تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

التاريخ على الشاشة الفضية: الحرب الكبرى

يستعرض تايلور داونينج كواليس السلسلة الوثائقية التليفزيونية الرائدة التي انطلقت بها محطة بي بي سي٢؛ احتفاءً بالذكرى الخمسين للحرب العالمية الأولى.

في منتصف خمسينيات القرن العشرين، كانت قناة بي بي سي التليفزيونية تغلق لمدة ساعة في تمام السادسة مساءً — وهو ما يصعب تصديقه في عصرنا الآن — حتى يتفرغ الآباء لإيواء أبنائهم إلى الفراش. وقد أُطلِق على هذا النظام اسم فترة «سكون الرُّضَّع». وعندما بدأ بث آي تي في — في عام ١٩٥٥ — تجاهلت المحطة هذا الأمر، وقررت بي بي سي أيضًا أنها لا بد أن تتخلى عن فترة السكون هذه وتبتكر شكلًا تليفزيونيًّا غير مسبوق تملأ به هذه الفجوة. وكان ذلك في صورة برنامج «الليلة»، وهو البرنامج الجديد الذي عرَّف المشاهدين في منازلهم على جيل جديد من المذيعين؛ مثل كليف ميتشلمور وديريك هارت وألان ويكر. لقد كانت العقول المسئولة عن إخراج البرنامج عقول شباب أذكياء في بي بي سي؛ إذ كان دونالد بيفرستوك — ٣٣ عامًا — هو المسئول عنه، وكان السدير ميلن، البالغ وقتئذٍ ٢٧ عامًا، يدعم بيفرستوك دعمًا مؤثرًا. وفيما بعد، ارتقى هذان الرجلان إلى وظائف متميزة في التليفزيون؛ فتولى بيفرستوك في النهاية إدارة محطة تليفزيون يوركشاير، وأصبح ميلن المدير العام لبي بي سي في ثمانينيات القرن العشرين. وكان شكل برنامج «الليلة» مختلفًا تمامًا عن أي برنامج آخر في وقته؛ فكان يعتمد جزئيًّا على برامج شاهدها بيفرستوك في التليفزيون الأمريكي، على نحو قريب الشبه بتصفح المجلات؛ حيث يحتوي على سلسلة من الفقرات القصيرة. كما كانت طبيعته غير رسمية على نحو ممتع، مقارنةً بكثير من برامج بي بي سي. أهم من ذلك أنه كان يسلط الضوء على أشخاص ويستضيفهم في منازلهم أو أماكن عملهم، بدلًا من مطالبتهم بالحضور إلى الاستوديوهات التي قد تُشيع الرهبة في نفوسهم. لقد كان برنامج «الليلة» يدور حول الناس، وكان يُولِي البستانِيِّين وربَّاتِ البيوت وسائقي القطارات اهتمامًا كبيرًا، تمامًا مثل اهتمامه بأعضاء البرلمان.

بدأ بث برنامج «الليلة» في فبراير عام ١٩٥٧، وسرعان ما أصبح له جمهور يومي يُقدر بنحو ٨ ملايين نسمة. وأراد كثير من الموهوبين المبدعين داخل محطة بي بي سي العمل فيه، فانضم للبرنامج كلٌّ من جاك جولد وجون سليسينجر (اللذين أصبحا فيما بعد من صنَّاع الأفلام الناجحين). كما عمل توني إسيكس — وهو محرِّر أفلام — على تحرير العديد من الفقرات القصيرة في «الليلة»، وأضاف المراسلون الجدد — مثل فايف روبرتسون وجوليان بيتيفر وكينيث أولسوب — إلى المواهب المتجسدة على الشاشة. وانضم إلى الفريق أيضًا عدد كبير من الصحفيين من مجلة بيكتشر بوست عقب إغلاق المجلة في يوليو ١٩٥٧. وفي أوائل ستينيات القرن العشرين، أرادت هذه المجموعة النشطة أن يتجاوز دورها مجرد إنتاج فقرات قصيرة في برنامج يومي. فأُنشئت شركة تونايت بروداكشنز، برئاسة السدير ميلن، التي أنتجت بدورها أفلامًا وثائقية فريدة من نوعها. فصنع ألان ويكر سلسلة وثائقية عن الحياة في أستراليا. وكان الأسوأ سمعة على الإطلاق البرنامج الساخر الذي قدَّمه نيد شيرِن مساء أيام السبت «الأسبوع الفائت»، الذي يعكس المناخ المناهض للسلطة، السائد في هذا الوقت؛ فكان يهاجم السياسيين وزعماء الكنائس، وأي شخص لا بد أن يدرك حجمه الحقيقي، من وجهة نظر الكتَّاب الشباب. وبطبيعة الحال، أدى هذا إلى إثارة ضجة ولَغَط، وفي نهاية ١٩٦٣ — مع اقتراب الانتخابات العامة التالية — تم وقف إذاعة هذا البرنامج.

