ليس مجرد سرد
كان هذا الكتاب فكرةً اختمرت، ثم اعتَصَرتُ رحيقها في أوّلِ مقالٍ، تبلورَ في ما بعد ليكونَ مُرتكزاً لعمليةِ بحثٍ أوسعَ، فكان الرحم الذي تناسلت منهُ الأفكار في متواليةٍ متناسقةٍ تتَّسقُ في سياقٍ واحدٍ يربطُ التاريخ برحابتهِ بالحكاية وما تحملهُ من فضاءات متشعّبة.
لم يكن الدخول إلى معتركِ هذا الحقل بالأمرِ السهلِ، ولا الممتنع، كان حقلاً من الألغامِ تتلمّسُ فيهِ خُطاكَ في ليلٍ أدلج، تهتدي بالنجومِ لتكون لكَ خارطة خروج؛ فالتراثُ بحرٌ أنت تقفُ على شاطئهِ، ومهما اغترفتَ منهُ فلن تبلغَ منتهاهُ؛ لأنه يعبرُ عن تراكمِ تجاربِ الأمم في قرونٍ خلتْ.
الأفكارُ تَزاحمت، وتداخلَ المكانُ بفضائهِ الرحب، مع الزمان بتلونِ فتراتهِ، وامتزجَ التاريخ بالحكاية التي نسجت ثوبها بمسلتهِ، وباتت عمليةِ فرز هذه الخيوط شاقةً؛ تحتاجُ إلى قراءة مكثفة، متنوعة في المصادرِ والمراجع.
تحاول الأمم عبر التشبّث بتراثها إثبات وجودها حضارياً، وكلما كان الأدب قادرا على تصوير بيئته المحلية تصويرا عميقا استطاع أن ينطلق إلى العالمية. في حين يتجه بعض المثقفين الأمميين إلى الحضارات الأخرى لإغناء رصيدهم الثقافي، وإضافة ما هو جديد ومختلف عمّا خُلِّد في تاريخهم الأدبي. وخلافاً لذلك أصيبت الحالة العربية بإنكارٍ للذات وتنكُّرٍ لها، إذ إن «التراث» في نظر شريحة كبيرة من مثقفينا، ليس إلا حجرَ الزاوية لمقام الشعر الذي عُنونَ نقديّاً بوصفه «ديوان العرب»، في حالِ الحديث عن الشعر الكلاسيكي، وأحياناً عن «شعر التفعيلة»، أما «قصيدة النثر» فلا جدالَ لدى هؤلاء في «أوْرَبَتِها» و«أمْرَكَتِها»، متناسين نثريات «النفري» و«الحلاج» و«أبي يزيد البسطامي» وآخرين.
وثمة فئة أخرى من مثقفينا تنظر إلى تراثنا بازدراء وعداء، فتحطُّ من قدرهِ، في حال تتطابقُ تاريخيّاً مع «الحركة الشُّعُوبية»*، مقابل التغني بما لدى الأمم الأخرى، فنكون بذلك أمام حالة استلاب للغرب، وانسلاخ عن «العربية» وتراثها وحضارتها، لدرجةِ أن بعضهم طالب بأن تكون الكتابة بأحرفٍ لاتينية في بعض الدول العربية**، كما طالب بعض آخر باستبدال العامية بالفُصحى***. وفي سياق هذا التجاهل المتعمد للتراث السردي العربي، نتيجةَ الاستلاب لثقافة الآخر، والتبعية، وتعمية العين عن المخزون الثقافي الحِكائي، نجد أن نخبة من مثقفينا تتجه نحو الغرب، نقديّاً وسرديّاً، بوصفه منشأَ الحكايةِ، والروايةِ، والقَصّ.
لم يكن القصور في تناول التراث السردي العربي بسبب قلة ما توفر من نصوص، أو بسبب ضعف المحتوى، بل على العكس من ذلك، كان السرد حاضراً وبأشكال وأنماط متنوعة، بيدَ أن الشعر مُيِّزَ؛ فهو «لسان العرب»، فاجتذبَ الأضواء إليه، وانجذب الدارسون له، ما أدى إلى إقصاء ما سواهُ من فنون وآداب.
إن مكمن الخلل تجسد في غياب النقد للتراث الحكائي، مذ كان الانشغال يقتصر على «بحور الشعر» و«طبقات الشعراء» و«المنحول» و«السرقات» والمفاضلة بين فرسان الشعر العربي..، علاوةً على الاهتمام البالغ الذي حظي به الشعر من قبل السلطات المتعاقبة التي أغدقت العطايا على الشعراء، الأمر الذي «شَعرَنَ» آداب العرب، فلا عجب إن صُهرت بعض القصص لتُروى شِعراً، أو دخل الشعر في كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ من كلامِ العرب.
نُظِرَ قديماً إلى بعض السرد من زاوية أن ما يأتي بهِ ليس إلا خرافات وحكايات غير مألوفة في بيئةٍ تقومُ على الجدية والفروسية، والتسليم بأن قرض الشعر سمةٌ يتحلى بها العربي في قبيلته، وأمام القبائل الأخرى، فالشاعرُ لسان قبيلته في وقتِ الحربِ والسِّلمِ، وتداوُلُ الشعر شفهيا أيسرُ من النثر، وأكثر بلاغةً، وحماسةً، وتأثيراً في النفس.
ومقابل ذلك أُهمِلَ السرد؛ فهو نثر أدنى مرتبة من الشعر، وكثيراً ما خالطَ «السرد» التاريخ والتوجهات الفكرية، وإن أردنا فرز القائمين على السرد في التاريخ العربي نجد أنهم إخباريون، وحاملو فكر، ومدونون لتاريخ الحقباتِ السابقة، فانطبع في الأذهان أن السردَ وعظيٌّ (كرسائل ابن حَيَّان وبعض المقامات)، أو فلسفيٌّ (كقصة حَي بن يقظان بنسخ مؤلفيها الأربعة)، أو فكاهيٌّ (كقصص بخلاء الجاحظ ونوادر جحا)، أو خارجٌ عن المألوف (كحكايا السعالي والجن وغرائب الصعاليك كتأبّطَ شرّاً).