Direkt zum Inhalt

فك شفرات الدماغ

يتلقى الدماغ المعلومات وينقلها بطرق معقدة تعتمد على انطلاق نبضات الخلايا العصبية. ربما يعمل فك شفرة طريقة عمل هذه النظم على تعميق فهمنا للأمراض العقلية، وابتكار رقاقات للدماغ تعزِّز الذاكرة، وتمكين أجهزة الكمبيوتر فعليًّا من توقع احتياجاتنا.

في كتاب «ما هي الحياة؟» (١٩٤٤)، كان أحد الأسئلة الأساسية التي طرحها الفيزيائي؛ إرفن شرودنجر، هو إذا ما كان ثمة «نص مشفَّر وراثي» مطمور داخل الكروموسومات. عقب مرور عقد من الزمن، أجاب كريك وواتسون على سؤال شرودنجر بالإيجاب؛ فتُخزَّن المعلومات الوراثية في نظام بسيط من النيوكليوتيدات على طول شرائط طويلة من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين «دي إن إيه».

رسوم: مات دورفمان.

رسوم: مات دورفمان.

ظهر تساؤل بشأن ما تعنيه كل شرائط الدي إن إيه هذه. كما يعرف جميع طلاب المدارس حاليًّا، ثمة شفرة موجودة بداخلنا؛ فيتم نسخ النيوكليوتيدات الثلاثية القريبة، التي تعرف باسم الكودونات، مِن الدي إن إيه داخل تسلسلات عابرة من جزيئات الحمض النووي الريبي، وهو ما يتحول إلى السلاسل الطويلة من الأحماض الأمينية التي نعرفها باسم البروتينات. وقد اتَّضح أن فك هذه الشفرة هو أمر محوري لجميع الأشياء تقريبًا التي تبعته في علم الأحياء الجزيئي. وبالصدفة اتضح أن الشفرة المسئولة عن تحويل ثلاثيات النيوكليوتيدات إلى أحماض أمينية (على سبيل المثال، شفرة «إيه إيه جي» في نيوكليوتيدات الحمض الأميني الليسين) عالمية؛ فالخلايا في جميع الكائنات الحية، كبيرة كانت أو صغيرة، البكتيريا ونبات السيكويا العملاق والكلاب والبشر، تستخدم الشفرة نفسها مع تفاوتات طفيفة. هل سيتسنى لعلم الأعصاب في وقت ما اكتشاف شيء بمثل هذا الجمال والقوة؛ شفرة رئيسية تسمح لنا بتفسير أي نمط من النشاط العصبي وقتما نشاء؟

فعليًّا كل تقدم جذري في علم الأعصاب يمكننا تخيله على المحك، على سبيل المثال: عمليات الزراعة التي تُجرَى في الدماغ التي تُعزِّز ذاكرتنا، أو تُعالج الأمراض النفسية مثل الفصام والاكتئاب، وكذا علم الأطراف الصناعية العصبية الذي يسمح للمرضى المصابين بالشلل بتحريك أطرافهم. ولأن كل شيء تفكر فيه وتتذكره وتشعر به هو مشفر داخل دماغك على نحو ما، فإن فك شفرة نشاط الدماغ سيُمثل خطوة عملاقة نحو مستقبل الهندسة العصبية.

في يوم ما ستمكِّن الأجهزة الإلكترونية، التي تُزرع مباشرة داخل الدماغ، المرضى الذين يعانون من إصابة في العمود الفقري من تجاوز الأعصاب المتضررة، والتحكُّم في أجهزة روبوت باستخدام أفكارهم. ربما تتمكَّن نظم الارتجاع البيولوجي في المستقبل من توقع علامات الاضطراب العقلي وتجنُّبها. وبينما يستخدم الناس حاليًّا لوحات المفاتيح والشاشات باللمس، ربما يستخدم أحفادنا بعد مائة سنة من الآن واجهات برامج يتحكم فيها الدماغ مباشرة.

إلا أنه من أجل تحقيق هذا؛ من أجل صنع برنامج إلكتروني بإمكانه التواصل مباشرة مع الدماغ، نحتاج إلى فك شفرات هذا الدماغ. يجب أن نتعلَّم كيف ندرس مجموعات الخلايا العصبية، ونقيس كيفية إطلاقها للنبضات، ونتعرَّف على بِنْية رسائلها.

