تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مفهوم القيم المادية ومظاهرها

مفهوم القيم عموماً والقيم المادية

'); }

كلمة (القيمة) وجمعها (القيم) تُعتَبر من الكلمات التي تتمتّع بعددٍ من المعاني المُتباينة، بحسب مجال استخدامها والعلم الذي تذكر فيه الكلمة، فعلم اللغة يرى أن كلمة القيمة تُحدّد معنى الجملة، كما تكمن قيمة الألفاظ في سياقها وطريقة استخدامها، وفي الرياضيات والاقتصاد لكل مؤشرٍ وعددٍ قيمةٌ محددة، أما في الفن فلكل لون ولكل عنصر جمالي قيمة فنية ودلالية، تعبر عن العلاقة المرتبطة بين الكم والكيف، ومدى قدرتها على إبراز المعنى المراد للمتلقي. وبالمحصلة نجد أننا أمام فئات من القيم المتنوعة، كالقيم الاجتماعية، والقيم العددية، والقيم المادية، والقيم الفنية والنفسية، وتلك القيم بمجملها تختلف في استخداماتها ودلالاتها المتخصصة، وتتفق في أهميتها ومركزيتها في مجالاتها التي تعرَف بها. وبشكلٍ عام يمكن تعريف القيمة بأنها مجموعة المعتقدات التي يحملها الفرد اتجاه المعاني والأنشطة، والأشياء المختلفة، والتي تؤثر في توجهاته ورغباته، كما تخلق بشكلٍ نسبي وظاهري بوصلة للشخص في تحديد السلوك المقبول أو المرفوض، والصائب من الخاطئ.


إن الأشياء التي تتمتع بقيمة مرموقة من حولنا نجد أننا نوليها اهتماماً أكبر؛ لما لها من مكانة وأثر يعود بالنفع الروحي أو الاجتماعي أو المادي علينا كأفراد ومجتمعات، وعلى صعيد الأفكار والقيم والمبادئ، منها ما يرفع من وعي الإنسان وفكره فيقدّرها، ومنها ما يُسيء إليه ويُقلّل من مستواه فينبذها ويتخلى عنها، فقد أورد الدكتور طه عبد الرحمن في تعريفه للقيم، فيقول: "القيم هي جملة المقاصد التي يسعى القوم إلى إحقاقها متى كان فيها صلاحهم، عاجلاً أو آجلاً، أو إلى إزهاقها متى كان فيها فسادهم، عاجلاً أو آجلاً"، فالمجتمع ينتقي قيمه التي يرتضيها وتحقق له مصالحه ورفعته.


بطبيعة الحال ترتبط القيم التي يتبناها الإنسان ببعضها البعض، لتشكل نسيجاً يصعب الفصل بين عناصره، وقد تطغى بعض القيم على بعضها الآخر، ويتجلى ذلك عند اتخاذ القرارات المهمة، عندها يحتكم الفرد للقيم الأكثر موثوقية لديه، فيبني قراره مرتكزاً على تلك القيم، وبذلك يمكن معرفة معتقدات، وقيمٍ، واهتمامات شخصٍ ما، فإن غلب عليها البعد المادي، من تسييدٍ للمظهر، ولمكانة، وأثر المال والترف، وتحييدٍ للجوهر وما سواها من الأولويات، عندها تكون القيم المادية هي المسيطرة، حيث يتمحور حولها الاهتمام، ويبنى التقييم والتفضيل استناداً على توفرها من عدمه.

 

من مظاهر القيم المادية وآثارها

تعتبر العولمة ببعديها النظري والواقعي، أحد أهم التجليات التي تدعو لإعلاء القيم المادية على سواها من القيم، فهناك من يعتبر أن العولمة نظام فكري مفرّغ من القيم، ساهم في إهدار قيمة الإنسان والأخلاق، وأفسد موازين المفاضلة والتمايز بين البشر، وغيّب المرجعية الفكرية والقيمية التي يحتكم لها الناس، فصار الإنسان ينفك عن جذوره ويبتعد عن ثوابته، معلناً تحيّزه للقيم المادية وتفرده عن أسرته ومجتمعه، ويتزايد ذلك مع تكثيف الترويج للعولمة عن طريق الصورة التي توظف لخدمة القيم المادية أو اللذة المطلقة، وليس لخدمة القيم الجمالية التعبيرية المحايدة. وآخرون يعتبرون العولمة نظاماً مبنيّاً على أسس قيمية عالمية تضم الإنسانية كاملةً، وتحقق مصلحة الفرد وتدعم استقلاله المعنوي، والمادي، والفكري، وفريقٌ ثالثٌ يرى أن للعولمة قيماً داخلية لكنها تفتقر للإصلاح والتقويم بمزيد من الثوابت والغايات العليا التي تعيد الاعتبار لكيان الفرد والمجتمع، بكافة قيمه ومبادئه وتقاليده.

