Direkt zum Inhalt
«بدل فاقد» لنزار أبو ناصر.. قصائد تحلم بشهقة حب

 محمَّد حِلمي الرِّيشة

بينَ حينٍ وآخرَ، تشعُّ لِي ذاكرَتي، مِن دونِ سببٍ يُذكَرُ، بشعراءَ رحلُوا ممَّنْ عاصرتُهم، أَو صادقتُهم، أَو التقيتُهم، كأَنَّها تبلِّلُ ذِكراهم الَّتي تجفُّ، مِن حينٍ لآخرَ، بماءِ الحضورِ المقاوِمِ للنِّسيانِ، أَو الغيابِ، أَو التَّغييبِ!

كنَّا التقَيْنا عدَّةَ مرَّاتٍ؛ واحدة فِي رامِ الله، والأُخرياتُ فِي بيتهِ فِي عمَّانَ.

كانَ يحبُّ الحياةَ والشِّعرَ والمرحَ بالكلامِ الَّذي يصدرُهُ فجأَةً بشكلٍ نكاتٍ طازجةٍ تعليقًا علَى كلامٍ أَو موقفٍ أَو ...، يجعلُ رئتيِّ الصَّدرِ مثلَ حمامةٍ ترفرفُ بجناحَيْها قبلَ الفمِ!

إِحدى المرَّاتِ؛ أَخرجَ عدَّةَ أَوراقٍ، وقالَ لِي: سأُجري معكَ حوارًا سريعًا قبلَ أَنْ تسافرَ غدًا (لَا أَتذكَّرُ أَينَ كانتِ الوجهةُ؛ المغرب، أَم مصر، أَم إِيطاليا) فقدْ لَا نَلتقي بعدَ عودتِكَ إِلى عمَّانَ فنابلسَ، لأَنَّكَ أَحيانًا تصلُ فجرًا وإِلى جسرِ العودةِ مباشرةً.

ثمَّ كانَ هذَا الحوارُ، والَّذي وضعَ لهُ مقدَّمَةً بعدَ ذلكَ..

لجهة التوصيف، فإن الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة، ينتمي إلى مخيلة شعرية بعيدة عن المباشرة والصراحة في المعنى، وأقرب إلى الصمت والهدأة وقوة العاطفة التي يمكن وصفها بأنها عاطفة لغوية.

وبالنظر إلى نوع وكم أعماله الشعرية، نستطيع أن نرى شاعرًا نذر نفسه للشعر منذ أن التقيا ذات رسالة عاطفية، فهو يقول في كتابه «زفرات الهوامش»: «أنا مسكون شعرًا، بشكل دائم». ويسأل قصيدته- أنثاه: «كيف صرتُ في يديك كأنني رجل مبعثر، وهربتِ بي بعيدًا.. بعيدًا، نحو عالمك الشخصي المرفّه بالغموض؟ وحينما وصلنا لاهثين، اتّحد عرق ظلّينا في حركة مفعمة بالتجريب، إلى حوافّ اليأس، ثم بصوت ناعم لأداة صامتة، قلتِ لي الكتابة التالية». ولقد سمعته، ذات يوم، خلال دردشة حول الأوضاع الفلسطينية خصوصًا، والعربية عمومًا، وبعد أن أبدى تذمره الشديد منها، يقول: «أنا رهين ثلاثة بيوت؛ بيتي الشعري، وبيتي الشخصي، وبيت الشعر الفلسطيني الذي أعمل فيه».

* هناك مقولة مفادها: إن غياب المعنى عن القصيدة هو فعل لا إنساني. إلى أي حدّ نحن أسرى مقولاتنا؟

- للإجابة على هذا التساؤل، فإنني سأتحدث عن تجربتي من حيث ماهية المعنى في النص الشعري، إذ إنني لا أعطي المعنى الدور الأبرز في النص، ذلك أن الشعر (لا أقدّم تعريفًا له) حالة استثنائية دائمة لدى الشاعر يكاد يكون هو الذي يكتبه، ولا أعني هنا أن المعنى مغيّبٌ تمامًا في نصي الشعري، ولكن، ومن وجهة نظري، يجب أن يكون في الطبقات الدنيا من النص، بمعنى أن على القارئ أن يقشّر القصيدة، إلى درجة ما بعد التفكيك، بحثًا عن اللذة والدهشة والاشتعال والتحليق، وهذا ما يعطيه (القارئ) لنفسه من معنى خاص به، أي من اكتشافه أو من صُنعه الشخصي، وقد يكون اكتشافه قريبًا من المعنى الخاص بالنص، أو بعيدًا عنه، المهم أن المعنى هو ما يكتشفه أو يصنعه القارئ، وأنا أعتقد أن هذا درجة أكبر من الإنسانية له واحترام لعقله ومخيلته.

* كنت أتساءل وليس بعيدًا عن ذهني المكان المتخيل الذي جئت منه حيث ثمة ما هو ضاغط إلى حدّ الألم على العصب الحسّاس للشعر؟

- أتمنى أن لا تستغرب، بدايةً، من أنني لا أؤمن بالمكان بوصفه مكانًا، وأحيانًا تصل بي المسألة إلى درجة نفيه، أو عدم وجوده مقارنة بالزمان. إن ما يسمّى المكان بالنسبة لي هو كائناته وأشياؤه وما تراه ونحسّه وتتفاعل معه. ودعني أوضح هذه النقطة منعًا للالتباس، فما أردت قوله هنا هو: إن مفهوم المكان هو لحظات وجودي فيه، وبالتالي فهو ليس أكثر من وعاء للحضور غير الدائم وللتذكّر والتخيل وللحالة الإنسانية التي فيه.

