرنا بشيء، فهو أنه لا يزال يوجد الكثير مما نتعلمه عن التطور البشري. فبرغم عقودٍ من البحث، غابَ عنَّا نوعٌ بأكمله كان يعيش نسبيًّا في وقتٍ حديثٍ وكان واسعَ الانتشار جغرافيًّا. وبالنظر إلى ذلك، من السهل أن نتوقَّع حدوثَ المزيد من المفاجآت في السنوات القادمة.

21 déc, 2015 02:42:21 PM
1