تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
نائلة الشقراوي "المدن الضيقة "بين الإيحاء والمكاشفة

أصدرت الناقدة نائلة الشقراوي عن دار الكتاب مجموعة قصصية بعنوان  "المدن  الضيقة" في 100 صفحة من الحجم المتوسط وفي طبعة أنيقة.


يقول الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" : "الكتابة المبدعة إمكانية كل إمرأة لأنه فعل أنوثة " فالمرأة تمتلك الموهبة والإمكانيات التي تجعل منها قادرة على بث مشاعرها في جنس أدبي متميز فالإبداع يعتمد على الإحساس، التعبير الجاد الخفي والمعلن نتيجة الصراع الداخلي وهو ما يجعل المرأة الأقدر على التعبير لشدة إحساسها ورقة تعبيرها عن قضاياها وهمومها ومشاعرها الدفينة.


وبخصوص تجربة القاصة نائلة الشقراوي يمكن أن نضعها ضمن عدة  تجارب مرت بها في الكتابة الإبداعية من كتابة النص النثري إلى النص العمودي إلى قصيدة التفعيلة التي تبثها مكنون عواطفها ومشاعرها الدفينة، تتآلف تارة وتتكاتف، وتارة أخرى تتباعد. فقد خرجت بإحساسها التعبيري من الخطاب الذكوري وتملصت ببصمتها اللغوية من سلطته.


فهل يجوز لنا أن نسأل : كيف تكتب الناقدة المتمرسة بالشعر نصا نثريا في شكل متتالية قصصية؟


يجعلنا العنوان "المدن الضيقة" نقف وقفة تأمل لنتساءل عن أسباب اختيار هذا العنوان؟. فكيف تضيق بنا الدنيا؟ وهل تضيق المدن وتسعنا الدنيا؟ أم تضيق وتجعلها الكتابة رحبة؟. هذا ما يجعلنا نفتح سؤالا آخر هل الكتابة متنفس للمبدع؟ هل يهرب المبدع إلى الكتابة؟ وهل تجمل الكتابة الواقع؟


استعملت الكاتبة لغة السهل الممتنع. لكن هذا لم يمنع أن يكون استخدامها للغة إنسيابيا شعريا يكاد أن تنطبق عليه مقاييس قصيدة النثر. وما يفسر هذا التداخل بين الشعري والنثري كونها شاعرة قبل أن تكون قاصة. تقول في قصة : هسهسات / " كل شيء بات خرابا لم يعد هنالك من رجوع للبدايات فكما تكون البداية مؤلمة تكون النهاية أكثر وجعا حلق بك طائر الحب في سماء غيم قرمزي بما كان يكتبه لك من كلمات تسبي الروح وتأسر الجسد كابرت تهاديت على الأرض كمزن الندى فكسرت أقدامك قبل أحلامك وقبل أوهامه ولم يبق للروح منفذ إلى ديار السلام"


تترك القاصة القارئ يسرح بخياله باذلا جهده للوصول إلى المغزى الضمني للقصة، فالكثير من القصص ظلت مفتوحة النهايات، وهي تعطي للقارئ حرية الوصول إلى هذا المغزى والنتيجة قد تكون مختلفة مابين قارئ وآخر. فالنصوص تكاد تشبه لوحة سريالية تتوزع أجزاءها بأشكال مختلفة ثم تجتمع لتبين نفس الفحوى والهدف.


الملاحظ أن قصص المجموعة استوحت من الشعر أسلوبه، ومن الفن التشكيلي طريقته في بسط الحقائق. تقول الكاتبة في قصة "جنات وهم" : "كيف لم أعرف أنك معي بنفس الرحلة مجنون أحبك يا أنت ... لا أحتاج غيرك وهمك هو واقعي ما نحياه معا هو الحقيقة المطلقة ..رد بصوت واثق لا يخلو من حنان وعمق معتاد، تبحثين عن النور عن الحقيقة المطلقة لا حقيقة تنفصل عنك لا نور خارج عن ذاتك وعن سماك مدي يدك داخلك سترتد نورا "


كما طرحت القاصة العلاقة بين الرجل والمرأة دون إسفاف. وتجاوزت البعد الغرائزي إلى تناول واقع هذا الثنائي في المجتمع العربي بأدق تفاصيله بين ماهو عاطفي حسي وما هو اجتماعي سياسي بأسلوب الجمل القصيرة، أو النفس القصير اللاهث وصولا إلى الهدف...غير أن هذا الهدف يصدم القارئ أحيانا بما لا يتوقعه. وقد طرحت موضوع الحب والخيانة والإخلاص... بإطاره الخاص والعام فما ينطبق على العلاقة بين الرجل والمرأة ينطبق أيضا على العلاقة بالوطن ، "فالإخلاص قيمة لا تتجزأ والخيانة تتشابه".


تقف القاصة دائما وراء أبطالها، إذ تلعب دور المرأة أحيانا وتتقمص دور الرجل أحيانا أخرى، وتبقى المسير في دفع الأبطال في عوالم سردية اتصفت بانسيابية اللغة وسلاستها.


راوحت الكاتبة بين الأفعال الماضية والمضارع، حيث راوحت في الكتابة بين الآن وهناك باستخدام المضارع والماضي كتقنية للاسترجاع والتذكر. وقد مكنت هذه الفنون البلاغية من رسم صور فنية وقصص مشوقة.


وظفت نائلة شقراوي كذلك بعض القصص بأساليب السيرة الذاتية، خصوصا تلك المرتبطة بمهنة التدريس (وهي مهنة الكاتبة) مما قرب المسافة بين الواقع والخيال في هذه المتتالية القصصية المندرجة في إطار الواقعية في الأدب، وما الخيال في هذا العمل إلا مجرد خطاب جمالي لتجاوز الرداءة والغربة الوجودية التي يفرضها الواقع.


ماتميزت به "المدن الضيقة" انسيابية اللغة ومرونتها وتدفقها من ذات شاعرة جعلت الروح تفيض بهذه المدن الضيقة، وبالعطاء والبوح الباذخ الذي يذيب جليد المشاعر.. وماعلى القارئ إلا الإبحار وترك العنان للخيال حتى يكتشف عوالم رسمتها الكاتبة بحبكة وتمرس وإحساس ورشاقة معنى كما يرسم التشكيلي لوحته.


والجدير بالذكر أن الأستاذة نائلة الشقراوي أصدرت ديوان نثري "عاشق النرد" وعمودي "جمرات في عمق المعنى" . "المدن الضيقة".

 

 

 

المصدر: الشروق

19 أغسطس, 2021 12:36:50 مساء
0