تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
عبد اللطيف ولد عبد الله «عين حمورابي» للكاتب الجزائري رواية الانشطار الدامي بين جحيم المنفى ولعنة المكان الأصلي

قليلون جداً في العالم العربي هم الروائيون الذين يمتلكون ناصية السرد، المشوق والمحكم، كما هو حال الكاتب الجزائري الشاب عبد اللطيف بن عبد الله في عمله المميز «عين حمورابي». إذ لا يكاد قارئ ولد عبد الله يفرغ من قراءة الصفحات الأولى من الرواية، حتى يشعر أنه أمام عمل محكم السبك وبالغ الإتقان، وأن عليه أن يتابع القراءة حتى نهاية العمل. كما أن قدرة المؤلف على إبقاء الحدث الروائي في حالة توتر وإبهام دائمين، لا يترك أمام القارئ أي فرصة للتراخي أو التقاط الأنفاس. وفي أفق ملبد بالتوتر والخوف والمنعطفات غير المتوقعة، يظهر المؤلف قدرة عالية على الجمع الحاذق بين عناصر التشويق والحبكة البوليسية، وتوظيف الأساطير والخرافات، والمعتقدات الشعبية المترسخة عبر الزمن في النفوس والأذهان.


يعمد ولد عبد الله في «عين حمورابي» إلى إيلاء مهمة السرد لبطل الرواية وحيد حمراس، اللائذ بإحدى الثكنات العسكرية، هرباً من غضب الحشود التي راحت تطارده بدعوى اعتدائه على ضريح الولي الصالح «المجدوب» وسرقته وتخريبه. أما العرض اللافت الذي قدمه الضابط المسؤول عن الثكنة للبطل المطارد، والذي قضى بتوفير الحماية لهذا الأخير مقابل تزويد السلطة بالرواية الكاملة للأحداث، فقد وفر للمؤلف الحيلة الملائمة لتنفيذ مخططه السردي، بقدر ما وفر للراوي الفرصة الموازية لإعادة تركيب حياته المخلعة وانتشالها من عهدة النسيان. ولعلهم لم يجانبوا الحقيقة في شيء أولئك الذين أشاروا إلى النسب «الشهرزادي» لرواية ولد عبد الله، ليس فقط لأن أحداث هذه الرواية يتناسل بعضها من البعض الآخر، كما هو حال الرواية المشرقية المؤسسة، ولا لأنها تجمع بشكل شديد التداخل بين الواقعي والمتخيل، بل لأن قاعدة «تكلم أو مت» التي انبنت على أساسها «ألف ليلة وليلة»، هي ذاتها القاعدة الأساس التي أعطت للرواية الثانية مسوغها، بحيث بدا الضابط المسؤول معادلاً لشهريار، بقدر ما بدا وحيد حمراس بمثابة النسخة الذكورية المعاصرة من شهرزاد. ولأن بطل ولد عبد الله هو نفسه الراوي، فقد أمكن لضمير المتكلم أن يكسب العمل قدراً عالياً من الحرارة والتوهج، بقدر ما أتاح للقارئ فرصة التماهي مع البطل، والتعاطف الوجداني مع ما يواجهه من مخاطر ومكابدات. وإذا كانت الرواية، رغم طابعها الملتبس وأحداثها المعقدة، تبتعد عن التعسف التأليفي، فإن ذلك لا يتنافى مع الدلالات المقصودة للأسماء، بحيث يعيدنا عنوان الرواية إلى شريعة الملك البابلي المعروف، القائمة على القصاص المتناسب مع العمل الجرمي، لا المسامحة والإفلات من العقاب. كما أن اختيار اسم البطل لم يكن وليد الصدفة، بل أراده المؤلف أن يكون تعبيراً رمزياً عن المعاناة المزدوجة للإنسان العربي، المتناهب بين الوحدة القاتلة و«الاستحمار» التام.


لم يكتف وحيد حمراس خلال التحقيق معه بإعطاء المعنيين ما يفيدهم من شهادته الشخصية حول ما حدث له مع مطارديه، بل بدا كما لو أنه وجد الفرصة الملائمة لاستعادة حياته بكاملها، ولتصفية الحساب مع الماضي، ومع المكان الذي ظل يطارده كاللعنة أينما ذهب. فقد روى حمراس بتدفق متواصل، لم تقطعه سوى استفسارات المحققين وتنبيهاتهم المتفرقة، قصة هجرته إلى فرانكفورت وإقامته هناك لثماني سنوات كاملة، متخصصاً في علم الآثار، قبل أن يطلب إليه صديقه دونالد هاردي، أن يعود إلى وطنه الأم ضمن البعثة التي أنيط بها الكشف عن اللقى الثمينة التي كان عالم الآثار الألماني هاينريش والتسان قد أشار إلى وجودها في أحد الأضرحة «المقدسة» في مسقط رأسه المهاجر الجزائري. وخلال السرد يكشف الراوي عن أن الحراق والمجدوب اللذين أعطيا اسميهما لقريتين متقابلتين أقيمتا هناك، قبل أن تباعد بينهما المشاحنات والأسلاك الشائكة، لم يكونا وليين صالحين في حقيقة الأمر، بل هما اسمان مختلقان اخترعتهما مخيلة العالم الألماني والتسان للحيلولة دون اكتشاف الكنوز واستخراجها. وهو أمر لا تنحصر دلالاته بالكشف عن تحويل التفوق الثقافي والفكري الغربي إلى أداة للسيطرة وإحكام النفوذ، بل يتعدى ذلك إلى النفخ في أبواق المشاعر الدينية، واختلاق «مقدسات» لا وجود لها، لتأبيد حالة التخلف والجهل، ولصرف الناس عن التصدي لمشكلاتهم الحقيقية.


