Aller au contenu principal
رواية باسم مستعار عن سجون عبد الناصر

الكتابة الثنائية ليست شائعة باللغة العربية. صدور رواية «تحدي الآلهة» مترجمة عن الفرنسية باسم محمود حسين، الذي يخفي وراءه اسم كاتبين مصريين مقيمين في فرنسا تشاركا في رواية القصة، يفتح الباب أمام القارئ لتقصي تجربة أدبية ليست فريدة بطبيعة الحال، لكنها لافتة حين يتعلق الأمر بما يشبه سيرة ذاتية وجدانية تمس المشاعر ويتخللها الخيال ليشد خيوطها. هو العمل الأدبي الأول لعادل رفعت وبهجت النادي، سبقته كتب فكرية ومسار نضالي واحد، منذ التقيا في لجنة متابعة لمؤتمر باندونغ الذي عقد عام 1955 في إندونيسيا وجمع قادة دول عدم الانحياز.

كانا ضمن الشباب الماركسي اليساري، فيما كان عبد الناصر يذهب، حسب رأيهما، باتجاه إرساء ديكتاتورية، لن تسمح مجالاً لأحد بالاختلاف أو حتى إبداء وجهة نظر. في السجن عام 1959 سيلتقي الاثنان لمرة جديدة ويتنقلان في المعتقلات حتى عام 1964. هذا التقاطع في السجن والحياة والمواقف، سيسمع للشابين بعد أن يجدا حريتهما ويذهبان إلى فرنسا أن يعملا معاً في التأليف معاً وتصدر لهما عدة كتب.

هذه المرة قررا خوض غمار الأدب، بقصتهما التي عاشاها سوياً يوم اعتقلا أيام جمال عبد الناصر. من الصعب فعلياً تصنيف الرواية ضمن «أدب السجون» رغم أن نصف أحداثها تجري في السجن، مقارنة بكتاب السوري فرج بيرقدار الذي تتعذر قرأته على أصحاب القلب الرقيق، وصدر عن الدار نفسها أي «دار الجديد». يكاد يكون «تحدي الآلهة» نزهة مقارنة بكتب عربية أخرى تقص حكايا اضطهاد بعض الأنظمة العربية وبطشها، وما مارسته من قهر وظلم، أو تلك التي سطرت حول الربيع العربي وما تخلله من قهر لفئات ضد بعضها البعض.

تبدو السجون أيام عبد الناصر، كما يتحدث عنها المؤلفان، وكأنها تمارس التعنيف المعنوي أكثر مما تلجأ إلى التعذيب الجسدي. فالرواية تتحدث عن «كسر الإرادة»، والألم في غالبية الأحيان يتأتى من «ضيق النفس بالزنازين» و«غياب الشمس» و«التكدس في الشاحنات» عدم إيصال الطرود التي يرسلها الأهل إلا بتأخير، مراقبة الرسائل الحميمة التي تكتب للسجناء، وبعض «اللكمات» و«القيد بالسلاسل»، ويجب أن ننتظر الصفحات الأخيرة، حتى نقع على بعض مشاهد التعذيب الفعلي التي تمر سريعاً.

تبدأ الحكاية من سجن «القلعة»، حيث يقبع طالب كلية الطب الذي تم اعتقاله، هناك تأخذه الذاكرة إلى الوراء. يسترجع مساره ويقلب مواقفه وآراءه التي أوصلته إلى هنا. يتذكر كيف وجد هو ومئات قليلة من المعارضين اليساريين أن الطريقة التي يحكم بها جمال عبد الناصر ستوصل إلى ديكتاتورية حتمية، فيبدأ بتشكيل مجموعات صغيرة متحمسة أكثر مما هي منظمة. يتذكر كيف ذهب إلى العراق ليبحث عن نموذج آخر و«للجهر بمعارضته لمشروع عبد الناصر العروبي» هناك «ندد بالمشروع الناصري الديكتاتوري، وأثنى على المشروع العراقي الثوري في قاعات مكتظة بجماهير انتشى بسماع تصفيقها». لكنه سرعان ما يصاب بخيبة أمل حين يكتشف أن «الحال هناك أسوأ». رأى «مشانق تنصب في الشوارع ومحاكمات ثورية». يصل إلى نتيجة: «العراقيون عنفهم يفوق عنفنا بكثير. مخاطرة العودة إلى مصر والسجن أسهل من البقاء في العراق».