صحيح أنني قادم من ما يمكن أن نطلق عليه المكان الذي تحول منذ مدة طويلة، وحتى الآن، إلى مفهوم باذخ في الألم والمعاناة، كما وصفته أنت، بمعنى أن المكان، كان ولم يزل، منطقة ألم ضاغطة جدًّا على الكائن البشري صاحبه، والذي لم يزل يقاوم الكتلة الحمقاء التي تهبط وتصعد فوق رأسه كل لحظة، منتهكة إنسانيته ودواعي حضوره إلى درجة النفي المطلق في المكان ذاته الذي تحدثت عنه.

إن فلسطين ليست بقعة جغرافية لم يزل الصراع يعتمل فيها منذ أكثر من قرن، فالصراع هو صراع كائنات إنسانية مع لا إنسانية الكائنات الأخرى التي تجثم عليه، وكذلك صراع أشياء وأزمنة متعاقبة وصور ظاهرة ومتخيلة، في محاولة أن يثبت الزمن المقيم للكائن القادم أنه غير قابل لاحتوائه في إنائه الزمني مهما طال، بل ليس من الممكن احتواؤه من قبل المكان التاريخي والمعرفي.

* إنها مسألة شائكة، ربما هي ناتجة عن رغبة الفلسطيني الحاضر والراهن في نفي ما يطاله من نفي بتغييب مصدر النفي ولو في اللغة.

- أنت تعرف أن الاحتلال، أي احتلال على مرّ العصور والأزمنة، يسعى إلى إحلال نفسه على حساب الذي يحتلّه منتهكًا إنسانيته وأبسط أسباب حياته. هذا الأمر يتطلب، في حالة الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني، ليس نفي الآخر المقيم فقط، بل إلغاؤه إلى درجة المحو، بمعنى أنه لم يكن أصلًا في المكان ذاته. تصوّر جرّافة تقتحم حديقة زهور، فهل هذا نفيٌ أم إلغاء؟ وليتخيل القارئ هذا الفعل نفسه.

إن الاحتلال على مر العصور في تجاربنا العربية السابقة كان ينفي أشياء من مكونات الإنسان العربي فوق أرضه، فأحيانًا اللغة أو التراث أو العقيدة، وبالتالي فإن ما كان يفعله الاحتلال هو نفي مرتكزات وأسباب الحياة وتكويناتها، لكن الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني يختلف عن الاحتلالات السابقة في أنه لا يمارس النفي ضد مفردات مختلفة في حياة الفلسطينيين، بل هو يقوم على إلغائها وإلغاء كل شيء كأنها لم تكن أصلاً. مثلًا منع حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين هجّروا عن أرضهم، وسياسة الاستيطان الذي أصبح قريبًا جدًّا من غرف نوم الفلسطيني.

إذًا، إن ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني هو أن يجعلك تشعر بالاغتراب في وطنك من خلال ممارسات مختلفة تمهيدًا لأن تنفي نفسك بنفسك، وليس من أجل أن تظهر أيدي هذا الاحتلال بيضاء من غير دم، بل لتحقيق الإلغاء فإن عليه أن يوصلك إلى حالة نفي نهائية، هي الإلغاء في حدّ ذاته.

* هل يمكنني القول إن هذا هو ما تركه الاحتلال من أَثرٍ على رؤيتك إلى الشعر ودوره وعلاقته بمحيطه؟

- لم تقتصر تجربتي على ما تصفُ في سؤالك، ذلك أن الاحتلال يجب أن لا يجعلني كل لحظة غير قادر على تلمّس الحياة، وإن كان بقربي أو قي صالون بيتي، فالتشبث بالحياة وقوة العاطفة والمخيلة والرموز الإنسانية الجميلة وأفعالها هي مقاومَاتٌ وأكثر إزعاجًا للاحتلال من الرصاص ذاته، فهو أقوى مني بهذا، ولكنه كلما رآني أشم وردةً أو أقابل صديقة وأُسمعها شعري، ويراني بملابس نظيفة وقادرًا على العطر والابتسام والحب، فإن هذا الأشياء ستنعكس عليه سلبًا، لأنه لم يحقق بعد ما كان يسعى إليه منذ بداية احتلاله، ولهذا فالشعر في زمن الاحتلال هو حالة متنامية على أصعدة مختلفة؛ إنسانية وحياتية، وليس فقط القلم الذي يشبه المسدس ويطلق رصاص الكلمات في وجه المحتل. وبالضرورة أن أكتب ما أشاء، ومتى أشاء، كي أُكرّس كينونتي فوق بقعتي الجغرافية، وأن أتفاعل مع ثقافات العالم الإنسانية، وأن لا أنتظر إلى أن يزول الاحتلال كي أكتب شعرًا مغايرًا، أو أحبّ امرأةً وألتقي بها، أو أزرع وردةً في حديقة الشارع الذي مرّتْ وتمرّ فوقه أكثر من دبابة كلّ مزاج احتلالي.

المصدر:الدستور

30 Aug., 2020 11:55:18 AM
0