تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
صبحة علقم تجليات المكان في مجموعة «مجرد صديقة»

أحدث العصر الحديث باختراعاته واكتشافاته كثيرًا من التطورات والتجديد في السرد والشعر طال المعاني والأفكار، والأسلوب، والصياغًة، والصور، والشكل؛ فقد ظهرت أنواع أدبية جديدة، وطوّرت أنواع أخرى تماشيًا مع روح العصر الذي طبعته التكنية والاختراعات المختلفة في مجالات الحياة كلها بطابع السرعة والاختصار والتكثيف، وبعد أن عولمت وسائل التواصل والاتصال العالم، وجعلته قرية صغيرة أخبارها وأحلامها وآمالها وآدابها إنسانية معروضة على محك الحياة اليومية، وخلقت نمطا جديدًا من الذائقة الأدبية.
والقصة القصيرة جدا من الأنواع الأدبية التي ظهرت في الزمن المعاصر، وولدت لأسباب كثيرة منها تلبية رغبة الجيل الجديد الذي أدمن روح السرعة، فهي تنماز بالخفة والتكثيف، ولا تدخل في الأوصاف الكثيرة والتفاصيل، وفيها الدهشة المنشودة اللطيفة، والمفاجأة المرغوبة، والإيحائية المثيرة، وكل ما يبعد الملل عن القارئ المعاصر الذي طبعته الحياة المعاصرة بطابعها.
ونجاح القصة القصيرة جداً يعتمد على وجود مزيج فني لمجموعة من العناصر يعده مبدع واعٍ صاحب فكر مالك للغة والخيال والروح الخلاقة، فخصائص القصة القصيرة جدا صعبة لا يستطيعها إلا الراسخون في السرد؛ لأنها قصة مختصرة تقوم على التكثيف، والإيحاء، والرمز، والإدهاش، والحذف، والإضمار، والصورة الومضة، والمفارقة، والسخرية أو التهكم أو الهجاء القاسي اللاذع أو الانتقاد الساخر.
وتظهر مجموعة «مجرد صديقة» الصادرة عن دار ناشرون الآن وموزعون. عام2021م للكاتبة صبحة علقم لتعطي دفعا قويا مثرياً لكتّاب القصة القصيرة جداً المبدعين للاستمرار، ونفسًا جديدًا للقصة القصيرة جدًا لتستمر، فهي أنموذج راقٍ، وممثل واعٍ لهذا النوع الأدبي الجديد المؤثر، كتبته كاتبة أكاديمية لها خبرة بالسرد، وتجربة طويلة في كتابة القصة القصيرة، وتؤمن أن كتابة القصة القصيرة جداً فن يحتاج إلى حرفية عالية، وأنه ليس متاحاً للجميع».
وتبحث هذه المقالة في تجليات المكان في المجموعة القصصية «مجرد صديقة»التي تضمنت ثلاثاً وأربعين قصة قصيرة جداً ،وقصة قصيرة، لأن للمكان في هذه المجموعة أهمية عظيمة، فهو أساس متين بنيت عليه أكثر قصص المجموعة، وحمل إيحاءات عميقة ساندت الرؤية في كل نص، واستطاعت الكاتبة استغلال فضاءاته لإخراج نصوصها في أكمل صورة. والمكان أساس القصة، والوعاء الحي الذي يحتضن أحداثها، وله أثر فاعل في نموها، وفي حركة الشخصيات فيها، وفي تطور أحداثها، والكاتب المبدع هو الكاتب القادر على أن يوصل بوساطة المكان الإحساس بمعنى الحياة، أو الإحساس باليأس والتيه.
 إشارات
تناقش معظم قصص مجموعة «مجرد صديقة» للكاتبة صبحة علقم العلاقة المتأرجحة بين الذكر والأنثى في بيئات محصورة محدودة، وأماكن منتقاة بعناية وذكاء.
وتبدأ تجليات المكان من عتبة النصوص غلاف المجموعة، التي جاء العنوان فيها على صورتين بحروف مترابطة مجتمعة وبحروف مقطعة متفرقة منفصلة )م ج ر د ص د ي ق ة(، وبوضعيتين مختلفتين متباعدتين؛ لتؤكد الكاتبة تخلخل الأرضية التي تقوم عليها العلاقات، فالعنوان وإن كان يشير إلى الصداقة في المعنى المرقوم في ذهن القارئ إلا أنه مبعثر مقطّع مادياً، ولا يبقيه على دلالته إلا القارئ أو المشاهد لأنه ألِف أن تكون هذه الحروف مجتمعة لتشير إلى تلك اللفظة، وهو عنوان في صورة منه لا تجتمع حروفه إلا إذا سعى القارئ لجمعها والتأليف بينها كحال بعض العلاقات الإنسانية، وبهذا فإن عتبة النص تنذر بتخلخل المكان الذي يحتضن العلاقات الإنسانية في هذه المجموعة، وتفتح الباب واسعاً لفهم مواقف الشخصيات المدهشة المحيرة التي حملتها كثير من قصص المجموعة.
