تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
رودريغو غارسيا لـ«الشرق الأوسط»: لو كان أبي أقل شهرة ونجاحاً لما كنت تقاسمته مع الكثيرين

«أعتقد أن الكتّاب يسكنهم هاجس الموت، يكتبون القصص، يحاولون ترتيب فصول الحياة وتفاصيلها وإعطاء معنى للبدايات والنهايات، ويسعون لتأخير ما يستحيل تأخيره}. بهذه الكلمات تحدث رودريغو غارسيا، عبر منصة «زووم» من العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيريس، في حوار أجريته معه حول الكتاب الذي نشره مؤخراً كوداع لوالديه، مرسيديس وغابو، وعن الأيام الأخيرة في حياة صاحب «مائة عام من العزلة» الذي انطفأ في مكسيكو فجر السابع عشر من أبريل (نيسان) عام 2014.

منذ أشهر يمضي رودريغو وقته متنقلاً بين بوينوس آيريس، حيث يقوم بإخراج شريط سينمائي عن حياة «إيفيتا بيرون»، ولوس أنجليس، حيث يشرف على تصوير إنتاجين ضخمين لصالح إحدى المنصات العالمية الكبرى حول رائعة والده «مائة عام من العزلة» والكتاب الذي يحكي قصة المهاجر اللبناني سانتياغو نصار في «وقائع موت معلن».

في كل أحاديثنا السابقة التي تعود لسنوات عديدة، لم أستشعر يوماً لدى رودريغو أي انزعاج دفين من كثافة حضور والده وظل شهرته الوارف، لكني كنت أتساءل دائماً كيف تكون الحياة في كنف والد مالئ الدنيا وشاغل الناس مثل غابو، فحملت السؤال هذه المرة مباشرة إلى ابنه:

1643461519949107600.jpg

 ما هو هذا الكتاب؟ تكريم لوالديك؟ تخليد لذكرى واحد من أكبر الخالدين في الأدب الأميركي اللاتيني الحديث؟ أو تصفية حسابات ومحاولة للانعتاق من هالة الأب المترامية في كل الاتجاهات؟

- هو كما في العنوان، وداع. وداع لأنهما رحلا عن هذه الدنيا، لكن في الواقع يبقى وداع الوالدين مستحيلاً طالما نحن على قيد الحياة. الأسابيع الأخيرة بجانب والدي، والسنة الماضية مع والدتي قبل وفاتها، أتاحت التأمل طويلاً وعميقاً في معنى وداع الآباء. لا يمر يوم واحد من غير أن يحضرا في أفكاري، وموتهما ليس نهاية لأي شيء. كلاهما رحل في السابعة والثمانين، وعاشا حياة طويلة وجميلة، ومهما بلغ الاحترام الذي يكنه القراء لوالدي والإعجاب بأعماله في جميع أنحاء العالم، تبقى وفاة الأب دائماً كارثة بالنسبة للولد.

غارسيا ماركيز كان أيضاً بمثابة أب لقرائه، كيف تتعامل مع ذلك؟

- ثمة ازدواجية غريبة في هذا الشعور. أدرك جيداً أن والدي كان لي وللآخرين، وأنه لو لم يكن من كان، وما زال، لما كان لهذا الكتاب أن يلقى أي اهتمام. لا بل إني أشعر أحياناً بأن كل ما أقوم به له صلة، بشكل أو بآخر بوالدي. في كل الأحاديث والمقابلات التي أجريتها حتى الآن حول الكتاب، كان السؤال ذاته يعود في كل مرة: كيف وكم تأثرت بوالدك؟ وفي كل مرة كنت أبذل جهداً كبيراً كي لا أجيب: تماماً مثلما تأثرت أنت بوالدك.

 من الأفلام التي أخرجتها ونالت إعجاباً كبيراً فيلمTerapia» »، هذا يدفعني إلى سؤالك إذا كنت شعرت يوماً بالحاجة إلى «قتل» والدك؟

– لا أعتقد أن بوسعي إضافة الكثير أو الجديد إلى هذا الموضوع الذي وضعت فيه مجلدات ودراسات لا تحصى. لكن، أليس من المفارقة أن كل الأبناء يحتاجون إلى موافقة الآباء لكي ينموا، ولكي نتمكن من «قتلهم» أيضاً؟ هذا هو التناقض الكبير الذي تحمله الأبوة. ثم حين يتقدم الآباء في السن، يصبح الأبناء بدورهم آباءً لآبائهم. هذه سخرية الحياة. أشعر بإعجاب وافتنان إزاء هذه المرحلة التي ينمو فيها الأبناء ويكبرون ثم يستقلون فيما الآباء يشيخون وتزداد حاجتهم إلى أبنائهم.