فوضى الشفرات

لقد بدأنا بالفعل في اكتشاف أدلة على كيفية حدوث عملية التشفير في الدماغ. ربما تكون الطريقة الأساسية — باستثناء بعض المخلوقات متناهية الصغر، مثل الدودة الأسطوانية «سي إليجانس» — هي الوَحدة الأساسية للتواصُل العصبي والتشفير المتمثلة في النبضة «أو جهد الفعل»، وهي عبارة عن نبضة كهربائية مقدارها نحو عُشْر فولت تستمر لأقلَّ من ملِّي ثانية. في جهاز الإبصار، على سبيل المثال، تتحول أشعة الضوء التي تدخل إلى الشبكية سريعًا إلى نبضات تُرسَل على العصب البصري، وهو عبارة عن مجموعة من نحو مليون سلك لتوصيل المخرجات، يطلق عليها اسم أكسونات، تمتد من العين إلى باقي أجزاء الدماغ. فعليًّا يعتمد كل ما تراه على هذه النبضات؛ فكل خلية في الشبكية تصدر نبضاتها بمعدل مختلف، بناء على طبيعة المُحفِّز، من أجل إنتاج عدة ميجابايت من المعلومات البصرية في الثانية الواحدة. إن الدماغ كله عندما نكون في حالة من اليقظة يمثل سيمفونية حقيقية من النبضات العصبية؛ حيث يصدر نحو تريليون نبضة في الثانية. وكي يتحقق فك شفرة الدماغ، إلى حدٍّ كبير، لا بد من استنتاج معنى هذه النبضات.

إلا أن التحدي يكمن في أن هذه النبضات يختلف معناها باختلاف السياقات. من الواضح بالفعل أن علماء الأعصاب لن يكونوا بمثل حظ علماء الأحياء الجزيئية. فبينما تكون شفرة تحويل النيوكليوتيدات إلى أحماض أمينية شِبْه عالمية؛ بمعنى أنها تُستخدَم على النحو نفسه في جميع أنحاء الجسم وفي جميع أنحاء العالم الطبيعي، فإن شفرة تحويل النبضة إلى معلومة ربما تكون خليطًا؛ فهي ليست شفرة واحدة، بل العديد من الشفرات التي تختلف ليس فقط — إلى حدٍّ ما — بين الأنواع البيولوجية المختلفة، بل حتى بين أجزاء الدماغ المختلفة. يقوم الدماغ بوظائف عدةٍ بداية من التحكُّم في عضلاتنا وصوتنا وحتى تفسير المشاهد والأصوات والروائح التي تحيط بنا، ويتطلب كل نوع من المشكلات أنواعه الخاصة من الشفرات.

عند عقد مقارنة مع شفرات الكمبيوتر يتضح تمامًا سبب توقع هذا الأمر. من أمثلة هذا شفرة أسكي التي تتكون من ١٢٨ رمزًا، تضم أرقامًا ونصًّا هجائيًّا عدديًّا، وتستخدم في وسائل الاتصال مثل البريد الإلكتروني المكتوب بنص عادي. يستخدم تقريبًا كل كمبيوتر حديثٍ الأسكي التي تُشفر حرف A إلى «١٠٠٠٠٠١» وحرف B إلى «١٠٠٠٠١٠» وحرف C إلى «١٠٠٠٠١١» وهكذا، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالصور فإن هذه الشفرة تكون بلا قيمة، ويجب استخدام تقنيات مختلفة. على سبيل المثال: تُخصِّص الصور النقطية غير المضغوطة سلاسل من البايت من أجل تصوير كثافة الألوان الحمراء والخضراء والزرقاء لكل بكسل في المصفوفة المُكوِّنة للصورة. تُمثِّل شفرات مختلفة رسوم المتجهات أو الأفلام أو الملفات الصوتية.

