«متحف البراءة» أول متحف للرواية في العالم
ينحدر الروائي أورهان باموق من أسرة برجوازية علمانية تركية، وبالتحديد من مدينة إسطنبول العريقة بثقافتها المتنوعة، ولا شك أن أسرته قد اعتنت بتلقينه، وبالتالي تعلم تعليماً جيداً، ويقيناً أنه تأثر بمن حوله من أفراد مدينته وتاريخها وأزقتها وذاكرتها، لكن، ولكوني أتابع على الدوام أعماله وسيرته، فإن باموق كان مراقباً ومنذ طفولته لعائلته التي بدأت تفقد ثروتها رويداً رويداً، وببطء شديد. وبالمقابل، مدينته التي أخذت تنتهك ثقافتها الأصلية أمام الزحف الاقتصادي.
بين الرسم والكتابة
أورهان باموق المهتم بالفن والتاريخ والكتابة والإعلام والمسرح وفضاءات ثقافية عديدة، كان كل أمله أن يصبح رساماً عظيماً، بمعايير عمق الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ، لإعجابه الشديد بإنسانيته وما يطرحه من أفكار مغايرة في فنه، لتقنعه والدته بعد جهد جهيد أن أولئك العظماء أخذوا وقتهم ورحلوا بزمنهم المختلف عن زمنه، فلم يعد الآن زمن الرسم، بل الرواية والكتابة التي كان يحبها.
احترف أورهان باموق الكتابة بجدية عالية، ووضع المقاييس الكاملة ليصبح ناجحاً منذ بداياته، وأخذ يكتب نصوصاً تصطبغ بالحب والذاكرة، لذا نجد فيما روى الجرأة في ميادين جديدة لم يفكر أحد الولوج فيها، متخذاً من البحث العميق عن تاريخ مدينته سبيلاً لخياله، بالإضافة إلى الموضوعية الشديدة في سرده، لتصبح رواياته متميزة في طرحها، وتوزع في جميع أنحاء العالم بلغات عديدة.
قبل جائزة نوبل
تبقى رواية «متحف البراءة» مختلفة في ذاكرتها، والتي أصدرها عام 2008م، أي بعد نيله جائزة نوبل عام 2006م. فبينما كان العالم يحتفي به وبجائزته، كان هو منشغلاً بوضع الحجر الأساسي لمتحف صغير يضم كل الأشياء التي سردها في روايته «متحف البراءة» وذكريات انبثقت من روايته، والتي استخدمها الشخوص، تخص الفترة الزمنية التي سردها وهي بين عام 1950 إلى 2000م.
متحف الخردة الإنساني
أما المتحف الذي أطلق عليه باموق «متحف البراءة»، على اسم الرواية، فكانت تسميته تلك متعمدة.. ليصبح في سياقه النقدي، وهو نقد كبير لأنه متحف تصنف الأشياء الموجودة ضمن ما بعد الحداثة، فلا كنوز ثمينة هنا بل أدوات اليومية مرتبطة بالسرد، حميمية بالنسبة لنا جميعاً تستحق العرض.
إذ أخذ يبحث عن الخردوات التي تشبه ما كان قد وصفه في أحداث روايته، وقد ساعده أهله وأصدقاؤه في تجميعها، ليضمها في هذا المنزل الصغير والمتواضع الذي حوله إلى متحف يقع في حي «بيوغلو» الوديع والبسيط والذي بني في القرن التاسع عشر، والواقع في شبه جزيرة إسطنبول في جانبه الأوروبي.
وفي شارع «جكورجوما» الذي يبعد عن ساحة تقسيم الشهيرة عشر دقائق سيراً على الأقدام، اشترى أورهان باموق المنزل ليحوله إلى متحف، ليصبح أول متحف يروي الرواية صوتاً ولمساً، يحمل خردوات وأشياء وأدوات تعود إلى تلك الحقبة، تم تصفيفها بشكل مؤثر ومدهش لكل زائر.
وكل تلك الأدوات المنثورة الفوضى والمزدحمة، بدت كأنها بلا فوضى، كانت تخص البطلة في الرواية «فوسون» وحبيبها كمال، وكل من كان يعمل في شركاته الخاسرة في الرواية.
بين المتحف والرواية
يضم هذا المتحف الصغير جداً في مساحته والكبير جداً في دهشته وإنسانيته، أكثر من ألف قطعة مدهشة، تعني جداً الزائر، خاصة قارئ الرواية قبل زيارته، والجميل أن المتحف يثير تساؤلات مَن لم يقرأ الرواية، خاصة عن أولئك الأشخاص المتعلمين الذين سقطوا جميعهم في الحب، كما تروي الرواية.
فحكموا على أنفسهم بالوحدة، لتصبح الرواية مثيرة للاهتمام، وبالمقابل يظهر المتحف بصورة مؤثرة، لما يحمل من معروضات إنسانية تلامس الواقع المعاش وقبل سنوات قليلة من القرن العشرين، ليحفظ أورهان باموق ذاكرته وذاكرة من معه قبل أن تتلاشى.
المتحف ذو طابع فريد للأشياء التي حولنا وما نعيش به خلال يومياتنا، وما نلامسه عن قرب، كصناديق صغيرة نحتفظ بها والمِمْلَحَة «مِرَشّةُ المِلْح» وسجائر تصل في أعدادها إلى 4213 قطعة.. ليعبر مجازاً عن ما دخنته «فوسون» خطيبة البطل.. إذ حُفظت في صندوق زجاجي، بالإضافة إلى لوحات وخرائط وأحذية وصور لشوارع إسطنبول في تلك الفترة، وأزياء النساء وملاعق وسكاكين وصحون، وكل الأمور التي لا تخطر ببال أحد أن يحتفظ بها.