 وماذا عن الشعور بالذنب في التباس العلاقة بين الأبناء والآباء؟

– التناقض كامن دائماً في هذه العلاقة. تشعر بالذنب، ومع ذلك تغضب لاعتقادك بأنك أنت المذنب، كأن تقول: أشعر بأني مسؤول عما حصل لك، لكن لا تلمني على ذلك. أي أنك تشعر بالذنب لأنك تشعر بالذنب. والعالم الذي عشت فيه كان شعور الأمهات بالذنب حاضراً أكثر من شعور الآباء. كان مألوفاً أن تسمع الأم، وليس الأب، تلقي اللائمة على نفسها. على أي حال، أعتقد من المستحسن أن نسامح أنفسنا قدر المستطاع.



هل شعرت يوماً بالغيرة من نجاح والدك؟ أو من شهرته؟

– أصابت الشهرة والدي عندما كنت قد صرت بالغاً. كانت شهرة واسعة جداً بعد نيله جائزة نوبل، وأيضاً بفضل وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية. لا شك أن كل ذلك كان له تأثيره، لكنه لم يداهمني في مرحلة الصِغر. عشت طفولتي ومراهقتي في المكسيك، حيث تعارفنا، ثم في برشلونة لبضع سنوات. يومها كان والدي معروفاً لكني لم أشعر أبداً أني ابن نجم سينمائي أو غنائي. على أي حال، لا رغبة عندي في أن أغير أي شيء. لو كان والدي أقل شهرةً ونجاحاً، لما كنت تقاسمته مع الكثيرين، لكن الأرجح أن الأمور كانت لتكون أسوأ مما هي عليه الآن (يضحك)...

> إلى جانب الرواية والمقالات والتحقيقات الصحافية، كان غابو أيضاً ناقداً سينمائياً ولعب دوراً أساسياً في إنشاء معهد العلوم السينمائية الشهير في هافانا... وأذكر أنه قال لي في أولى المقابلات التي أجريتها معه في كنكون (المكسيك) إنه يتمنى لو كان مخرجاً سينمائياً. هل كان يشعر بالغيرة منك عندما اخترت طريق الإخراج السينمائي؟

– لا أعتقد ذلك. لم يكن قليلاً النجاح الذي أصابه بالكتب، وكان يتباهى كثيراً عند الحديث عن أفلامي ويدعو الجميع إلى مشاهدتها. كان حباً وإعجاباً بلا غيرة.

> إشرافك اليوم على نقل كتبه الأوسع شهرة إلى السينما، هل في ذلك وفاء لدين؟

– إنها مسؤولية كبرى. لكني راضٍ جداً عما أراه وأقرأه. من «مائة عام من العزلة» قرأت سيناريو الحلقات الأربع الأولى، وأعتقد أن القرارات التي اتخذت صائبة، والأهم من كل ذلك أن الأمور تأخذ مجراها الطبيعي بوتيرة متأنية من غير استعجال.

 سلمى حايك هي منتجة الفيلم عن «إيفيتا بيرون»، وهي التي طلبت إليك المشاركة فيه. هذا يحملني إلى سؤالك عن «الرابط اللبناني» بينكما.