توضح الأدلة أن الأمر نفسه يسري على الدماغ. فبدلًا من وجود شفرة عالمية واحدة توضح معنى أنماط النبضات، يبدو أن هناك الكثير من هذه الشفرات بناءً على نوع المعلومات المراد تشفيرها. مثال هذا: الأصوات؛ حيث تكون ذات بُعد واحد بطبيعتها وتتغير بسرعة بمرور الوقت، بينما تكون الصور التي تخرج من شبكية العين ثنائية الأبعاد وتتغير بسرعة أقل. هذا وتستخدم حاسة الشمِّ — التي تعتمد على تركيزات المئات من الروائح التي يحملها الهواء — نظامًا مختلفًا تمامًا. ومع هذا فثمة بعض المبادئ العامة. إن أهم ما في الأمر ليس تحديد وقت إصدار الخلية العصبية للنبضات، لكن عدد مرات إصدار هذه النبضات؛ فإن معدل الإطلاق هو العامل الأساسي.

فكِّر على سبيل المثال في الخلايا العصبية الموجودة بالقشرة البصرية في الدماغ، وهي المنطقة التي تستقبل النبضات من العصب البصري عن طريق إرسال قادم من المِهاد البصري. تُمثِّل هذه الخلايا العصبية العالَم فيما يتعلق بالعناصر الأساسية المُكوِّنة لأي مشهد بصري، مثل الخطوط والنقط والحوافِّ وغيرها. ربما تتعرض خلية عصبية في القشرة البصرية للتحفيز بشدة بسبب الخطوط العمودية. مع دوران هذا الخط يتفاوت معدل إطلاق هذه الخلية العصبية للنبضات؛ فتطلق أربع نبضات في عُشر ثانية إذا كان الخط عموديًّا، لكن ربما تطلق نبضة واحدة فقط في الفترة الزمنية نفسها في حالة دورانه ٤٥ درجة مئوية عكس اتجاه عقارب الساعة. رغم أن هذه الخلية العصبية تستجيب عادةً للخطوط العمودية، فإنها لا تتوقف عن الاستجابة أبدًا. لا تشير أية نبضة إلى ما إذا كانت الاستجابة تحدُث لخط عمودي أو لشيء آخر. فإجمالًا، عن طريق معدل إطلاق الخلية العصبية للنبضات مع مرور الوقت، يمكن التعرف على معنى نشاطها.

تستخدم هذه الاستراتيجية، التي تعرف باسم تشفير المعدل، بطرق مختلفة في أجهزة مختلفة في الدماغ، لكنها شائعة الاستخدام في جميع أجزاء الدماغ. تعمل مجموعات فرعية مختلفة من الخلايا العصبية على تشفير جوانب معينة من العالم على النحو نفسه، باستخدام معدلات إطلاق نبضات تُعبِّر عن التفاوتات في درجة السطوع والسرعة والمسافة والاتجاه واللون ودرجة الصوت حتى المعلومات المتعلقة باللمس، مثل مكان وخزة دبوس في راحة يدك. تطلق الخلايا العصبية المستقلة نبضات بسرعة أكبر عندما ترصد أحد المحفزات المفضَّلة لديها، في حين تقلُّ سرعة إطلاقها عندما لا يحدث هذا.

ولزيادة الأمر تعقيدًا تشفِّر النبضات المنبعثة من أنواع مختلفة من الخلايا أنواعًا مختلفة من المعلومات. إن شبكية العين هي جزء مُعقَّد من نسيج الجهاز العصبي مُكوَّن من طبقات تغطي الجزء الخلفي من كل عين. تتمثل وظيفة شبكية العين في تحويل وابل الفوتونات الواردة إلى تدفقات صادرة من النبضات الكهربائية. حدَّد متخصصو علم التشريح العصبي ٦٠ نوعًا مختلفًا — على الأقل — من الخلايا العصبية في الشبكية، لكل منها شكله الخاص ووظيفته الخاصة. يتكون العصب البصري، المخرج الوحيد للعين، من أكسونات نحو ٢٠ نوعًا مختلفًا من خلايا الشبكية. ترسل بعض هذه الخلايا إشارات حركة في العديد من الاتجاهات الأساسية، في حين تتخصص خلايا أخرى في إرسال إشارة بدرجة سطوع الصورة بأكملها أو التبايُن المحلي، بينما تحمل خلايا أخرى المعلومات المتعلقة باللون. ترسل كلٌّ من هذه المجموعات معلوماتها، بالتوازي، إلى مراكز مُعالَجة مختلفة من العين في الاتجاه المعاكس. حتى يتمكَّن العلماء من إعادة تكوين طبيعة المعلومات التي تُشفِّرها الشبكية، فليس عليهم فقط تتبُّع معدل إصدار الخلية العصبية للنبضات، بل أيضًا هُوِيَّة كل نوع من الخلايا. يمكن لأربع نبضات صادرة من نوع واحد من الخلايا أن تشفر فقاعة صغيرة ملونة، بينما يمكن لأربع نبضات صادرة من نوع آخر من الخلايا تشفير نمط رمادي متحرك. إن عدد النبضات ليس له معنًى إذا لم نعرف نوع الخلية التي يصدر منها.

