تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

حريق المجمع العلمي: كارثة في القاهرة

يتناول جوناثان داونز الحريق الذي اندلع في ديسمبر من عام ٢٠١١ في المجمع العلمي، أحد أعرق المؤسسات العلمية في القاهرة، مسبِّبًا أضرارًا جسيمة في واحدة من أهم مجموعات المخطوطات التاريخية.

قُبَيْل أعياد الميلاد عام ٢٠١١، ارتجَّت أرجاء عالم الثقافة بالأخبار الصادمة عن اندلاع النيران في المجمع العلمي في القاهرة، والتي أتت على كثير من محتوياته. والمجمع العلمي هو الأقدم من نوعه في مصر والشرق الأوسط، ويضم بين أركانه ما يربو على ٢٠٠ ألف مجلد أثري ومخطوطة قديمة، جمع العديدَ منها العلماءُ الفرنسيون الأوائل الذين اصطحبهم معه نابليون في حملته على مصر عام ١٧٩٨، وظلَّ المجمع كذلك إلى أن احترق يوم السابع عشر من ديسمبر من عام ٢٠١١، وقد كلَّفَ ذلك مصر حوالي ١٧٠ ألفَ عمل من تراثها الثقافي الذي لا يُقدَّر بثمن.

المبنى أثناء أعمال الترميم، يناير ٢٠١٢.

المبنى أثناء أعمال الترميم، يناير ٢٠١٢.

ما إنْ اندلع الحريق حتى أسرع المحتجون والجنود، على حدٍّ سواء، إلى المبنى المحترق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بينما كانت سيارات الإطفاء تشقُّ طريقها بصعوبة وسط الفوضى التي كانت تسود شوارع القاهرة، لتصل بعد فوات الأوان. وفي النهاية، لم يُنقَذ سوى ما يتراوح بين ٣٠ و٤٠ ألفَ عمل، ومع ذلك كانت الخسارة فادحة؛ فقد أتَتِ النيرانُ على «أطلس مصر السفلى والعليا» الذي يعود إلى عام ١٧٥٢، وكذلك «أطلس الفنون الهندية القديمة»، و«أطلس هاندلر»؛ وهو أطلس ألماني يرجع إلى عام ١٨٤٢ من مجموعة محمد علي، وهذه النسخة يُعتقَد أنها النسخة الوحيدة المتبقية منه. وكانت الخسارة الأكبر هي ذلك العمل الذي لا يُضاهَى الذي كتبه علماء حملة نابليون بأنفسهم؛ حيث احترقت نسخة القاهرة من كتاب «وصف مصر» الضخم المكوَّن من ٢٠ مجلدًا.

ورغم تأسس المجمع على يد الأوروبيين خلال عصر التنوير في القرن الثامن عشر، فإنه مقيَّد ضمن الآثار الإسلامية والقبطية. وكان أول إجراء يتخذه وزير الآثار وقتها محمد إبراهيم، والذي ربما يدلُّ على وعي جيد بالتاريخ، أن اتصل بالسفير الفرنسي في القاهرة طالبًا مساعدةَ فرنسا في ترميم المبنى المحترق.

أكد الوزير قائلًا: «إن المخرِّبين قد خطَّطوا لهذه الجريمة، وكل المصريين رأوهم على القنوات الفضائية وهم يضرمون النيران في الطابق الأرضي من المبنى.» في حين تقول نهال عبد العاطي، وهي طالبة هندسة في العشرين من عمرها: «إن الأشخاص الذين فعلوا ذلك لا يمكن وصفهم بالثوَّار، الذين لن يفعلوا شيئًا لا أخلاقيًّا على الإطلاق كهذا»، وأضافت: «بل لا يمكن حتى وصفهم بالمصريين؛ إذ إنهم يريدون أن يقولوا للعالم إنه لا يوجد مكان للمعرفة على أرض مصر.»

نُشِر كتاب «وصف مصر» على مدار العقدين ما بين ١٨٠٩ و١٨٢٩، ويضم صورًا مليئة بالتفاصيل المهمة؛ مما جعل الكتاب ظاهرة فريدة في تاريخ النشر؛ فقد كان الكتاب ضخمًا جدًّا لدرجة تحتم معها صناعة آلة طباعة خاصة لطباعة صفحاته. وقد كان الكتاب أول مثال يُقدَّم لأوروبا على الكنوز المصرية، وكان يضمُّ نتائجَ بعثةِ العلماء التي استغرقت ثلاث سنوات لصالح نابليون، والتي كانت مُكلَّفَة بتوثيق وتسجيل كلِّ شيء يرونه في هذا البلد القديم، بدءًا من برمائيات نهر النيل وحتى حجر رشيد.

في سن التاسعة والعشرين، كان نابليون قد بات شخصيةً قويةَ النفوذ إلى حدٍّ خطيرٍ في فرنسا، وكانت رغبته في غزو مصر وفتح قناة السويس القديمة لمهاجمة الهند ينظَر إليها بشيء من الحماس من قِبَل حكومة كانت ستسعد برؤيته وجيشه الخاص أبعد ما يكونان عن باريس. وقد تحقَّق غزو مصر ﺑ ٥٠ ألفَ رجلٍ جاءوا في ٤٠٠ سفينة، وهو أسطول يفوق أسطول آرمادا الإسباني مرتين.

انتشر العلماء الذين كانوا يضمون بعضًا من أروع فنَّاني فرنسا في أرجاء البلاد يصوِّرون ويرسمون ويسجلون كل أثر قديم يجدونه، وقد أدَّتْ جهودهم تلك إلى ميلاد علم المصريات وإعادة اكتشاف الأوروبيين لأقدم الحضارات القديمة. ويمكن القول إن أشهر كنوزهم تتمثَّل في حجر رشيد، الذي وصل إلى المجمع العلمي في أغسطس ١٧٩٩، لكنه سُلِّم إلى البريطانيين المنتصرين الذين غَزَوا مصر وهزموا جيش نابليون المستنزف عام ١٨٠١.

وقد كان المجمع العلمي الأصلي يتألَّف من المنازل السابقة لقادة المماليك المهزومين، وبالتحديد حسن بك وقاسم بك، والتي سرعان ما تحوَّلَتْ على يد العلماء الفرنسيين إلى مكتبات ومعامل وقاعات محاضرات مفتوحة للجميع؛ فقد زار بعض علماء الجامع الأزهر المجمع ذات مرة ليشهدوا بعض التجارب الكيميائية الفرنسية، في واحدةٍ من أولى عمليات التبادل العلمي والثقافي الداخلي في ذلك الزمان. واستمرَّ المجمع في العمل كمركز لعلوم المصريات والدراسة المتعددة التخصُّصات.

مع ذلك، لم يخسر المجمع كلَّ شيء؛ فقد أعلن الشيخ سلطان القاسمي، حاكم إمارة الشارقة، أنه سيرمِّم المبنى على نفقته الشخصية، وسيتبرع ببعضٍ من مقتنياته النادرة للمجمع. علاوة على ذلك، ليست هذه نهاية كتاب «وصف مصر»؛ حيث لا تزال توجد نُسَخٌ عديدة منه في بريطانيا وفرنسا. في واقع الأمر، من الممكن أن يعطي الحادثُ قوى أوروبا الاستعمارية القديمة مواقفَ أقوى في جدلية إعادة القِطَع الأثرية إلى أوطانها الأصلية وتبادلها وملكيتها المشتركة.

 

02 ديسمبر, 2015 11:40:22 صباحا
0