ناريمان علوش في: "امرأة عذراء": عناق الشعري والسردي والتماهي الدلالي
تشارفُ الكتابة بعديها السردي والشعري لتلامس مختلف الآفاق القريبة من التعبيرية اللغوية ، فالسرد فضاء مفتوح على أشكال كتابية متعددة، وهو لا يوجد فحسب في القصة والحكاية والرواية ولكن في مختلف الفنون، ثمة سرد كامن في مفاصل أية كتابة وأي فن، أما الشعر فهو الفضاء الآخر المخايل الذي يقتطف ويومئ ويشير ويرمّز ويكثف، ويعطي طاقاته بلغة خلال لغة – بحسب بول فاليري- أو هو: كيفية خاصة في التعامل مع اللغة بحسب الناقد الدكتور عبدالمنعم تليمة. إن الكتابة عبر هذين الفنين بدأت في التماهي والتقارب، ونحن مؤخرا بدأنا نصغي لمفهوم : السرد الشعري، والشعر السردي بنوع من التقبل الجمالي . وهذا التداخل والتماهي والتقارب تحققه ناريمان علوش.
فبشكل ما يتضامن مع هوية الكتابة العربية، وهوية الجغرافيا، تستهل ناريمان علوش ديوانها الشعر- سردي :" امرأة عذراء" ( دار المحجة البيضاء، بيروت، ط1 –2016) مؤكدة على أن قلمها لا ينتمي لفئة أو " يكتب بعنصرية" مع إشارتها إلى أن حروفها هي وجهها الدلالي وهي نتاج مكابدة وألم:" حروفي أكتبها بقطرات دمي" . الشاعرة تتمسك بدئيا بشرط كتابي يتجلى في أن القصيدة انعكاس للهوية، ولهذا سوف تغمرنا عند القراءة أطياف من الأنا، ومن الذاتية الباحثة عن هويتها في عالم متلاطم تتضارب فيه الهويات وتتصارع وتتصادم: " عنوان قصيدتي يعكس هويتي، وبين سطورها رسائل غامضة ومخفية" .
هي إذن كتابة الالتزام، وكتابة الرؤية المحددة. إنها تدخل إلى فضاءات نصوصها بوعي مسبق، وتترك حالات الاكتشاف إلى ما تنهض به لحظة الانفعال أثناء الكتابة.
يتضمن الكتاب/ الديوان، (11) نصًّا قصصيًّا: (موعد مع الحب، قلم امرأة عاشقة، امرأة عذراء ، الأماني المعلقة، دولة النساء، دعوة صلاة، رجولة بلا ملامح، حوار مع النور، مائدة الحب، سعاد، فريسيا ).
كما يحتوي على ( 12) نصًّا شعريًّا : (التعلق والعبودية، العتاب الصامت، جنون المطر، أوبرا العشق الأزلي، رجل من دخان، احتلالي بك، شهوة قبلة، أنقاض ذكريات، رسالة زوجة حاقدة، كم صعب عليك أن تفهم، نداء الجسد، موعد مع الوداع ).
بالإضافة إلى نص المستهل المعنون ب:( قلمي ليس له عنوان ولا هوية) الذي أعده تقديما أو تعريفا أو بيانا بهوية الكتابة لدى ناريمان علوش ، ولا يندرج تحت مسمى الشعر أو السرد القصصي.
حضور الآخر
يحضر الآخر بشكل جلي في نصوص الكتاب، كأن معظم نصوص الكتاب بمثابة انفتاح وتراسل جمالي مع آخر وجداني. النصوص تعبر عن الحب والقطيعة، عن الغياب والحضور، عن الحلم أحيانا، وعن قيم الحب في بعديها الإيجابي الوصال والحضور والتألق العاطفي والإيروسي، أو السلبي: الغياب، والهجر، والقطيعة وهنا يصبح التذكر والحلم طرفي دلالة يتم التعبير عنهما دائما، ويصبح البحث عن لقطة جمالية أفق يساور المخيلة:
أشتهي قبلة تذيب جليد شهوتي
فتغري أنوثتي
وبكل أحاسيسي تنطلق / ص 59
فالآخر حاضر بالضرورة في أغلب تجليات النصوص :
دعني أنتشي بك
أتذوق عطرك
فما عدتُ أتقن سوى لغتك
أريد أن أسكن معطفك
ليكون لي حرية خلعه عنك
وبث ذبذبات عشقي. / ص.ص 81-82
وفي قصة : ( حوار مع النور) تركز ناريمان علش على الأحلام ، وتستهل ب:" وحدها الأحلام توقظ أمانينا المنسية، وتدعو رغبات ذاكرتنا المدفونة لتعقد عليها الحلم، فتستحضر ما اعتقدنا أنه مات فينا لتبعث الحياة من جديد" / ص 65
ولا أريد أن أتوسع هنا في استقصاء آلية الحلم التي تحضر في عدة نصوص، كما أن التطرق للأفق السردي – الشعري في نص :" امرأة عذراء" الذي تعنون المجموعة به، ونص " فريسيا" الطويل يحتاج لمقام آخر للقراءة لابتكار دلالاته المتعددة.