ويبدو أن ما يحدث في الشبكية ينطبق على باقي أجزاء الدماغ. إجمالًا يوجد عدد يصل إلى نحو ألف نوع من الخلايا العصبية داخل دماغ الإنسان، لكلٍّ منها — على ما يبدو — دوره المميز.

حكمة الحشود

الشفرات المهمة في الدماغ تتطلب عادةً عمل العديد من الخلايا العصبية، وليس نوعًا واحد فحسب. على سبيل المثال، تستدعي رؤية أحد الوجوه نشاطًا في آلاف من الخلايا العصبية في قطاعات عليا من القشرة البصرية. تستجيب كل خلية على نحو مختلف إلى حدٍّ ما، وتتفاعل مع تفاصيل مختلفة، مثل: الشكل الفعلي للوجه، ولون بشرته، واتجاه تركيز العينين وما إلى ذلك. يكمُن المعنى الأكبر في الاستجابة الجماعية للخلايا.

ظهر تقدم كبير في فهمنا لهذه الظاهرة المعروفة باسم تشفير المجموعة في عام ١٩٨٦، عندما عرف أبستولوس جورجوبولس وأندرو شوارتز ورونالد كيتنر — بكلية الطب جامعة جونز هوبكنز — كيف تُشفِّر مجموعة من الخلايا العصبية الموجودة في القشرة الحركية لدى القردة الاتجاه الذي يُحرِّك فيه القرد أحد أطرافه. لا توجد خلية عصبية واحدة تحدد بالكامل المكان الذي يتحرك فيه أحد الأطراف، وإنما تحدده المعلومات التي تتجمع عبر مجموعة من الخلايا العصبية. من خلال حساب المتوسط المرجح لجميع الخلايا العصبية التي أطلقت نبضات، اكتشف جورجوبولس وزملاؤه أن بإمكانهم استنتاج — على نحوٍ موثوق فيه وبدِقَّة — الحركة المتوقعة لذراع القرد.

قام واحد من أوائل الأمثلة على ما يمكن للتكنولوجيا العصبية تحقيقه في يوم ما مباشرةً على هذا الاكتشاف. عمل مختص علم الأعصاب جون دونهو — من جامعة براون — على الاستفادة من فكرة التشفير الجماعي في بناء «أجهزة فك شفرة» عصبية — عن طريق دمج برامج إلكترونية وأقطاب كهربائية — تعمل على تفسير الإطلاق العصبي للنبضات في الوقت الحقيقي. زرع فريق دونهو مصفوفة تشبه الفرشاة من الأقطاب الكهربائية المجهرية مباشرة في القشرة الحركية بالدماغ لمريض مصاب بالشلل، من أجل تسجيل النشاط العصبي عند تخيل المريض لأنواع مختلفة من الأنشطة الحركية. بمساعدة الخوارزميات التي فسرت هذه الإشارات، يمكن للمريض استخدام النتائج من أجل التحكم في ذراع آلية. إن التحكم «الذهني» في ذراع آلية لا يزال بطيئًا وغير متقن، يشبه قيادة شاحنة متحركة دون محاذاة عجلاتها، إلا أن هذا العمل هو إشارة قوية على ما سيحدث عندما تتحسَّن قدرتنا على فك شفرة نشاط الدماغ.