وسط هذا التنوع المثير، خُطِّط لإنشاء قناة ثانية في شبكة بي بي سي. ولقد كان «الليلة» — منذ عام ١٩٦١ — يدرس أفكارًا بشأن إنتاج سلسلة وثائقية من أربع حلقات عن الحرب العالمية الأولى، باستخدام المادة الأرشيفية الوفيرة المتاحة في متحف الحرب الإمبريالية. وبمرور الوقت، نَمَت الفكرة لتصبح أكثر طموحًا وأوسع نطاقًا، وشاركت هيئة الإذاعة الكندية فيها. وفي أوائل ١٩٦٣، طرح أنتوني جاي الفكرة — في صورة سلسلة وثائقية من ٢٦ حلقة — على الشخص الذي سيصبح المسئول عن القناة الجديدة؛ بي بي سي٢، وهو مايكل بيكوك، الذي قال إن الفكرة «ضرورية» للقناة، لكنه تخوَّف من التكلفة؛ لذلك تقرر التعاون في إنتاجه مع بي بي سي١. وأصبح فيلم «الحرب الكبرى» — الذي خلَّد الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب — أول سلسلة وثائقية أصلية ومهمة لمحطة بي بي سي٢. وفي الثالث من مايو عام ١٩٦٣، وافق مجلس إدارة بي بي سي على المشروع، مشيرًا إلى أن متحف الحرب الإمبريالية سيتبرع بما لديه من شرائط أفلام مجانًا، وأن الأرشيفات العسكرية الفرنسية قد وافقت على بيع ما لديها من شرائط، ليس بالسعر المعتاد وهو ١٢٠ فرنكًا للقدم الواحدة، بل بعشرين فرنكًا فقط. لقد كانت شبكة بي بي سي في هذا الوقت — تمامًا كحالها الآن — مُولَعة بالصفقات.

صوت الشعب

كانت الأفلام التاريخية دومًا شائعة في التليفزيون؛ فلقد أذيع العديد من الأفلام الوثائقية الفريدة من نوعها عن الحرب العالمية الثانية، وظهر الجنرالات والأميرالات والقادة الجويون باستمرار على شاشة التليفزيون. وحققت سلسلة وثائقية أمريكية بعنوان «الانتصار في عرض البحر» نجاحًا باهرًا، وهي مجموعة من الأفلام الأرشيفية المصحوبة بتعليقات وطنية حماسية، وخلفية موسيقية لريتشارد رودجرز. هذا، وقد أنتجت بي بي سي سلسلة وثائقية بعنوان «سنوات الشجاعة»، قرأ فيها ريتشارد بِرتون مقتطفات من مؤلفات تشرشل على خلفية فيلم أرشيفي، غير أن فريق برنامج «الليلة» كان يضيف عنصرًا جديدًا بالكامل لهذا التنوع؛ فبالإضافة إلى الفيلم الأرشيفي والاقتباسات المأخوذة من الشخصيات العسكرية، التي يقرؤها الممثلون، أراد الفريق استضافة جنود بسطاء ومدنيين كانوا في قلب أهوال الحرب، وهو ما يعكس صوت الشعب الذي شكَّل جزءًا مهمًّا من برنامج «الليلة».

في يوليو عام ١٩٦٣، طالب مقدِّم برنامج «الليلة» كليف ميتشلمور بأن يُستضاف محاربون قدامى — من أصحاب الذكريات الحية عن الحرب — للتحدث عن قصص الحرب التي عايشوها، فانضمت جوليا كيف — التي لم تتعدَّ الرابعة والعشرين من عمرها — والشخص الذي عثر على أصحاب الوظائف الغريبة في برنامج «ما وظيفتي؟» إلى الإنتاج بصفتهما باحثَيْنِ من أجل اختيار الضيوف. وعندما عادت جوليا من إجازتها الصيفية، وجدت مكتبها ممتلئًا بحقائب الخطابات؛ فقد ردَّ على الأقل ١٠ آلاف شخص عليها، وكثير منهم أرسلوا إليها أيضًا بعض الهدايا التذكارية؛ مثل عُلَب تبغ ومذكرات وصور. وبدأت جوليا تقوم بالمهمة الصعبة المتمثلة في فحص المراسلات، واختيار الأشخاص الذين اعتقدت أن بإمكانهم التحدث بثبات أمام الكاميرا. لقد أدخل ظهور هؤلاء الرجال والنساء في السلسلة الوثائقية — الذين ما زالوا يتمتعون بالنشاط والحيوية في أواخر الستينيات أو أوائل السبعينيات من أعمارهم — عنصرًا جديدًا تمامًا على هذا النوع من الأفلام التاريخية عن طريق تركيز الاهتمام على تجربة الجنود الذين خاضوا المعركة وعانَوْا على الجبهة.