 


يشير عدد من الباحثين في علم النفس الاجتماعي، لعلاقة ترابطٍ غريبةٍ بين آثار التعرض للإعلانات التلفزية، ومدى تعزيزها للقيم المادية، مع ربطها بمستوى الرضا عن الذات والحياة، شريطة أن يتم إدراك المعاني الرمزية والصريحة، التي تشير للقيم المادية في الإعلانات، حيث تنشأ علاقة عكسية بين نسبة التعرض للإعلانات المروِّجة للقيم المادية ومدى الرضا عن الحياة، فكلما زاد التشبع بمركزية القيم المادية قلت مستويات الرضا عن الحياة والثقة بالذات.[٤]


إذا كان التوظيف السلبي للقيم المادية يساهم في تنحية الثوابت الأخلاقية والقيم العليا المنظمة لسلوكيات واختيارات الأفراد في المجتمع الواحد، فهو بشكلٍ أو بآخر سيؤثر بذات المستوى في الأسرة وعلاقة أفرادها المؤسّسة على البر، والإحسان، والاحترام المتبادل، كما أن تهميش تلك القيم والأخلاق هو مدعاة للأنانية والتزمّت بالرأي والموقف، دون اعتبار لبر الوالدين وطاعتهما، أو الانضباط لقواعد المجتمع ومنظومته القيمية، وعواقب تلك الإجراءات هو عقوق وجحود وصد عن أي فرصة إيجابية، تمنح الحياة بعداً أعمق وأكثر صدقاً نحو ذات الفرد وأسرته ومجتمعه.

 

أهمية مظاهر القيم وآثارها على الفرد والمجتمع

تكمن أهمية القيم في محورية دورها المنعكس على تربية الإنسان واهتماماته، وعليها يرتكز الإنسان في بناء شخصيته، والمجتمعات كذلك على اختلاف عقائد الناس وثقافاتهم، وتتبدّى أهمية القيم عامةً، والقيم المادية خاصة، في آثارها ومظاهرها على الفرد والمجتمع، ومنها ما يأتي:

 

مظاهر القيم وآثارها على الفرد

من هذه المظاهر ما يأتي:

  • تتجلى مظاهر القيم في (شخصية الإنسان القيَمي) المتصفة بالاتزان، والتماسك، والحكمة، والرجاحة، لاعتمادها على المبادئ، والثوابت، والقيم.
  • الشعور بالطمأنينة للتحلي بالقدرة على ضبط النفس وتحقيق الاتزان الذاتي.
  • تتناسق بالقيم نشاطات الفرد وقراراته، فهي توجهه بناءً على مرجعياته ومعاييره، لتُستخدم فيما بعد كأداة للتقييم والقياس.
  • تمنح الفرد الثقة وموهبة التكيف مع مختلف الظروف والتعامل الحكيم معها، وتمده بالرضا، وقوة الإرادة، والعزم، وتبعده عن التشتت، والإحباط، والانحراف، والتبعية.

 

مظاهر القيم وآثارها على المجتمع

من هذه المظاهر ما يأتي:

  • تؤثر القيم المجتمعية في توازن وثبات حياة المجتمع، فهي تجعل مكوناته أكثر ترابطاً وتناسقاً، لأنها تخضع لذات الإطار المرجعي والقيمي بصفته العامة.
  • تعطي المجتمع منظومةً من المعايير العامة، تساعده على مواجهة المتغيرات، والتحديات الثقافية والأخلاقية، مع تأمين نوع من أنواع الرقابة الذاتية المتأصلة في شخصية الإنسان القيمي.
  • تساهم في مساندة المجتمع نحو تحقيق أهدافه ومُثُله العليا، لأنها تعتمد في أساسها على منطق عقلي مقنع، تتحقق معه مصلحة الفرد والمجتمع.
  • إن تبني القيم والتمسك بها، يشكل حافزاً لتطوير المجتمع ومواصلة تقدمه، ما يُشكل درعاً يحمي المجتمعات من التهميش، والاستسلام، والتطرف، وفقدان الإرادة، والثقة.

 

أثر القيم المادية على الحضارة العربية والغربية

تبدو الحضارة الغربية مذهلة بالتقدم العمراني والصناعي والمادي الذي حققته، ولا يمكن لأحدٍ أن ينكر عليها ذلك، ولكن بنظرةٍ فاحصةٍ ومتعمّقةٍ، نجد أن للحضارة كما للإنسان روحٌ وجسد، ولعل الحضارة الغربية قد اعتنت بالمظهر وأغفلت الجوهر، في حين أن الحضارة العربية والإسلامية في أزمان ازدهارها قد أسست (روح الحضارة) التي تهتم بالعلم، والجمال، والمنطق، والفلسفة، والطب، والفلك، وفنون العمارة، والرّسم، والخط جزْءاً لايتجزّأ من الثقافة المجتمعية، دون إغفال القيم والغايات العُليا للإنسان، بل وبالارتكاز عليها في تشييد كل تلك المعارف والمنجزات العلمية التي شيدت حضارة متكاملة، جمعت بين المظهر والجوهر، وحققت انسجاماً ملهماً ومتناغماً بين القيم المادية والقيم النفعية، فوظفت الماديات بكليّتها لخدمة القيم الروحية العليا، فسمَت القيم المادية لارتباطها بجذور قيمية راسخة، تفوقها بالمكانة والأولوية.

12 سبتمبر, 2021 02:39:52 مساء
0