من بين الشفرات بالغة الأهمية في دماغ أي حيوان تلك الشفرات التي يستخدمها من أجل تحديد موقعه في المكان. كيف يعمل نظام تحديد المواقع الموجود داخل أجسامنا؟ وكيف تشفر أنماط النشاط العصبي مكان تواجدنا؟ ظهرت إشارة أولى مهمة على هذا في أوائل سبعينيات القرن العشرين مع اكتشاف ما أصبح يُعرف باسم خلايا المكان في الحُصين لدى الفئران. تطلق هذه الخلايا نبضات في كل مرة يسير فيها الحيوان أو يجري في جزء ما من بيئة مألوفة. في المختبر، ربما تطلق إحدى خلايا المكان في معظم الأحيان عندما يقترب الحيوان من نقطة تفرُّع في متاهة، وربما تستجيب خلية أخرى بنشاط أكبر عندما يقترب الحيوان من نقطة الدخول. اكتشف الفريق المكوَّن من الزوجين إدوارد وماي بريت موسر نوعًا آخر من التشفير المكاني يعتمد على ما يُعرف باسم الخلايا الشبكية. يزداد نشاط إطلاق هذه الخلايا العصبية للنبضات عندما يكون الحيوان عند قمم شبكة هندسية تخيلية تمثل بيئته. مع وجود مجموعات من هذه الخلايا يتمكن الحيوان من قياس مكانه هندسيًّا حتى في الظلام. «يبدو أن هناك — على الأقل — أربع مجموعات مختلفة من هذه الخلايا الشبكية بدرجات دقة متفاوتة؛ مما يسمح بدرجة دقيقة من التمثيل المكاني.»

تسمح شفرات أخرى للحيوانات بالتحكُّم في الأفعال التي تتكرر بمرور الوقت. مثال هذا: مجموعة الدوائر الكهربائية المسئولة عن تنفيذ الترتيب الحركي الكامن وراء غناء الطيور المغردة. تغني ذكور طيور الحسون البالغة للإناث، وتستمر كل أغنية نمطية بضع ثوانٍ. تظل الخلايا العصبية من نوع معين داخل تكوين معين صامتة تمامًا حتى يبدأ الطائر بالغناء. عندما يصل الطائر إلى مرحلة معينة في أغنيته تثور هذه الخلايا العصبية فجأة في دفعة واحدة، تتكون من مجموعة مُحكَمة تتراوح من ثلاث إلى خمس نبضات، ثم تعود إلى الصمت مرة أخرى. يبدو أن المجموعات الفردية من الخلايا العصبية تُشفِّر أمرًا مؤقتًا، وتُمثِّل كلٌّ منها لحظة معينة في أغنية الطائر.

شفرة الجدة

على العكس من الآلة الكاتبة التي يشير فيها كل مفتاح إلى حرف معين، فإن شفرة أسكي تستخدم بتاتٍ متعددة من أجل تحديد كل حرف، وهذا مثال لما يطلق عليه علماء الكمبيوتر الشفرة الموزعة. على النحو نفسه تخيل المنظرون دومًا أن المفاهيم المعقدة ربما تكون مجموعة من «السمات» الفردية، على سبيل المثال: مفهوم «كلب جبال البرنيه»، ربما تُمثِّله خلايا عصبية تطلق نبضات استجابة لأفكارٍ مثل: «كلب»، و«محب للجليد»، و«ودود»، و«كبير»، و«بُنِّي في أسود» وغيرها، في حين تعجز خلايا عصبية أخرى، مثل التي تستجيب للمركبات أو القطط، عن إطلاق النبضات. معًا ربما تمثل هذه المجموعة الضخمة من الخلايا العصبية مفهومًا.

ثمة فكرة بديلة تسمى التشفير الضئيل لم تحظَ باهتمام كبير. وفي الواقع استهجن علماء الأعصاب فيما سبق الفكرة مطلقين عليها «شفرة خلية الجدة». أشار هذا التعبير الساخر ضمنيًّا إلى خلية عصبية افتراضية تطلق نبضات فقط عندما يرى أو يفكر حاملها في جدته (أو جدتها). بالطبع كان مفهومًا مثيرًا للسخرية، أو هذا ما بدا عليه الأمر.

إلا أنه مؤخرًا ساعد كوخ في العثور على دليل على شكل مختلف من هذه الفكرة. في حين لا يوجد سبب يدعونا إلى التفكير في أن ثمة خلية عصبية في دماغك تُعبِّر عن جدتك، أصبحنا نعرف الآن أن الخلايا العصبية الفردية — أو على الأقل المجموعات الصغيرة نسبيًّا منها — بإمكانها التعبير عن مفاهيم معينة بدقة بالغة. فأظهرت تسجيلات الأقطاب الكهربائية المجهرية المزروعة داخل عقول مرضى مصابين بالصرع خلايا عصبية فردية استجابت إلى محفزات شديدة التحديد، مثل مشاهير أو أوجه مألوفة. استجابت واحدة من هذه الخلايا، على سبيل المثال، لصور مختلفة للممثلة جنيفر أنيستون، في حين استجابت خلايا أخرى لرؤية صورة لوك سكاي ووكر؛ الشخصية الخيالية من فيلم حرب الكواكب، أو عندما يقال اسمه. يمكن أن يتمثل اسم مألوف في الحصين والمناطق المجاورة له بعدد من الخلايا العصبية يصل في أقل تقدير إلى مائة، وأعلى تقدير إلى مليون.