كان مُنْتِجَا السلسلة الوثائقية هما: توني إسيكس، مخرج العنصر البصري لجميع فقرات السلسلة، وجوردن واتكينز، محرر سابق ومنسق نصوص في برنامج «الليلة». كما عمل كثير من المؤرخين مستشارين للبرنامج، وفي كتابة السيناريو. وكانت الشخصيتان الرئيسيتان في البرنامج هما: جون تيرين وكوريلي بارنيت. وكم أثار اختيارهما فضول البعض من عدة نواحٍ! ففي مطلع ستينيات القرن العشرين، أُعيد إحياء الاهتمام بالحرب العالمية الأولى، عقب عقدين من الزمن غطَّت فيهما الحرب العالمية الثانية على الأولى بطبيعة الحال. ومن ناحية، استخدم ألان كلارك عبارة «أُسُود تقودها الحَمير» في كتاب صار الأكثر رواجًا. أما جوان ليتلوود، فقد أنتجت — من ناحية أخرى — المسرحية الموسيقية الشهيرة على نطاق واسع «يا لها من حرب جميلة!» التي أشادت أيضًا بالجندي البسيط، وسَخِرَت من القيادة العليا. وعادت شعبية شعراء الحرب مرة أخرى، ونُشِرَت طبعات جديدة من أعمالهم. غير أن المؤرخين الذين عيَّنتهم شبكة بي بي سي لم يعكسوا هذه الروح الجديدة. لقد كان جون تيرين مقتنعًا بأن حرب الاستنزاف هي نتيجة حتمية للاتجاه إلى التصنيع، وأن الجنرالات البريطانيين تعلَّموا من هذا وكيَّفوا أساليبهم وواصلوا الحرب حتى فازوا وهم يقودون أكبر جيش عرفته بريطانيا على الإطلاق. إضافةً إلى ذلك، عُيِّن باسيل ليدل هارت — المؤرخ العسكري الشهير — مستشارًا للسلسلة الوثائقية، وكان يُتوقَّع منه ألا يمارس سلطة الإشراف على المشروع بأكمله فحسب، بل يقلل أيضًا من التنقيح المفرط من جانب المؤرخين الأصغر سنًّا.

توتر حتمي

طوال عام كامل، عمل فريق العمل المتفاني — الذي كان مقره وكذلك مقر «الليلة» في استديوهات لايم جروف — بنشاط شديد؛ إذ شاهد الباحثون أكثر من ١٥٠ ميلًا من الأفلام الأرشيفية، وجرى تقليل سرعة عرض المشاهد المختارة في مختبرات — وهي عملية تُستخدم حتى يسير الفيلم الصامت بنفس سرعة عرض الفيلم الصوتي — حتى لا يبدو الرجال وهم يسيرون إلى الجبهة مسرعين وهزليين كرجال شرطة كيستون في الأفلام الكوميدية الصامتة. كما أُدخلت موادُّ كثيرة إلى المحتوى، بحيث زاد وقت عرض فقرات الحلقة من ٢٥ دقيقة إلى ٤٠ دقيقة. وتولَّى السِّير مايكل ريدجريف قراءة التعليق، وقرأ ممثلون آخرون الاقتباسات الصادرة عن الجنرالات والسياسيين؛ فقرأ السير رالف ريتشاردسون أقوال ألكسندر هيج، وقرأ إملين ويليامز أقوال لويد جورج، وانتهى تتر البداية المثير المصحوب بموسيقى آسرة لويلفريد جوزيفس بصورة جندي يُحَدِّق من داخل خندق، وهكذا وجب أن يكون كل شيء يتعلق بهذه السلسلة الوثائقية في القناة الجديدة ملحميًّا في حجمه.