 الملاذ الآمن
ويكثر في قصص المجموعة التي يغلب على عناوينها التنكير بحثُ شخصياتها الرئيسة عن ملاذٍ آمنٍ أو ملاذ واقٍ، أو دوائر مساعدة ؛ تلك الشخصيات التي ظهرت بلا أسماء وبقليل من الصفات الجسدية في بيئات لا هوية لها إلا وظائفها، ففي قصة «خيانة» تلوذ الحبيبة أو الزوجة بالسماء فهي ترفع رأسها إليها بعد أن نبهها زامور السيارة، ورأت ما أُريد لها أن تراه فتاةً أخرى بجانبه، ثم هوت على الأرض. وكان القلب هو الملاذ في قصة «ذبول»إذ تلوذ الفتاة إلى قلبها وهي ترتجف بعد أن قال الرجل لها:» أنت مجرد صديقة».واختيار القلب ليكون ملاذها اختيار موفق لأنه المكان الذي عبر منه الرجل إليها، ولأنه المكان الوحيد الذي يستطيع أن يطرده من عالمها.وفي قصة» جدار» تلوذ المرأة الستينية إلى الجدار بعد أن أهداها زوجها عروساً جميلة.والجدار يوحي بالجفاف، والقسوة، والجمود، ويحيل إلى المثل العامي « ظل رجل ولا ظل حيطة» ؛ فهي تخالف المقولة وتفضل الجدار على هذا الرجل الذي تنكّر لكل خير منها.
وفي قصة شقائق النعمان كانت الحديقة هي ملاذ الموظفة الأول لتدليل نفسها، ثم لما كسر السائلون يومها صارت الحقيبة هي ملاذها، ثم لما سألها رجل شيخ عجوز عن الزواج لجأت إلى هاتفها إلى العالم الافتراضي فحقيبتها لم تعد ملاذًا مناسبا.
 المكان الغائب الحاضر
وتخفي الكاتبة المكان في بعض القصص فلا تذكره، ولا تشير إليه، وإنما تترك آثاره واضحة في النص ليملأ المتلقي فجوة المكان من خياله وتوقعه.ففي قصة «ذكرى» تترك الكاتبة للقارئ أن يتصور المكان في جمل حوارية تقود إلى قاعة المحكمة التي ستكون مكانًا لإنهاء العلاقة الزوجية التي لم تكمل عام--ها الأول، ووصول الزوجين إلى قاعة المحكمة يشير إلى أن الخلافات بينهما استعصت وتفاقمت، وأن نهاية مؤسفة للزواج تلوح في الأفق، فالمحكمة مكان للفصل بين النزاعات، وتحصيل الحقوق المادية والمعنوية.
وفي قصة «تجاعيد» أخفت الكاتبة المكان وغيبته لتترك للقارئ أن يتخيله ويرسمه، وتعويم المكان أو إخفاؤه في القصة هو إيحاء عميق بأن هذا الحوار المليء بالمجاملة والكذب الذي جرى بين المرأة والرجل يجري في كل مكان يلتقي فيه رجل وامرأة، فليس للمكان أهمية أو دور في تشكيل طبيعة الحوار ولا في محتواه ولا نتائجه لأنه نتاج طبيعي لعلاقة بنيت على أسس غير متينة.
وفي قصة»واقع» تخفي الكاتبة المكان وتغيبه لأن العاشق الجديد الذي يعلن حبه للفتاة يشبه من قالوا لها أحبك وغادروا. وتركُ ذكر المكان هو تعميم لهذا الموقف فهذا حوار بين ذكر وأنثى قد يجري في أي مكان.
 المكان المؤثر الموحي الفاعل
ويصفق جمهور المسرح طويلًا في قصة «الجميلة والكهل الدميم»، للفتاة الجميلة التي تزوجت الكهل الدميم وأحسنت دورها، ورفعت يد الكهل ليشاركها تحية الجمهور، ثم ركلته بعيدًا ليلملم صورها التي امتلأ المسرح بها. واختيار المسرح للدلالة على العلاقات المبنية على أسس واهية هو اختيار ذكي، فالمسرح مكان للخيال وللتمثيل لا الحقيقة والشعور الصادق، والفتاة الجميلة أدت دورها أمام الناس وأقنعتهم أنها سعيدة بزواجها، ولكنها حين خلا المسرح أظهرت حقيقة مشاعرها.
وفي قصة «حب مؤقت» يوحي اختيار محطة القطار لتكون مكانًا للقاء الحبيبين أن اللقاءات السريعة العابرة لا تبني حبا دائماً ثابتا، فمحطة القطار مكان للوداع واللقاء والاستقبال والمغادرة لا يسكنه أحد.