تشير مثل هذه الاكتشافات إلى أن الدماغ بإمكانه بالفعل ربط مجموعات صغيرة من الخلايا العصبية من أجل تشفير أشياء مهمة يتعرض لها مرارًا وتكرارًا؛ وهذا نوع من الاختزال العصبي الذي ربما يفيد في الربط السريع ودمج الحقائق الجديدة مع المعرفة الموجودة مسبقًا.

ميدان لم يكتشف بعد

إذا كان علم الأعصاب قد أحدث تقدمًا حقيقيًّا في معرفة الطريقة التي يشفِّر بها كائن معين ما يتعرض له في لحظة معينة، فسيكون أمامه طريق طويل لمعرفة طريقة تشفير الكائنات الحية لمعارفها الطويلة المدى. من الواضح أننا لا نستطيع البقاء لوقت طويل في هذا العالم إذا لم نستطع تعلم مهارات جديدة، مثل: التسلسل المنظم للأفعال التي نقوم بها، والقرارات التي نتخذها عند قيادة سيارة، إلا أن الطريقة المحددة التي نفعل بها هذا تظل غامضة. إن النبضات ضرورية، لكنها لا تكفي لتحويل النية إلى فعل. يتم تشفير الذكريات الطويلة المدى، مثل المعرفة التي تتطور لدينا عند اكتسابنا لإحدى المهارات، على نحو مختلف، ليس باستخدام وابل من النبضات المنتشرة، بل عن طريق إعادة الربط الفعلي لشبكاتنا العصبية.

تتحقق إعادة الربط هذه جزئيًّا على الأقل عن طريق إعادة نحت المشابك العصبية التي تربط الخلايا العصبية. نحن نعلم أن كثيرًا من العمليات الجزيئية المختلفة تشارك في هذا، لكننا ما زلنا نجهل الكثير عن أي المشابك العصبية التي تتعرض للتغيير ومتى، ولا نعلم تقريبًا أي شيء عن كيفية العمل عكسيًّا من رسم بياني للاتصال العصبي للوصول إلى الذكريات المشفرة.

يتعلق لغز آخر بكيفية تمثيل الدماغ للعبارات والجمل. حتى وإن كانت توجد مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية التي تعرِّف مفهومًا مثل جدتك، فإنه من غير المحتمل أن يكون دماغك قد خصص مجموعات محددة من الخلايا العصبية لمفاهيم معقدة أقل شيوعًا تُفهم على الفور؛ مثل «جدة باراك أوباما لأُمِّه». بالمثل من غير المحتمل أن يخصص الدماغ خلايا عصبية معينة طوال الوقت من أجل تمثيل كل جملة جديدة نسمعها أو نقولها. بدلًا من ذلك، في كل مرة نُفسِّر فيها جملة جديدة أو ننتجها ربما يدمج الدماغ مجموعات عصبية متعددة، فيدمج شفرات لعناصر أساسية «مثل الكلمات الفردية والمفاهيم» في نظام لتمثيل الكيانات المعقدة التوافقية. حتى الآن لا توجد لدينا فكرة عن طريقة تنفيذ هذا.

إن أحد أسباب ثبوت صعوبة حل مثل هذه الأسئلة عن خطط الدماغ لتشفير المعلومات هو أن دماغ الإنسان شديد التعقيد؛ حيث يضم نحو ٨٦ مليار خلية عصبية ترتبط معًا بما يقرب من كوادريليون وصلة دماغية. ثمة سبب آخر؛ وهو أن أساليب الملاحظة لدينا ما زالت بسيطة. إن أكثر أدوات التصوير شيوعًا التي تستخدم من أجل النظر داخل الدماغ البشري لا تتمتع بالدقة المكانية التي تمكنها من التقاط الخلايا العصبية الفردية في أثناء عملية إطلاقها للنبضات؛ لذا من أجل دراسة نظم التشفير العصبية الفريدة لدى الإنسان، مثل التي تستخدم في اللغة، ربما نحتاج إلى أدوات لم تُخترع بعدُ، أو على الأقل إلى طُرقٍ أفضل جوهريًّا لدراسة المجموعات الشديدة التداخُل من الخلايا العصبية الفردية داخل دماغ الكائنات الحية.