وبسبب ضغط الوقت، كانت هناك توترات حتمية؛ إذ اختلف المنتجان في رؤيتهما بشأن كيفية صنع فقرات الحلقة. ومع ذلك، اتفقا على أن المؤرخين كتبوا سيناريوهات مطنبة، وأنهم لا يعرفون أسلوب الكتابة في الأفلام التليفزيونية. وفي هذه الأثناء مر الوقت سريعًا؛ وبانطلاق محطة بي بي سي٢ في العشرين من أبريل عام ١٩٦٤، لم يكن جاهزًا للبث سوى الفقرات القليلة الأولى. ومع هذا، انطلقت السلسلة الوثائقية «الحرب الكبرى» بضجة شديدة، وبدأت إذاعتها في الساعة السابعة والنصف مساءً، يوم السبت الموافق الثلاثين من مايو عام ١٩٦٤، وكانت كل حلقة تعاد مساء الأربعاء. لكن مع مرور الأشهُر، كان الفريق يصارع الزمن حتى يتمكن من إنهاء فقرات كل حلقة في أسبوع، وعادةً ما كان التسجيل الصوتي النهائي يحدث في صباح يوم البث.

تغنَّى النقاد بمحاسن هذه السلسلة، وسجَّلت بحوث الجمهور — التي أجرتها شبكة بي بي سي — مستوياتِ إعجابٍ مرتفعةً على نحوٍ لا يُصدَّق؛ فقد أعطى ٨٤ في المائة من المشاهدين درجة «امتياز» للحلقة الأولى. حتى المسلسلات الشهيرة مثل «سيارات الوحدة زِد» و«دكتور هو»، فإنها نادرًا ما كانت تنال درجات استحسان أعلى من ٦٥ في المائة. وفي نهاية العام، كان المسلسل الوثائقي «الحرب الكبرى» قد حصد العديد من الجوائز التليفزيونية المرموقة.

مع هذا كانت ثمة مشكلة؛ فقد كانت قناة بي بي سي٢ تُبَثُّ على خط جديد تمامًا، وهو خط ٦٢٥، في نظام تردد فوق العالي؛ ولذا احتاج المشاهدون إلى شراء هوائي جديد، وعادةً جهاز تليفزيون جديد أيضًا من أجل استقبال الإشارة. وعند إذاعة السلسلة الوثائقية لأول مرة، كانت قناة بي بي سي٢ تُبث من مبنى كريستال بالاس في لندن. ولم تُوصل أجهزة الإرسال الجديدة الإشارةَ إلى باقي المناطق في الجنوب الشرقي للدولة والمناطق الداخلية حتى وقت لاحق من ذلك العام. وفي نهاية ١٩٦٦، كان بإمكان ٧٠ في المائة من السكان فقط استقبال إشارة بي بي سي٢؛ فأحدث المشاهدون الذين لم يستطيعوا مشاهدة السلسلة الوثائقية صَخَبًا واضطرابًا، وشكا كثير منهم أنهم لا يستفيدون مما يدفعونه من اشتراك. في حين سعد مايكل بيكوك بهذه الضجة وكتب: «هذه هي الدفعة» التي كانت القناة الجديدة بحاجة إليها من أجل ترسيخها في أذهان المشاهدين. وكان جزءٌ من اتفاقية التمويل المبدئية ينص على أن يُعاد عرض السلسلة الوثائقية على قناة بي بي سي١ في أواخر ١٩٦٤. وهذه المرة، تراوح عدد مشاهدي كل حلقة من ٨ إلى ١١ مليون مشاهد. ووفقًا لما يُتناقل على الألسن في شبكة بي بي سي، كانت الحانات في جميع الأنحاء تخلو كل أربعاء من زبائنها؛ بسبب ذهاب الجميع إلى منازلهم لمشاهدة الحلقة التالية من السلسلة.

