الثقافة المصرية في ميزان الحرية والحقيقة
يعيد الباحث والمفكر نبيل عبد الفتاح، مساءلة الحرية في إطار متلازمة فكرية ثلاثية الأبعاد والرؤى، تتمثل في علاقتها بالثقافة كمكون أساسي لها، وشرط من شروط نضجها وتقدمها، وفي علاقتها بالحقيقة باعتبارها التجسيد الأمثل للأفكار والرؤى، ثم علاقتها بالواقع الراهن: حقيقة ما كان في الماضي، وما هو كائن بالفعل، واستشراف ما يمكن أن يكون عليه في الغد والمستقبل.
من هذا المنظور ينفتح كتابه «الحرية والحقيقة – تحديات الثقافة والمثقف المصري»، الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، على الثقافة المصرية وأزماتها، ويرى أنها تراوح ما بين فعلين؛ أحدهما ساكن ينتمي للماضي، والآخر متحرك، يحاول اللحاق بالمنجز الكوني المعرفي المتمثل في الرقمنة، والذكاء الصناعي، والإناسة الربوتية، وعالم ما بعد الحقيقة، وغيرها من منجز التكنولوجيا والإنترنت.
يقع الكتاب في 433 صفحة من القطع المتوسط، وتناثرت في صفحاته شذرات فلسفية تدور حول معنى الحقيقة وعلاقاتها بالواقع والأفكار لنيتشه، باشلار، ديكارت، هيوم، فوكو، سارتر، وإدوارد سعيد.
وعبر 6 أبواب تنطوي على مجموعة من الفصول، يعالج نبيل عبد الفتاح، موضوعه ومبحثه الأثير في ظل تغير الرؤى والسياسات الثقافية، والتحولات المتسارعة غير المألوفة، على مستوى العالم، إقليمياً ودولياً ومحلياً، التي لا تزال تشكل صدمة للعقل، سواء في سعيه للرصد والتحليل والمقاربة النقدية، أو في مغامرته للتسلح والتحصن بأطر وأفكار جديدة، تشكل حافزاً للإبداع والثقافة، على قاعدة الحرية، من دون شروط مسبقة سوى ما تجترحه وتفرضه بقوة الدفع الإنساني للوصول إلى الحقيقة.
تبدو الحالة المصرية في الكتاب بمثابة معمل اختبار لكل هذه الرؤى، حيث يشكل حاجز الحرية والعقل النقدي المستنير التحدي الأساس أمام المثقف والثقافة معاً، في محاولة لكسر «هيمنة العقل التسلطي السلفي، الأسير وراء أوهامه المتعددة».
في الباب الأول، الذي حمل عنوان «أزمات الثقافة والسياسة الثقافية الرسمية»، يستعرض الكتاب دور الثقافة في التنمية ومشروعاتها، وفي الارتقاء بالوعي السياسي للمواطنين، والنخب السياسية - المعارضة والحاكمة. ويرجع غياب هذا الدور عن الفهم والإدراك لعدة أسباب من أبرزها: غلبة الوعي البيروقراطي على تشكيل النخبة السياسية ومصادر تجنيدها، وانفصال السياسة التعليمية ومناهجها عن المكون الثقافي والتكوين الجمالي، والخلط والمزواجة بين التعاليم الدينية والوضعية، والمناهج المقررة.
كما يرصد التحولات التي طرأت على الثقافة وسياساتها في مرحلة الثورة والانتقال، وذلك في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 1911، التي أطاحت بنظام مبارك بعد 30 عاماً من الحكم، وشهدت زخماً هائلاً من التوترات الأمنية والمواءمات السياسية طالت كل شرائح المجتمع، خصوصاً مع وضعية الثورة الانتقالية، والمخاطر الداخلية التي واجهتها، ووقفت عثرة في وصولها لأهدافها، وكان من أبرزها - حسب الكتاب - عدم استقرار التشكيلات الحكومية نتيجة الحالة الأمنية المضطربة، وتعدد وزراء الثقافة خلال فترة زمنية وجيزة، وعدم التصدي لبعض أشكال الفساد الوظيفي داخل هيئات الوزارة المختلفة، وهو ما انعكس بدوره على مجمل الأنشطة والفعالات الثقافية.