من الجدير بالذكر أيضًا أن ما يحاول المتخصصون في الهندسة العصبية القيام به هو بمنزلة استراق السمع؛ الوصول إلى شبكة الاتصالات الداخلية في الدماغ من أجل محاولة معرفة معناها. ربما يضللنا بعضٌ مِن استراق السمع هذا؛ فكل شفرة عصبية نتمكن من حلها ستُخبرنا شيئًا عن طريقة عمل الدماغ، لكن ليست كل شفرة نَحلُّها تُعبِّر عن شيء يستفيد منه الدماغ مباشرة؛ فبعضها ربما يكون «ظاهرة ثانوية»، بمعنى انقباضات عرضية، حتى إنْ ثبتت فائدتها في التطبيقات الهندسية والإكلينيكية، فإنها ربما تُمثل إلهاءات على طريق الفَهم الكامل للدماغ.

مع هذا ثمة سبب للتفاؤل بأننا نتقدم نحو الوصول إلى هذا الفهم. حاليًّا يسمح علم البصريات الوراثي للباحثين بتشغيل فئات مُعرَّفة جينيًّا من الخلايا العصبية وإيقاف عملها كيفما يشاءون باستخدام أشعة ضوء ملونة. إن أية مجموعة من الخلايا العصبية التي لها رمز جزيئي معروف ومميز يمكن تمييزها بعلامة مشعَّة، ثم إما جعلها تنشط بدقة تصل إلى ملِّي ثانية أو تُمنع من النشاط. يسمح هذا لعلماء الأعصاب بالانتقال من ملاحظة النشاط العصبي إلى التدخل فيه بدقةٍ، ومؤقتًا، وعلى نحو يُمكن عكسه. سيعمل علم البصريات الوراثي، الذي يستخدم حاليًّا في الأساس على الذباب والفئران، على تسريع البحث عن الشفرات العصبية. وبدلًا من مجرد ربط أنماط إطلاق النبضات بسلوك ما، سيتمكن العلماء التجريبيون من إدراج أنماطٍ للمعلومات، ودراسة الآثار على مجموعة الدوائر الكهربائية وسلوك الحيوانات الحية مباشرة.

إن حل الشفرات العصبية هو مجرد جزء من المعركة؛ ففكُّ شفرات الدماغ المتعددة لن يخبرنا بكل شيء نودُّ معرفته، تمامًا كما لا يمكن لفهم شفرة أسكي في حدِّ ذاته إخبارنا بكيفية عمل معالج النصوص، ومع هذا يظل من المتطلبات الضرورية لبناء تِقْنيَّات تُصلح الدماغ وتُقويه.

إليك، على سبيل المثال، الجهود الجديدة لاستخدام علم البصريات الوراثي في علاج نوع من العمى تُسببه الاضطرابات التنكُّسية، مثل التهاب الشبكية الصباغي الذي يهاجم خلايا العين الحساسة للضوء. تَستخدِم استراتيجيةٌ واعدة فيروسًا يُحقَن في مُقْلتَي العين من أجل تعديل الخلايا العقدية الشبكية جينيًّا حتى تستجيب للضوء. إن الكاميرا المركبة على نظارات ستصدر أشعة ضوء إلى الشبكية وتحفز نشاطًا كهربائيًّا في الخلايا المعدلة جينيًّا، وهو ما ينشط مباشرةً المجموعة التالية من الخلايا العصبية الموجودة في طريق الإشارة، ومِن ثَمَّ تحدث استعادة البصر. لكن من أجل إنجاح هذا الأمر سيتحتم على العلماء تعلُّم لغة هذه الخلايا العصبية. ومع تعلُّمنا التواصل مع الدماغ بلغته الخاصة سرعان ما ستظهر عوالم جديدة كاملة من الاحتمالات.

15 Dez., 2015 12:32:49 PM
0