استمر الجدل يحيط بالسلسلة الوثائقية؛ إذ أعلن باسيل ليدل هارت استقالته بسبب الحلقة ١٣ التي تناولت معركة السوم. كان جون تيرين قد كتب هذه الفقرة ومِلْؤه الرغبة في التخلُّص ممَّا اعتبره خرافة عدم جدوى هذه المعركة قوية الأثر؛ إذ كان يرى أن معركة السوم كانت بالغة الأهمية في إنهاك الجيش الألماني، وأنه من الابتذال أن ننظر إليها فقط من منظور التضحية البشعة من جانب الجنود البريطانيين. لقد أراد عرض المعركة في سياقها الاستراتيجي الأكثر اتساعًا بوصفها انتصارًا بريطانيًّا. ولكن لم يستطِعْ ليدل هارت تحمُّل هذا؛ إذ شعر بأن الجنرالات قد عجزوا عن تعلم الدرس من حرب الاستنزاف، وهو ما أدى إلى مثل هذا العدد المخيف من الخسائر. وفيما يتعلق بالسلسلة، شكا أنه لا يسمع أحد آراءه، فأعلن استقالته في خطاب أرسله إلى صحيفة ذا تايمز، هاجم فيه نزاهة السلسلة الوثائقية. كما شكا أيضًا بِأَسًى نوبل فرانكلاند — مدير متحف الحرب الإمبريالية ومنتج مشارك في السلسلة — من سوء استخدام المادة الأرشيفية، ومن أن الحلقات كانت تُسجَّل بسرعة بالغة بحيث لا يتوفر له ولا لأي أحد من فريقه الوقت الكافي لمشاهدتها والتعليق عليها. ومع أنه قد يتناسب هذا الاتجاه مع برنامج سريع الإيقاع عن مجريات الحياة اليومية، فإن الأمر ليس كذلك مع سلسلة وثائقية تاريخية جادة. فلجأ كلٌّ من ليدل هارت وفرانكلاند إلى المدير العام، لكن بي بي سي لم تأخذ شكواهما على محمل الجِدِّ.

في عصرنا الحالي، لا تزال هذه السلسلة محل تقدير وإعجاب؛ إذ قُسمت الحرب فيها إلى فقرات سردية صغيرة، وقدَّم ريدجريف التعليق عليها بمهارة؛ ومع كل الجدل الدائر حوله، كانت سرعته مناسبة وتعليقه محكمَ البنية. غير أن إساءة استخدام المادة الأرشيفية أخذت من رصيد نجاح السلسلة الوثائقية مع تداخل مشاهد من الفيلم الرئيسي تداخلًا غير مُحكَم مع الفيلم الأرشيفي الأصلي؛ فاللقطات المستمرة للانفجارات والمدافع الرشاشة التي تطلق نيرانها باتجاه الكاميرا مباشرة تقلل من مصداقية السلسلة. والغريب في الأمر أن صناع الفيلم شعروا بأن المشاهدين ربما يخلطون بين هُوِيَّة الجنود في الفيلم الأرشيفي؛ لذا كانوا يعكسون الوضع أحيانًا، فتتقدم قوات الحلفاء من اليسار إلى اليمين، والألمان من اليمين إلى اليسار؛ ونتيجة لهذا ظهر عدد هائل من الجنود العُسْر طوال الفيلم. ولكنَّ ما عوَّض هذه الإخفاقات هو الشهادات الرائعة لشهود العيان من جنود ومدنيين. وكان من بين شهود العيان رجالٌ من قوة الحملة البريطانية التي أُرسلت إلى فرنسا في عام ١٩١٤، ومدنيون بلجيكيون، وبحَّارة شاركوا في معركة يوتلاند، وجنود ألمان تحملوا وابلَ المدفعية في معركة السوم، وجنود بريطانيون حققوا أكثر من المتوقع منهم في الأول من يوليو عام ١٩١٦، ورجال مناضلون خاضوا الأراضي الطينية في باشنديل، ونساء عَمِلْنَ في ترسانة وُلويتش، وممرضات خدَمْنَ في تمريض الجرحى. وفي سياق السلسلة، لم يُذكر اسم أيٍّ من هؤلاء؛ ولذا كانوا أشبه بجوقة أصوات مجهولة الهُوية. فلأجل الإسهامات الحية هذه — والمؤثرة دومًا — لشهود العيان، تستحق هذه السلسلة الوثائقية المشاهدة.

والآن، مع اقتراب الذكرى المائة لاندلاع الحرب العالمية الأولى، ووصول شبكة بي بي سي الوشيكِ إلى بث ٢٥٠٠ ساعة عن هذا الصراع — تليفزيونيًّا ورقميًّا وعلى شبكة الإنترنت — فمن الواجب علينا تذكُّر «الحرب الكبرى»؛ إحدى السلاسل الوثائقية الكلاسيكية التي عملت على تطوير شكل الأعمال التاريخية المقدَّمة على شاشة التليفزيون. وكما كتب توني إسيكس خلال الشِّجار الدائر حول حلقة معركة السوم: كانت الحرب «تجربة بشعة، لكنها — حقًّا — مادة تليفزيونية رائعة.»

 

14 ديسمبر, 2015 02:12:49 مساء
0