Skip to main content

المشاعر الإنسانية: هل كانت مختلفة في الماضي؟

ترى سوزانا ليبسكم أن فهم الحياة العاطفية للناس في الماضي يعد من أصعب التحديات التي تواجه المؤرخ.

أثناء عملي في قصر هامبتون كورت كان من بين الأسئلة التي يطرحها الزائرون في كثير من الأحيان: «بم شعر الملك هنري الثامن عندما …؟» إن مثل هذا السؤال يصعب على المؤرخ الإجابة عنه؛ فمن العسير للغاية تدوين تاريخ للمشاعر والوصول إلى العواطف التي انتابت الناس في الماضي.

ومع ذلك، فالأمر ليس مستحيلًا. فكما هو الحال مع كافة الأحداث التاريخية، الخيط الرفيع الذي يجب تتبعه يوجد بين الجوانب الغامضة والمعروفة بالماضي. فإذا عدنا إلى ستينيات القرن العشرين فسنجد أن المؤرخ الفرنسي فيليب آريس زعم أن المفاهيم العصرية للطفولة والمشاعر الأسرية لم تكن موجودة في فترة العصور الوسطى. فمن خلال فحص المفردات والصور العائلية والدُّمى والملابس والأنماط التعليمية، استنتج آريس أنه في ظل الارتفاع الهائل في معدلات وَفَيَات حديثي الولادة لم تكن مشاعر الآباء والأمهات في أواخر العصور الوسطى مشابهة لمشاعرنا، بل اعتادوا الشعور باللامبالاة تجاه موت أبنائهم؛ لأن أبناءهم «مات منهم الكثير». وزعم آريس أن تلك اللامبالاة «كانت نتيجة مباشرة وحتمية لديموغرافية هذه الفترة، وأننا يجب ألا نندهش من أي شيء متعلق بقسوة المشاعر هذه … فهذا كان أمر طبيعي فحسب في ظروف المجتمع في ذلك الوقت.»

ومنذ ذلك الحين استعان المؤرخون بالخطابات والمذكرات وغيرها من المستندات الشخصية لإثبات أن الوالدين كانا يشعران حقًّا بحزنٍ كبير على وفاة أبنائهما، لكن أعمال آريس تحمل تذكرة مهمة ومجدية بأنه لا ينبغي لنا افتراض أن مشاعر الناس في الماضي كانت تماثل مشاعرنا. ومع ذلك، أحيانًا ما أجد نفسي في صراع ما بين شخصي كباحثة أكاديمية — تعلم أن الأفكار والمعتقدات والمشاعر في الماضي كانت قَطْعًا مرهونة بالظرف الثقافي، ومتغيرة من الناحية التاريخية — وبين نفسي كصديقة وحبيبة وابنة ترى ما قد يبدو كمشاعر مماثلة في الحياة العاطفية للناس في الماضي.

وبعد إذاعة برنامج «خمسمائة عام من الصداقة» على محطة بي بي سي راديو فور الإذاعية، في شهر أبريل، الذي يقدمه توماس ديكسون، أخذت أُفكر بصفة خاصة في الطبيعة التاريخية للصداقة.

كان موضوع الصداقة محل اهتمام كبير إبان فترة عصر النهضة التي أدرسها. فقد تأملت النخبة المثقفة في تلك الفترة نماذج الصداقة القديمة التي صورها أرسطو وشيشرون، وألفوا قصائدهم الغنائية عن الصداقة الحقيقية. وكما قالت سوزان بريجدن — في كتابها عن السير توماس وايت «غابة القلب» (صدر عام ٢٠١٢) الحائز على الجوائز: إن شعراء بلاط الملك هنري الثامن كانوا يكتبون عن الصداقة في أغلب الأحيان. في أوساط البلاط الملكي كانت الصداقة تعني الصِّدق في المقام الأول؛ فالصديق المخادع كان يعتبر متملقًا. وكانت تعني أيضًا الولاء والإخلاص في مواجهة إغواءات الخيانة. امتدح هنري هوارد، إيرل مقاطعة سَري، صديق طفولته هنري فيتسروي، دوق ريتشموند، الابن غير الشرعي للملك هنري الثامن، عندما كتب عنه فقال: «الخواطر الدفينة التي أفصحنا عنها بمثل هذه الثقة … ونذور الصداقة التي تعهدنا بها، والوعود التي حفظناها بمنتهى الإخلاص.» كانت الصداقة كنزًا نادرًا، وقد قال السير توماس مور في وصف الصداقة إن: «الصداقة المخلصة والدائمة بالرغم من عواصف القدر … هبة رفيعة ونفيسة.»

شددت كتابات ميشيل دي مونتان — رائد المقالة — على ندرة الصداقة الحقيقية. على مدار ست سنوات في خمسينيات القرن السادس عشر وحتى وفاة صديقه، كان مونتان صديقًا حميمًا لإيتيان دي لا بويسيه. وقد كانت صداقتهما وطيدة للغاية، لدرجة أن مونتان وصف نفسه وصديقه بأنهما: «روحان … امتزجا واختلطا معًا في اتحاد شامل للغاية، لدرجة أن الرابط الذي يصل بينهما قد انمحى بحيث لا يمكن تَبيُّنُه أبدًا.» بالنظر إلى التاريخ سنجد أن مونتان ودي لا بويسيه اتخذا من صداقة سقراط وألسيبياديس نموذجًا لصداقتهما، لدرجة أن مونتان صور لا بويسيه الأكبر سنًّا — نسبيًّا — في دور الحكيم الدميم.

وبعيدًا عن هذا التشبيه المُنفِّر، فإن المفردات المستخدمة في التعبير عن صداقتهما تبدو، للقارئ المعاصر، رومانسية على نحو واضح؛ كتب مونتان: «إذا ألححت عليَّ لأفصح عن سبب حبي له، لشعرت أنه لا يمكن التعبير عن السبب إلا بهذه الإجابة: «لأنه هو، ولأنني أنا».» ومع ذلك، فكما هو الحال مع سقراط وألسيبياديس، استنتج قلة من الباحثين أنهما كانت تجمعهما علاقة جنسية. إن الصداقة من الممكن أن تحمل بين طياتها حبًّا نجد نحن — المعاصرين — صعوبةً في تصديق وجوده في علاقات أخرى خارج نطاق العلاقة الجنسية.

إذن هل من الممكن أن أحظى بصداقة كهذه في العصر الحديث؟ من منظور كُتاب عصر النهضة، لن أحظى بهذه الفرصة؛ وهذا يرجع إلى أني امرأة، وهذه الدرجات الرفيعة من الصداقة لم تعتبر مطلقًا سهلة المنال للإناث العاديات. وهذا يذكرنا مجددًا بأن المشاعر كانت مرهونة بالظرف الثقافي، ومتغيرةً من الناحية التاريخية. ومع ذلك، أليس هذا مثالًا يبدو فيه الماضي كأنه يقدم لنا نموذجًا عاطفيًّا نادرًا وجميلًا كي نتطلع إلى الوصول إليه رجالًا ونساءً على حدٍّ سواء؟

10 Dec, 2015 09:44:30 PM
0

لمشاركة الخبر