في :" دولة النساء " تقول سرديا: لماذا نصطاد في قاع البحر طالما أن الشاطئ مليء بالثروات والأصداف؟ ابحثي عن الثروة في داخلك فهي حتما موجودة في أعماقك أنت " / ص 38 مقدمة خلاصة الرؤية السردية كمفاتيح للخلاص النسوي من سطوة الرجل. لكن بعض النصوص في المجموعة تعاني من الرؤية المقالية التي يمكن للكاتبة أن تتخلص منها في وعي إبداعي قادم.
السردية والشعرية
حقيقة القول : إن السردية تغلب لدى الشاعرة على الشعرية، ذلك لأن القصص التي يتضمنها الكتاب تعانق بين لغة الحكي المباشرة التي تقود إلى حدث ما وبنية حكائية ما، وما يجترحه الوصفي من طاقة شعرية هي ليست هدفا شعريا بالضرورة، ولكنه هدف يخدم القصة، ويضع إشارات مشعرنة في كثير من الجمل التي تستدعي ذلك.
على اليقين، إن الشاعرة لا تدلي كثيرًا بفعل شعري جمالي مختلف، حيث تهيمن الجمل الإنشائية، والتعبيرات المكتوبة بشكل مبسط مباشر، إذ إن الجملة الشعرية تعتمد أمورًا أعمق استعاريا وتبحث في أسئلة ورموز ، وتؤسطر الكلمات وتصدمها ناسجة إياها في علاقات مغامرة جديدة.
بيد أن سؤالا قد يلح هنا: هل بالضرورة أن يظل الشعر في دائرة العمق والرمز والأسطرة والاستقصاء؟ وما حال الكتابات التي تصبو للاقتراب أكثر من القارئ العام، وتسعى لتبسيط مختلف التعبيرات كأنه بدء جديد خاصة فيما تشهده هذه المرحلة التي نعيشها من تبسيطات أسهمت فيها أدوات التقنية وعصر الاتصال؟
من الجلي إن وجاهة السؤال هنا قد تقودنا لأجوبة متعددة، بيد أن القول الشعري في التحليل الأخير هو قول مختلف على أية حال بسياقه الجمالي وبمكونات جمله وقصدها، مهما بلغت حدة مباشرته وسعيه إلى التوصيل . هناك أمور جوهرية وأساسية من الصعب التنازل عنها فنيا وإبداعيا، وإلا لصار المستوى النثري البسيط لكلامنا اليومي شعرا.
مع ذلك تسعى الشاعرة لالتقاط مشاهد تقترب من سفوح الشعر وأحيانا من تلاله العالية .