ينظر نبيل عبد الفتاح إلى عدم الاستقرار الذي شاب هذه الفترة من زاويتين ملتبستين ومتناقضتين؛ الأولى تكمن في المد الثوري الثقافي الذي ارتفعت وتيرته وغليانه في أعقاب «ثورة 25 يناير»، ثم مرحلة بروز التيارات الإسلامية السلفية، وصعود «الإخوان المسلمين» إلى الحكم، ويشير هنا إلى: «قيام بعض المثقفين بالاعتصام في مكتب وزير الثقافة الذي تم تعيينه من قبل جماعة (الإخوان المسلمين) وأيده السلفيون، وذلك للحيلولة دون (أخونة) العمل الثقافي، وتديينه سياسياً».
ويخلص بعين راصدة متفحصة إلى أن أداء وزراء الثقافة المتعاقبين منذ ثورة 25 يناير 2011 وما بعدها، لم تكن لغالبيتهم رؤية أو تصور للسياسة الثقافية في المرحلة الانتقالية، ومن ثم سارت «سياسة اليوم بيومٍ والإدارة اليومية للعمل البيروقراطي داخل الوزارة، دونما إنجازات حقيقية لبعضهم»... (ص 45). ويرى أن «النزعة التجريمية والسياسة العقابية المغلظة تبدو في النصوص (الدستور) التي تنظم حرية الرأي والتعبير، وحرية التدين والاعتقاد، على نحو يخالف جوهر هذه الحريات، وبما يؤدي إلى فرض قيود عليها، بعضها في العقاب، والأخرى في التطبيق القضائي، من حيث توجهات أعضاء الجماعة القضائية من ذوي الاتجاهات المحافظة».
تمتد هذه الرؤية في الكتاب إلى ما قبل هاتين المرحلتين الانتقاليتين، راصداً تحولات الثقافة المصرية مع بدايات النهضة الحديثة في عصر محمد على وأسرته، وانفتاح منجز التحديث آنذاك على الغرب الأوروبي، مع الوعي بخصوصية الحالة المصرية والالتفات إلى مكوناتها التراثية ومقوماتها الذاتية والحضارية، ثم يتابع بالرصد والتحليل ما طرأ عليها في عهود: عبد الناصر، والسادات، ومبارك، موضحاً كيف تحولت من مكون وطني دافع للنهوض بوجدان المجتمع سياسياً واجتماعياً، ليتم النظر إليها - خصوصاً في عهدي السادات ومبارك - باعتبارها ترفاً ومصدراً للفوضى والقلق، وأنه لا بد من تدجين المثقفين. ومن ثم برزت فكرة غواية المثقفين بحزمة من المنافع الشخصية الصغيرة، ليدخلوا عبرها «الحظيرة»، حظيرة السلطة - حسب تعبير وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني آنذاك، وبذلك يسهل احتواؤهم من قبل السلطة، ويصبحون عنصراً تابعاً، بل خادماً لسياستها المتسلطة.
وهو ما أدى - حسب الكتاب - إلى تراجع صورة المثقف النقدي المستقل عن السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، فأصبحت صورة مشوشة «ساهم فيها كثيرون ممن أدمنوا غوايات جهاز الدولة الثقافي، رغم مناورات بعضهم بالنقد أحياناً والمجاراة أحياناً أخرى». ويلفت الكتاب إلى تفاقم هذه الصورة، بخاصة من قبل الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، واستخدام العنف، والسعي إلى إضعاف دور المثقف الحقيقي ومكانته، ومحاولة اغتياله، وهو ما تعرض له عدد من الرموز الثقافية، المناهضة للسلطة والإرهاب السلفي تحت عباءة الدين.