- (يضحك)... أعرف أنك تجنح دائماً للحديث عن هذا الرابط، كما تسميه. سلمى من أصول لبنانية وهي تعتز كثيراً بها، ووالدتي متحدرة من عائلة لبنانية هاجرت إلى مصر واستقرت في بورسعيد، لكن لم يرشح لنا شيء سوى القليل جداً من ذلك كما تعرف. على أي حال لا علاقة لهذا الرابط بالفيلم عن «إيفيتا»، الذي كان لا بد من تصويره في الأرجنتين مع ممثلين وتقنيين أرجنتينيين، باستثنائي أنا والطبيب الإسباني الذي حنط «إيفيتا» بعد وفاتها. والفيلم يستند إلى كتاب توماس كلاي الذي كان صديقاً حميماً لوالدي، وهو يتناول ببراعة مذهلة ظاهرة «إيفيتا»، وتلك الهستيريا التي سادت من أحبوها وكرهوها على السواء، تماماً مثل ظاهرة مارادونا التي كان الواقع فيها يتجاوز أبعد ما يمكن أن يصل إليه الخيال. يضاف إلى ذلك أننا ربينا في بيت كانت السياسة تحتل فيه حيزاً واسعاً. والدي كان يتابع عن كثب ما يحصل في أميركا اللاتينية، وكانت له علاقات وطيدة مع العديد من الزعماء والرؤساء، ويهتم كثيراً بموضوع السلطة السياسية، خصوصاً لدى الطغاة والرجال الأقوياء والزعماء الشعبويين.

 مطالع عام 2020، وفي ذروة جائحة «كوفيد»، نشرت لك صحيفة «نيويورك تايمز» مقالاً في شكل رسالة موجهة إلى والدك جاء فيه: «... لا يمر يوم واحد من غير أن أقرأ أو أسمع إشارة أو استحضاراً لك ولأعمالك، وأتساءل ماذا كنت لتقول عن هذا الوضع الذي نعيشه اليوم، أنت الذي كتب يوماً: ما يعذبني في الجوائح والكوارث الكبرى أنها تذكير لنا بمصيرنا الشخصي، أي أنه برغم الحيطة الدائمة والحذر والعناية بالصحة والثروة، يمكن لأي إنسان أن يسحب الرقم الخاسر في هذه الحالة القدرية... ».

- أعتقد أن الكتاب يسكنهم هاجس الموت، يكتبون القصص، يحاولون ترتيب فصول الحياة وتفاصيلها وإعطاء معنى للبدايات والنهايات، ويسعون لتأخير ما يستحيل تأخيره، أي هذه الفوضى التي لا يمكن أن نسيطر عليها في حياتنا. والدي كانت تؤرقه كل الأمور التي يعجز عن التحكم بمسارها، وبعكس أمي كان غالباً ما يعبر عن ذلك.

 وماذا عن والدتك التي، رغم شهرة الوالد، كانت هي الشخصية المركزية في العائلة؟

– والدتي كانت شخصية معقدة، علـى بساطة ظاهرة، بالغة الإحساس، قاسية ورؤوفة، شجاعة وقلقة، لكنها كانت تتحلى برباطة جأش مذهلة وقدرة فائقة على إظهار القوة في لحظات الضعف، وعلى التصرف بهدوء وروية في الأزمات والظروف المضطربة. رافقت والدي عن قرب في كل مراحل حياته، وكان لها تأثير كبير على معظم القرارات التي كان يتخذها. ومن الأمور التي كانت تدهشني دائماً، أنها برغم أصولها المتواضعة تمكنت من التكيف ببراعة وتألق مع الشهرة العالمية التي جاءت مع نجاح والدي.

 هل عندك ما تضيفه عن غابو في نهاية هذا الحديث الذي فرضته الظروف الراهنة عبر المنصة الإلكترونية؟

– ترددت كثيراً في نشر الكتاب الذي ليس وداعاً مضمخاً بالحب والأنانية، بحيث لا يشعر القارئ بعد مطالعته بأي حزن أو أسف. أردته كتاباً يجمع الذكريات والأفراح إلى اللحظات الحزينة، لكن من غير أن يكون كتاباً جنائزياً. خلال الأسابيع الأخيرة من حياة والدي، وبعد أن قال لنا الأطباء إننا أصبحنا قاب قوسين من النهاية، كان من الطبيعي أن أفكر بتدوين يوميات، ليس بهدف نشر كتاب أو مقالة، بل لأن غابو لم يكن ملك عائلته وأصدقائه فحسب، بل هو لملايين القراء في شتى أنحاء العالم. أشعر أحياناً بأن والدي لم يكن مجرد كاتب ناجح ومشهور، بل حالة إنسانية وفكرية يجب أن تدوم مع الزمن.

 

 

 

 

المصدر: الشرق الأوسط 

30 يناير, 2022 02:39:59 مساء
0