ناريمان علوش في مكنتها أن تصل لعبارات شعرية دالة، وفي استطاعتها أن تتبصر أكثر بالحواف الشعرية التي يمكن لها أن تشكل عالما شعريا متميزا، ففي نص :" العتاب الصامت" نقرأ تميزا ما مقارنة بالنصوص الأخرى:
" ينتشر الصمت في هواء جلستنا، وحده السكون يتكلم، والقلوب بصمت تتألم، شرود يختصر آلاف الكلمات، وعتاب يتأرجح بين النطق والكتمان، كأس الخمر يلامس شفاهنا ليستمع لما نكتمه ونخفيه، فنتمنى لو أنه ينطق بألسنتنا الخرساء، ويبوح بآلامنا المخفية والمقنعة برداء فقير، باهت وممزق" / ص 39
وهناك مؤشرات أخرى على قدرة الشاعرة على صياغة جملها الشعرية حين تلجأ مثلا إلى توظيف التشبيه، حين تشبه عيني العاشق بالقصيدة واللحن، وأفق النحت فتقول عن العينين:
أكتبهما قصيدة وأغنيهما لحنا
كسمفونية مشردة
كنحات أعمى
وعازف أصمّ
في أوبرا أرستقراطية
ونوتات موسيقية / ص 43
وقد تلجأ للسؤال:
" أي رجل هو أنت لتكتشف شيفرتي وأرقامي
تحملني في سحب دخانك؟ / ص 47
أو للتعبير المستقبلي المتأمل:
سأجرد نفسي من كل شيء
فتحتلني أنت
لتستوطن أجزائي وأعود ممتلئة بك " / ص 50
أو للنداء:
أيها الغريب عني ارحل مني
فما عاد يعنيني رجوعك ولا إيابك / ص 69
من هذه الآليات التعبيرية المستخدمة تتولد شرارة الشعر وتنبثق، لأن الشعر انحراف عن المعهود الكلامي، ودعوة مطلقة للتساؤل والتأمل، وبحث عن غير المعهود، وهذا الأمر يتطلب التخلص من الجمل المباشرة، ومن لغة الإنشاء إلى لغة الكثافة، وكتابة الحذف لا كتابة الاستطراد، وانطلاقا من مثل هذه التعبيرات يمكن للشاعرة الانطلاق إلى آفاق أرحب وأبعد في عمق الشعر. كما يتجلى ذلك مثلا في نص:" كم صعب عليك أن تفهم" وفيه رصد للقطات شعرية ومشهدية تعطي إحساسا ما بقيمة القصيدة وقيمة أن تسعى للاختلاف:
كل أشيائك مازالت تواسيني
فأتلمسها
أكلمها
وأنفض عنها غبار غيابك
هاتفي الصامت
أيامي الخالية منك
مساءاتي التي يتلحفها السكون
طاولتي التي تفتقد لباقة ورودك
قارورة عطرك التي كسرتها يد الحرمان
مناشفك .. قمصانك
جدران غرفتك
كلنا
أنا وأشياؤك . / ص.ص 74-75
كما يمكن أن تقودنا لشعرية حقيقية حين تركز أكثر وتكثف كلماتها كما في هذا المشهد:
هناك
على رصيف الأمكنة المجنونة
فقدنا صواب قلبينا
وغدونا أسطورة باهتة
يفوح منها الماضي عطرًا معتّقًا
في مؤونة الذكريات المنسية / ص 111
وفي الأفق السردي عند ناريمان علوش نقرأ أبعادا سردية شائقة، خاصة وأنها تركز على الفضاء النسوي بالتعبير عن المرأة وقضاياها وشؤونها وشجونها، وعلاقتها مع الآخر، في أغلب صفحات الكتاب ، وهي تقدم ذلك بلغة مقالية أحيانا، وبلغة سردية مبتكرة أحيانا أخرى توظف فيها الأسطورة بشكل دال كما في نص:" مائدة الحب" الذي تستثمر فيها أسطورة : افروديت وإيروس للتعبير عن حالة وجدانية متقدمة في مجال الحب :" أما إيروس ذلك الإله البريء ذو الجناحين الصغيرين، فيقف بقوسه وسهامه، منتظرا الإشارة الأولى لإلقاء سهمه الأول، إلى أن أغراه تلذذي بمذاق الحب، فأحكم تصويبه وغرس سهمه في قلبي، لأصبح وجبة دسمة يتناولني الحب بفنية طاهٍ احترف الطبخ على نار هادئة" ./ ص.ص 77-78
مجموعة ناريمان علوش التي تجمع بين السردي والشعري، تجربة كتابية تضيء مكامن الحكي فيما تنور مكامن الشعر، وهي تصبو إلى بسط رؤية تعبيرية يتعانق فيها الشعري والسردي، أفلحت الشاعرة في تقديمها بشكل زاه في بعض النصوص، لكن الفضاء الإبداعي ما يزال يتوامض من بعيد محدقا في الأخيلة الجديدة التي ستتعمق رؤاها في الجديد الواعد.