يراكم الكتاب أبعاد هذه الصورة عبر فصوله، ومن خلال الرصد والتحليل والتقصي لملامحها، وما أفرزته من ظواهر متباينة، ويسلط عليها الضوء من زوايا خاصة ووجهات نظر متعددة، أثرت في الدور والفعل الثقافي المصري، وحدت من اتساعه وتأثيره في محيطه العربي الإقليمي، خصوصاً بعد الطفرة النفطية في عدد من الدول العربية، الخليجية على وجه الخصوص، وفوائض رأس المال المتنامية، وبروز أدوار ثقافية جديدة يساندها سخاء في الجوائز الأدبية بالدول الخليجية مما جعلها محط أنظار المبدعين العرب. ولم يقتصر هذه الدور على منافسة مراكز الثقل الثقافي التاريخية، سواء في القاهرة أو بيروت أو بغداد أو دمشق، إنما أصبح يهددها بالتهميش. أضف إلى ذلك الصعود اللافت للمركز الثقافي المغاربي منذ عقد الثمانينات، وحتى العقدين الماضيين من الألفية الجديدة. وحسبما يذكر الكتاب: «حدث تحول في مراكز الإنتاج الفكري في العالم العربي، من خلال ظهور دور الجماعة الثقافية في المغرب، في مجال الفلسفة والدراسات حول العقل العربي – محمد عابد الجابري - وفي مجال القانون والدراسات السوسيولوجية، وبعض التجارب الفنية في المسرح. في تونس تطورت الدراسات الإسلامية الجديدة في المدرسة الفكرية التي أسسها عبد المجيد الشرفي وتلامذته».
ضمن هموم الواقع الثقافي، وفي خضم هذه التغير والتطور وتقنيات عالم الرقمنة يطرح المؤلف مقاربات فكرية جديدة حول المعرفة والأسئلة الكبرى التي تشكل جذورها، وذلك بحثاً عن نموذج معرفي عربي «يمكن أن نوظفه في لغتنا، ومفرداتنا وأوصافنا، ويصبح جزءاً من إنتاجنا العقلي والنظري والتطبيقي، وينمي قدرتنا على الوصف والتفسير والتحليل والتركيب»، محذراً من مخاطر غياب الثقافة في حياتنا، وأنه «وراء أي فقر سياسي غياب ثقافة لدى منتج الخطاب».
تبقى في هذه الإطلالة ملاحظات حول اعتصام المثقفين المصريين الذي كان المؤلف في القلب منه، ومع ذلك أشار إليه بشكل عابر لا يتجاوز السطرين. من هذه الملاحظات أن ذلك الاعتصام الذي استمر نحو 40 يوما وشارك فيه كبار الكتاب والمثقفين والفنانين شكل استثناء غير مسبوق في تاريخ الثقافة المصرية، كما أنه فعل حرية بالأساس، حرية الثقافة والمثقفين، التي لا تنفصل بالضرورة عن حرية الوطن، ثم إنه كان محاولة لاستعادة حقيقة مستلبة وغائبة. كما شكل ميزاناً لطبيعة المثقف المصري ودوره في العمل الجماعي الوطني، وغيرها مما ينصب في موضوع كتابنا هذا. ومع ذلك يبقى السؤال الجوهري: لماذا نجح الاعتصام في الحشد، وفشل في اختبار النوع: فبرغم هذا الزخم، لم يستطع المثقفون فرض أو اختيار وزير ثقافة من بينهم بعد الإطاحة بـ«الإخوان المسلمين»، وظل الحال كما هو عليه في وزارة الثقافة. انتهى الاعتصام وعاد المثقفون إلى طبيعتهم النخبوية العشوائية ومصالحهم الشخصية الضيقة. لذلك فإن ما قبل الاعتصام وما بعده يشكل خلاصة مهمة يمكن من خلالها استبيان وضعية وحقيقة المثقف والثقافة المصرية في لحظة شائكة ومصيرية، كان بوسع الكتاب أن يخصها بمبحث واسع، خصوصاً أنه وضع هذه الثقافة فوق ميزان الحرية والحقيقة في ضوء رؤية ومنهج سديدين.
المصدر: الشرق الأوسط