كائنات بريئة
أصر أورهان باموق، حين افتتح «متحف البراءة» عام 2012م، على أنه يستطيع أن يكون مستقلاً عن الرواية، رغم الاسم ذاته ورغم ما تم وضعه في المتحف ليعكس ما تم سرده. «متحف البراءة» ويعني البراءة لتلك الكائنات البريئة، ليصيغ المتحف نفسه من كائنين بريئين وقصة حبهما في المفارقات الطبقية وتاريخ مجتمع إسطنبول.
وأن تعيش عائلة مدة خمسين سنة في رواية تتحول إلى بضائع في متحف متواضع في إسطنبول، ويصبح عظيماً، لأنها كائنات تم إنشاؤها من روح المكان، فتتجمد في المتحف وفي الوقت المناسب، يا لخيال الروائي الذي استطاع أن يحشو 83 فصلاً من الرواية في متحف، كأعمال معروضة يعود عمرها إلى ما بين عامي 1950 و2000م، لتنتقل الأشياء بإحساسها إلى الزائر ببراءة.
الطريق إلى المتحف
في منطقة «بيوغلو» بالقرن الذهبي في شبه جزيرة إسطنبول وفي القسم الأوروبي.. وسيراً على الأقدام، ثمة رحلة جميلة وأنت تشاهد الأزقة الضيقة والعريقة التي تحمل عبق الماضي. تظهر لك محلات صغيرة جداً وعديدة تضج بالتحف والخردوات المغرية والمحيرة في اقتنائها أو تركها.
فوضى من الأشياء وبأسعار تبدو مقبولة ومبررة وفي متناول الجميع، أشياء تكاد أن تنتهي من الذاكرة، تتجلى بين عينيك العشرات منها، ولفرط ما تعبر أمام عينيك تشعر أنها تعنيك وأنك مُولعٌ بها، حتى الوصول إلى حي «جكورجوما» حيث المتحف الذي يبعد عن ساحة تقسيم الشهيرة، مدة عشر دقائق مشياً على الأقدام.
«متحف البراءة»
يحتوي المتحف على خردوات لا حصر لها، فناجين وملاعق وأباريق وأقلام وصور وأحذية وأكواب. تدخل كلها في روح السرد، وما كان يريد باموق التلميح له في روايته من ناحية العلاقات ومفاهيم البرجوازية التي تخلت عن هويتها، منح المتحف لمحة عن حياة الطبقة الارستقراطية في المجتمع.
كما يعكس المتحف الرواية لا الرواية تعكسه، وذلك بمعروضاته المستوحاة منها، ورغم قلة تكلفة المتحف، مقارنة بالمتاحف الكبرى، إلا أنه يحمل قصصاً إنسانية كثيرة، بعيداً عن الكنوز المادية. وسمي المتحف بـ«متحف البراءة» ضمن سياق نقدي لأنه ينضوي في إطار: ما بعد الحداثة، لذا ليس من المفترض أن يكون كلاسيكياً.
زوار المتحف
من يزر المتحف يستمتع بالدليل الصوتي الشارح باللغتين التركية والإنجليزية، وكما يقول مؤرخ الفن الشهير سيمون شاما، إنه أكثر المتاحف إثارة للإعجاب، ليس لأنه يعنى بالفن المعاصر فقط، بل في الطريقة الإنسانية والبريئة في عرض ما لا نتوقعه من أدوات وأشياء نكاد ننساها.
الجميل أيضاً أن الزائر التركي يستطيع التبرع بأغراض قديمة كان قد احتفظ بها، لكونها ذاكرة حميمة تعود إلى فترات سالفة، لتأخذ بدورها طريقها إلى العرض، ويسلط الضوء عليها قبل الغفلة عنها ونسيانها. وأخيراً، سيدرك الزائر في المتحف ما لم يدركه أثناء قراءته رواية «متحف البراءة».
الروائي
أورهان باموق الغني عن التعريف، من مواليد 1952م في إسطنبول، عاش في مدينته، وهو يراقبها منذ الطفولة بعين مُدَونة، اهتمت به أسرته ذات الثقافة الفرنسية، حتى تخرج وهو مسكون بالتاريخ والحب والمعرفة حول مدينته المعجونة بكل أنواع الأعراق والهويات المختلفة.
ولم يكتب رواية إلا ونال عليها جائزة لما لديه من أسلوب مدهش ومثير في إدخال جنون خياله الملون بواقعه التاريخي المتبدل بعطائه وقسوته، وبما يمتلك من تقنيات فنية باهرة. أصبحت سمعته ككاتب محل احترام وتقدير كونه روائياً صارماً في عمله يستخدم أسلوباً كتابياً خاصاً أطلق عليه: ما بعد الحداثة، منذ أعماله المبكرة.
الرواية
يغيب عن القارئ الفكرة التي أدت إلى كتابة الروائي للرواية، فلكونه مغرم بالمتاحف التي منحته الخيال والأفكار اللازمة للكتابة، فتأثر بمتحف «باغاتي فالسيتسي» في ميلانو الذي زاره ثلاث مرات، بسبب حبه الشديد للخيال المختبئ خلف اللوحات والمجسمات، ومع الوقت تبلورت فكرة الرواية، ليقرر كتابتها، ليجمع البطل كمال البرجوازي في قصة عشق مع «فوسون» الفتاة ابنة العائلة الفقيرة، والتي تعمل بائعة في محل خردوات، في سبعينات القرن الفائت.
فيعشقها ولا يستطيع إنهاء علاقته بها وعشق الأدوات الرخيصة التي تحيط بها وتستخدمها، ليتعلق بتفاصيلها ثم يجمعها ويسقط في تذكاراتها.
البيان