تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الانتقام حق أم لعنة؟

دعد ديب * - 


في البرزخ الفاصل بين الحياة والموت يستعيد المغربي عبد الباسط زخنيني بروايته «القمر الأخير»، الصادرة عن دار ثقافة الإماراتية للنشر والتوزيع لعام 2016، تفاصيل أزمة بطله النفسية المركبة في بداية صادمة بالحادث المروري الذي وقع، كمنصة يتقدم منها الحدث وتداعيات النص في وقفة مع الذات، وهي تقترب الموت ببضع لحظات، والمشاعر التي تراود البطل وهو يواجه المجهول، مستعرضًا آلامه وخيباته وارتكاباته، ليستعيد المراحل الخمس للاحتضار الحزين للكائن البشري وفق ترتيب الدكتورة إليزابيث كوبر روس وهي «الإنكار - الغضب - المساومة - الاكتئاب - القبول».

 

مراوغة الموت

 

الإنكار فهو يرفض أن يصدق وعندما يوقن المرء أن الموت آت لا محالة يأتي دور الغضب الساحق حتى يأخذ مداه دونما فائدة نبدأ بالتفكير في تخفيف وطأة النهاية وتحسين شروطها أو تأجيلها إلى فترة أبعد، وهذا ما يسمى المساومة يقابلها الرغبة في طلب الغفران من الآخرين الذين تسببنا لهم بأذية أو انتقام ما، وعندما يطول الزمن وتتثبت النهاية كأجل لا مناص منه تأتي المرحلة الرابعة للحزن، وهي حالة الاكتئاب كمن يسير مسرنمًا صوب العدم دون الاخرين، حيث أكبر مراوغة للموت الإدراك أنه ليست ثمة فرصة أخرى لتدارك ما فات؛ للغفران؛ للتوبة؛ للتسامح؛ لننتهي إلى القبول والإذعان في النهاية.

 

الناجي الوحيد

 

تتداعى الذكريات حول الرسائل التي يبثها المذياع الناجي الوحيد في الحادث لتذكره بأول رسالة غرام يرسلها إلى حبيبته مع صديقه أشرف الذي سطا على الرسالة والحبيبة، وبداية الحقد الذي سمم حياته يستعرضها عبر تقنية قصة ضمن قصة مثلا حكاية الحلاق الذي يبوح بسر قرون الملك للبئر ويذيعها القصب النامي، وقصة الأعمى مع صديقه وزوجته الخائنين، وحكاية لعبة الحماية والحمار الذي يتلقى العقاب دائمًا والسؤال هنا ماذا نفعل مع الخيانة هل ننتقم أم نصفح، هل نسامح؟ أمن العدل أن نسلم بموقع الحمار الذي يتلقى الصفعات دائمًا، بالمواقف الحرجة تظهر مساحة الروح الإنسانية العالية للتسامح التي يثيرها النص والأسئلة الوجودية الحية للشخصية غير المنتهية، فهي تحب وتحقد وتفرح وتتألم، بشري كل هذا ولكن إلى أين نقود حنقنا وردود أفعالنا وماذا بعد؟

 

ماذا نختار أن نسامح ونغفر أم نستذكر الأشياء الايجابية التي فعلها الآخرون معنا لماذا نذكر الإساءة ونتناسى الإحسان، وماذا نفعل بالندم الذي يقض المضاجع؟

 

أما عن علاقة العنوان بالنص فهو إيماءة شفافة للقمر الأخير آخر زائر يراه من بعيد، وهو على مشارف الموت والعبارة الشكسبيرية الاستهلالية في المقدمة:

 

«نحن من القماشة التي صنعت منها الأحلام

 

وحياتنا القصيرة محاطة بالنعاس»

 

بما يعني ذلك العيش في العالم الداخلي الذي يسكننا فالأبيات التي يلحظها منقوشة على جذوع أشجار الغابة:

«أنت خال من معنى

أنت قفص بلا طائر

بيت فارغ خراب

شجرة قد يبست وتناثر ورقها»

 

أبيات تصف حالته في نوع من التماهي بين مكنوناته وصدى الطبيعة للتعريف بحالته النفسية مع الحكايات الأمثولة التي ذكرت ما هي إلا فهم متقدم لفن الرواية القادر على هضم أجناس أدبية كثيرة في أحشائه من حضور أبي العلاء المعري في رسالة الغفران مع أليجيري دانتي في الكوميديا الإلهية، فزخنيني يدرك المساحة الواسعة للفن الروائي وقدرته على استيعاب الفنون الأخرى التي تتناغم مع الحالة الشعورية للبطل، كما يتداخل العمل مع الأدب العالمي في صياغة أحاسيس البطل وسلوكه، فكتاب تشوانغ سو الذي حدد فيه قواعد الحرب بخمس هي:

 

الإيمان - الرفيق - الزمن - المكان - الإستراتيجية. وهذه كلها أسقطها على معركة حياته في انتقامه من أشرف الصديق الخائن حتى أوقعه في الكمين وكانت الحادثة التي حرمت الصبية فيها من مستقبلهم وتداعى عالمهم ونفي الصديق الذي كان خارج موطنه.

 

أزمنة الرواية

 

تمضي الرواية عبر زمن حالي هو وقت الحادثة وزمن آخر ماضي تتداعى فيه الذكريات وصراع النفس ليشعر أن الشخص الذي اعتقد انه انتصر عليه بات يسكنه أكثر فأكثر ويتذكر وجوده في كل مفصل من حياته في تحليل عميق للسلوك الإنساني، الذي يخفي في داخله حبًا وضغينة متواريين، وهذه تركيبة طبيعية في الإنسان استطاع صاحب الأبيض والأسود أن يرصدها بدقة عالية وهو يدخل بطله في غابة (التي يعلم الكل فيها عن الكل) ليقابل الرجل الذي لم يرد على صديقه لنجدة أخيه والطفل الأسود وحكايته مع زملاء صفه البيض والصفح الذي تحول إلى سعادة، والوردة السوداء التي تتحول إلى بيضاء في يد أهل السماح في تناص مع حكاية ديوجين الذي عاش في برميل ومذهب الكلبية التي ينتهي فيها للقول إن الأشياء البسيطة بابها مفتوح للسعادة وعن مجموعات التضحية التي تتقبل السياط بوجه باسم، إذ لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها في لعبة الوجه والوجه الآخر.

 

رواية القمر البعيد هي أغنية رتلها عبد الباسط زخنيني لحنًا ومعنى في رصد حالات الإنسان واختباره في لحظات الضعف والقوة، فهذا الاحتضار الذي يواجه الإنسان في حالات عدة عند المرض، عند الموت، عند الاعتقال والسجن، ويبقى السؤال أسامح أم لا أسامح فقد لا تكون هناك فرصة أخرى. بهذه النهاية يضعنا صاحب الغراب أمام تأرجح واضطراب القرار الصعب والزمن الذي يملكنا ولا نملكه، فهل نفعل؟

 

* ناقدة سوريّة

 

المصدر: القبس الثقافي

02 أغسطس, 2021 03:16:57 مساء
0