العودة ستسوقه إلى السجن، حيث يجد نفسه في عزلة تسمح له بمراجعة لتفاصيل حياته. أي أن الرواية هي هذه الأفكار التي تدور في رأس السجين - بطل الرواية مستعيداً طفولته في قريته، عائلته متوسطة الحال، والده موظف حكومي، انتقاله إلى القاهرة سيجعله يتعرف إلى زميلته في كلية الطب نادية فائقة الجمال، التي كان الشبان الآخرون يطلبون ودها ويتمنون لفتة منها، لكنها اختارته هو، وبادرت نحوه بنفسها، رغم الفارق الطبقي والاجتماعي بينه وهذه الفتاة الميسورة، الحرة والجريئة. يختلط المسار الحياتي، إذن، في الحكاية، بما يحدث في السجن من نقله إلى زنزانة انفرادية، ومن ثم انضمام صديقه أنور إليه في هذه الوحدة القاتلة، ومن بعدها ينقل الجميع إلى سجن الفيوم، ثم إلى معتقل أبعد كثيراً وأقسى في أبو زعبل حيث تمارس عليه وعلى الآخرين عمليات تعذيب، ثم يطلق سراحه.

يبدو أن المؤلفين أرادا توثيق حالة السجناء السياسيين في تلك الفترة، من خلال تجربتهما الشخصية، والأجواء العامة التي سادت مصر، ووضع فترة الحبس التي قضياها، في إطارها الوطني العام، من دون إضافة التوابل الروائية، أو المبالغة في الحديث عن آلام وعمليات تعذيب. كأنهما ابتغيا للنص أن يكون تسجيلاً أميناً قدر الممكن، أكثر مما هو مكتوب لإدانة أو تشفٍ من الفترة الناصرية. وهذا يكتب لهما من جهة، لأنهما كانا معارضين وتعرضا للسجن، ولا يزالان يريان تلك الفترة على أنها مرحلة حملت الكثير من السلبيات. لا ضغينة إذن، ولا محاولة تشويه أو مبالغة، وإنما توصيف هادئ يليق بقراءة حدث بعد خمسين سنة من الزمن، وهو ما انعكس موضوعية.  يبقى أن قصة حب البطل مع نادية التي يقر الكاتبان أنها متخيلة تماماً، ورسائل الغرام التي لم تنقطع، وتعلق الحبيبة بالشاب السجين رغم غيابه وحرصها على رفع معنوياته، هذه التفاصيل التي أريد لها أن تحمل الرواية وتحلق بها، وتزودها بأجنحة عاطفية، لم تتمكن من منح النص ذاك الدفق الدافئ المتوخى. هي بنيلوبي وهو أوليس و«بنيلوبي لم تكن مجرد الزوجة المحبة بل مرفأ يجد فيه نفسه. هي وطنه الجواني، حقيقته القصوى». وفي إحدى مقابلاتهما، يقول المؤلفان إن نادية في الرواية بالنسبة لهما ترمز إلى مصر والوطن والقيمة العليا التي كانا يبحثان عنها.

رغم هذا الجانب التخيلي، تبقى «تحدي الآلهة» أقرب إلى رواية تسجيلية، لكاتبين اعتادا الكتابة الفكرية، ودخولهما عالم الأدب يفتقد الحرارة والنبض اللذين يحتاجهما النص الروائي لجذب القارئ حين يغيب التشويق والأحداث الساخنة.

تكتسب الرواية أهميتها، رغم برودة أحداثها، وتركيزها على الوصف، لا من قصة الحب التي تبقى مفتوحة في النهاية، ولا باعتبارها من «أدب السجون»، وإنما من محاولة اكتساب أبعاد من خلال ربط نزعة الحرية لدى الشبان الماركسيين في وجه عبد الناصر، بتاريخ يعود إلى نضال مصري طويل وتاريخي في التمرد، كما من بعض الحوارات الثقافية التي تدور بين السجناء وتعكس المناخ الفكري في تلك المرحلة، مثل المحاضرات التي كان يلقيها عليهم في السجن أحد المعتقلين معهم وهو أستاذ في فلسفة التاريخ حول الأسر الفرعونية والفلسفة اليونانية، أو الحوارات التي كانت تدور بين السجناء أنفسهم، وعطشهم لقراءة جذاذات الصحف التي تصل صدفة إلى الزنازين. مما نتعرف عليه تلك الأجواء التي سادت بين المعتقلين اليساريين الذين «بلغ عددهم بضع عشرات، ثلاثة أنواع منهم استعرت بينهم الكراهية، إذ اقتنع أفراد كل منها بأنهم أصحاب القول الفصل في الفعل الثوري. طفقوا يتنازعون الصغيرة والكبيرة حتى وصل بهم الأمر إلى شارات منظماتهم. كل منظمة ترفع شعار الحزب الشيوعي مع إضافة صفة لاحقة تفرق بينها وبين الاثنتين الأخريين».

«تحدي الآلهة» من ترجمة أحمد علي بدوي. هي أشبه بنص تسجيلي مكتوب بصيغة روائية، فيها الكثير من العقلانية والموضوعية، والنفح الفكري يبقى طاغياً، مما يسرق من الروح الأدبية بهجتها ورونقها.

28 Aoû, 2017 01:22:56 PM
0