وفي قصة «رحيل» كانت غرفة النوم هي المكان الذي أوقفها فيه الباب الذي حمل صفات بشرية مكنته من إيقافها وسؤالها عما تحمله في حقيبتها، وفي غرفة النوم تجمعت كل ذكرياتها، وماضيها، فهو المكان الذي يحوي خزانتها وصندوق مجوهراتها، وألبوم صورها. وبعد أن رتبت ملابسها وصففت مجوهراتها، واستلت صورة من ألبومها استوقفها الباب مرة أخرى ليسألها عما تحمله في يدها فدفعته فهوى على الأرض، ثم مزقت الصورة وانتشت بالغناء. ويتجسد الزوج في القصة باباً كثير الأسئلة بلا عواطف، فهو مكان للعبور أو المغادرة لا للحب والمشاعر،وهمه مادي لا عاطفي، استسهل رحيلها، وهي تركت له في الغرفة كل شيء يذكرها به.
لقد ازدحمت غرفة النوم «مكان القصة» بالأحداث والقرارات، واختيار غرفة النوم هو اختيار موفق لأنها تمثل الحياة الزوجية، فهو المكان الذي تبدأ منه الحياة الزوجية وهو المكان الذي تنتهي منه الحياة الزوجية غالبا. وأما السقوط على الأرض فهو إعلان لانتهاء تلك العلاقة.
وفي قصة «شقائق النعمان» كان المكتب هو المكان الطارد المتعب الذي قررت الموظفة أخذ إجازة بعيداً عنه لتدلل نفسها، لكن قدميها قادتاها إلى حديقة مجاورة للمكتب، وفي الحديقة (المكان الجاذب) لاحقتها طلبات رواد الحديقة وأسئلتهم، فقطعت إجازتها، وعادت إلى عملها. وتوحي القصة بأن ما يجعل المكان طاردًا أو جاذبًا هو الإنسان، فما جعل المكتب طاردًا هو العمل مع مدير شديد، وما جعل الحديقة جاذبة هو طبيعتها بزهورها وألونها وخضرتها، وما جعلها طاردة هو طلبات الناس وأسئلتهم.
وتنتصر الأمومة في قصة «أحلام مؤجلة»على رغبات الأم في تدليل نفسها، وكان البيت هو المكان الذي امتلأ بأحلام الأم، والمكان الذي انتصرت فيه الأمومة على رغبات الأم، ففي البيت ينتصر الواقع دائما على الأحلام، فهو المكان المغلق الذي تمحو فيه الأمومة الأماكن كلها مهما كانت - براقة مغرية .
وينتصر البيت في قصة «زينة»، حيث الزوجة التي تخلت عن وظيفتها لأجل بيت الزوجية، والابنة الصغيرة، على مشاعر الزوج في مكان انتظار الحافلات حيث التقى الصبية الجميلة اللطيفة وأعجب بها، وتوحي القصة أن البيت الذي بني على أسس سليمة هو موطن للحب والعواطف الثابتة الصادقة المنتصرة على كل نزوة، أو هفوة، أو زلل ، وأما موقف انتظار الحافلات فهو موطن للمشاعر العابرة والعواطف المؤقتة.
وأما في قصة «خلوي»، فكان المقهى فيها مكاناً لصراع عميق بين العالم الافتراضي وعالم الواقع، حيث يجلس رجل وامرأة ينظر كل منهما إلى هاتفه، ويسترقان النظر إلى بعضهما بخجل. ولم يستطع المقهى أن ينتصر على مخاوفهما التي حملاها معهما إليه، ورافقتهما في طريق المغادرة، فهما رجل وامرأة جمعهما مكان افتراضي (عالم افتراضي) حاولا الخروج منه إلى الواقع بلقائهما في المقهى، ولم يستطيعا ولم ينجحا.
وفي قصة «رجل لن يأتي»، أوحى المكان» المقهى ذو الطابقين» بما تلاقيه كثير من النساء من خداع الرجال وخذلانهم فهو مكان للخذلان تعوّد فيه النادل رؤية المنتظرات اللاتي يخذلهن الرجال الذين لا يأتون، فالمرأة التي أغضبها تأخر الرجل نهرت النادل الذي كان ينظر إليها نظرة إشفاق وتعاطف، فيكشف صديقه لها ما تتعرض له من خذلان حين يضمها إلى منتظرة أخرى في الطابق العلوي، امرأة مثلها تنتظر وأمامها فنجانان من القهوة، ومن الباب على زاوية الصالة جاء رجل يمسح يديه.. رفع رأسه فجأة.. واتجه مسرعًا نحو الدرج السفلي.. وبصوت واحد صاحتا: أنا هنا!.
وبعد؛ فقد كان للمكان أثره الفني والمعنوي في مجموعة «مجرد صديقة» لـ»صبحة علقم وظفته الكاتبة بمهارة عالية، وبفنية متمرسة، وبذكاء ومكر وقصدية موحية، وكل ذلك في أبنية قصصية إبداعية متقنة والنسج.

 

 

المصدر: الدستور

20 أغسطس, 2021 04:50:02 مساء
0