منذ لحظة عودة حمراس إلى مسقط رأسه، الخاوي سوى من كوابيس الماضي، تأخذ أحداث الرواية وتائر معقدة وصادمة وبالغة القسوة. أما شخصيات العمل فتكاد تبدو على اختلاف وجوهها، تجليات لوجه واحد محكوم بالاضطراب واللاسوية والانحراف السلوكي. فإلى الانشطار الفصامي لشخصية وحيد حمراس، هناك «أ» القاتل المتخفي الذي يطارد الشاب العائد إلى قريته من مكان إلى مكان مرتكباً العديد من الجرائم. وهناك الألمانية هيلين بلانك التي تعترف لوحيد، رغم إعجابها به وزيارتها له في بيته، بأنها اختارت مرافقة البعثة لتعلقها العاطفي بـ«ك»، رئيس البعثة الذي يتابع مع حمراس مغامرة نبش الضريحين والعثور على الكنز، قبل ملاحقتهما الشرسة من قبل الأهالي. وهناك فاطمة، الجارة التي تقطن مع ابنتها وابنها الطفلين إلى جانب منزل حمراس العائلي، والتي استقبلته في بيتها دون تحرج، ولم تتردد في اطلاعه على تعرض أمه المتكرر للإهانة والعنف الجسدي من قبل أبيه، وصولاً إلى هربها واختفائها اللاحقين. وفي عالم القسوة هذا، ما يلبث وحيد أن يحاط علماً بشأن الجريمة التي ارتكبها والده «الافتراضي» بحق أمه، وبتهمة خيانتها له، قبل أن يعمد شيخ القرية عبد الوهاب القرشي إلى إلباس الجريمة لبوسها «الشرعي» وتزويج القاتل من إحدى بناته. كما يلتقي حمراس بنجاة عزرا، حبيبته السابقة، التي أثارت ريبة أهل القرية بسبب إقامتها في منزل الحمداوي، المتخصص بشؤون الرقى والتعاويذ والتداوي بالأعشاب، والذي أكد لوحيد علاقته العاطفية بأمه المقتولة، مؤكداً له أنه والده الحقيقي، قبل أن تتسارع الأحداث بشكل دراماتيكي، حيث يتم رجم الحمداوي وعزرا حتى الموت بتهمتي الشعوذة والزنا. وفي هذه الأثناء يقوم قاتل مجهول بتنفيذ العديد من الجرائم الأخرى، مقتلعاً بشكل وحشي الأعضاء التناسلية لضحاياه الذكور.


على أن الأمور ما تلبث أن تختلط على القارئ في القسم الأخير من الرواية، ليجد نفسه مرة أخرى إزاء مسار مغاير للأحداث، حيث تظهر له الطبيعة الفصامية لشخصية البطل الراوي، وحيث نكتشف أن فاطمة التي ادعى حمراس زيارته لها مع ولديها، لم تكن سوى زوجته التي تعرضت للاغتصاب والقتل قبل سنوات عدة، وأن الزيارة تلك كانت واحدة من بنات أوهامه. أما هيلين بلانك فكانت من جهتها ثمرة تشوشه الذهني الذي جعله يخلط بينها وبين صديقته الألمانية ماتيلدا، التي ربطته بها علاقة عاطفية سابقة، وكذلك الأمر بالنسبة لـ«ك» الذي لم يتأكد وجوده الفعلي، وللقاتل الغامض الذي يشير اختزاله بالحرف «أ» إلى هويته الملتبسة والمتأرجحة بين «أنا» الأب غير البيولوجي، والساعي إلى الانتقام لـ«شرفه المطعون»، وبين «أنا» الابن المنفصمة إلى حدود التشظي.


لقد نجح عبد اللطيف ولد عبد الله، أخيراً، في تسليط الضوء على الحقبة الأشد هولاً من حقب التاريخ الجزائري، حيث بلغت المواجهة الدامية بين السلطة الحاكمة وبين قوى الظلام التكفيري حدودها القصوى، بقدر ما بدا أفق الخروج من النفق مسدوداً تماماً. وقد استطاع المؤلف أن يطرح بمهارة وحذق أكثر الأسئلة المتعلقة بالواقعين الجزائري والعربي إشكاليةً وعمقاً. إذ ثمة ما يتعلق بالهوية المثلومة التي تحاول ترميم نفسها في مرآة الغرب الاستحواذي. وثمة ما يتعلق بالأساليب العنفية وغير الأخلاقية التي لجأ إليها كل من الطرفين الرسمي والتكفيري، بهدف الانتصار على الآخر، ولو تطلب الأمر ارتكاب الكثير من المجازر وعمليات السرقة والنهب المنظم. وثمة ما يتعلق برسم الحدود المفتعلة بين الدول، لحماية المصالح الخاصة وشبكات التهريب. وثمة ما يتعلق باختراع مقدسات وأولياء مزورين لتوفير خطوط آمنة للصوص الداخل والخارج. وثمة ما يتعلق بالصراع الأبدي والضاري بين الهوية المتحققة والهوية العصية على التحقق، بين لعنة المكان الأصلي وجحيم المنفى. وهو ما حول عمل عبد اللطيف ولد عبد الله إلى سلسلة متواصلة من الألغاز، وحول بالقدر نفسه شخصية بطلها الرئيسي إلى بؤرة من الضياع وحفنة من الهلوسات.

 

 

 

 

المصدر: الشرق الأوسط 

 

19 سبتمبر, 2021 12:31:57 مساء
0