Skip to main content

هل ألف شكسبير أعماله بنفسه؟ أسمع جعجعة ولا أرى طحنا

يبدأ معارضو الستراتفوردية بالإجابة التي يريدونها ثم يسيرون على نحوٍ عكسي صوب الدليل، وهذا يناقض أساليب العلم والدراسة الصحيحة؛ فهم يعكسون معايير البحث الموضوعي، ويستعيضون عنها بعلمٍ وتاريخٍ زائفَين.

أيمكن لأحد العامة أن يصبح أعظم الكُتَّاب المسرحيين وأكثرهم إثارة للإعجاب في تاريخ اللغة الإنجليزية؟ حقًّا، أيمكن لشخص «شِبه أُمِّيٍّ» أن يجمع المعرفة «الموسوعية» التي تملأ صفحات وصفحات من المسرحيات والأشعار المنسوبة إلى ويليام شكسبير من بلدة ستراتفورد أبون آفون؟ يصر هؤلاء الأشخاص المعروفون باسم «معارضو الستراتفوردية» على أن هذه الأعمال كانت من تأليف شخص آخر — شخص أكثر استحقاقًا في تقديرهم — كجزء من مؤامرة متقنة قد تتضمن تشفير رسائل خفية في النصوص.

تُطرح في الوقت الراهن أسئلة علمية جادة حول المؤلف الحقيقي لأعمال شكسبير، وذلك وفق ما عرفتُه أثناء القيام بدراساتي العليا في جامعة كنتاكي وتدريس دورة تعليمية جامعية بعنوان «تقصِّي الأدب الإنجليزي». فحصت النَّسَب المشكوك فيه لمسرحية «بريكليز» على مدار فصل من أطروحتي لأتبيَّن ما إذا كانت نتاج جهود متضافرة (كما يشك بعض الدارسين؛ إذ يرَوْن تفاوتًا في الأسلوب بين الجزء الأول — الفصلين الأول والثاني — وبقية المسرحية)، أم أن شكسبير كتبها بالكامل، وهذا ما اكتشفته بينما كنت أتبع منهجًا مبتكرًا (انظر نيكل ١٩٨٧، ٨٢–١٠٨). مع ذلك، يختلف هذا التحليل الأدبي تمامًا عن جهود معارضي الستراتفوردية الذين يتسمون في الأغلب بأنهم غير أكاديميين، ووفقًا لأحد النقاد (كيلر ٢٠٠٩، ١–٩)، فإنهم «مثقفون زائفون».

متلازمة «عبور المرآة»

على غرار الكثير من الأفكار المهووسة ونظريات المؤامرة الأخرى، ربما تبدو فكرةُ أنَّ ويليام شكسبير لم يؤلِّف المسرحيات والقصائد المنسوبة إليه منافيةً للمنطق للوهلة الأولى، لكن إذا تخطيتَ هذا الحاجز وعبرتَ المرآة (لو جاز لي استخدام تعبير لويس كارول)، وتبنيتَ هذه الفرضية المستبعدة، فستبدو لك الأمور مختلفةً للغاية. وهكذا من خلال البدء بالإجابة ثم التوجُّه عكسيًّا نحو الدليل — وهو ما يناقض مناهج العلم والأبحاث — يمكن للمرء على ما يبدو أن يتخلص من عبء الإتيان بالدليل ويعكس تطور فرضية قابلة للتصديق.

أُطلِقُ على هذه العملية اسم «متلازمة عبور المرآة»؛ لأن الفرد الذي يعاني من مثل هذه النوبة المرضية يدخل عالمًا عُكست فيه معايير البحث الموضوعي، وتحوَّلت إلى شبيهتها الظاهرية: العلوم الزائفة والتاريخ الزائف، وهكذا.

ينجذب الناس إلى هذا العالم الوهمي — كما يبدو لي — عن طريق شيء آخر غير التفكير الموضوعي؛ فخلال دراستي للادِّعاءات المتشككة لأكثر من أربعة عقود، اندهشت من طريقة سير بعض الأشخاص أو انخداعهم أو تعثرهم بتهوُّر في أحد المعتقدات العميقة رغم غرابتها. فعلى سبيل المثال، من وقت لآخر ينجذب شخصٌ ما للغاية نحو الصورة «الآسرة» على كفن تورينو، لدرجة أنه لن يقبلها بوصفها عملًا فنيًّا من صنع فنان من القرن الرابع عشر اعترف بعملها باستخدام الصِّباغ الأحمر (أكسيد الحديد)، وهو ما تم تأكيده عن طريق الاختبارات الميكروكيميائية والتأريخ بالكربون المشع. وبما أنه يعتقد آملًا بأن قطعة النسيج كانت تلف جسد المسيح في المقبرة حقًّا، فإنه يرى اعتراف المزوِّر كذبًا، وأكسيد الحديد مادة ملوِّثة، والتأريخ بالكربون المشع بوصفه خطأً ناتجًا ربما عن إطلاقٍ كثيفٍ للطاقة المشعة غيَّر من نسبة الكربون في لحظة بعث المسيح الإعجازية (هور ١٩٩٤، انظر نيكل ١٩٩٨).

يمكن تقديم أمثلة أخرى لا حصر لها على ذلك؛ فقد آمن عالم الأنثروبولوجيا جروفر كرانتس أن «ذو القدم الكبيرة» — بالفعل كما صُوِّر في الفيلم المزيَّف الشهير لروجر باترسون «الحلة الكبيرة» الذي أُنتِج في عام ١٩٦٧ — كان القرد العملاق الناجيَ «جيجانتوبيثيكس». كما تجاهل جون ماك — الطبيب النفسي من هارفرد — الأدلةَ على إمكانية معاناة مرضاه من التهيؤات و«أحلام اليقظة» ليقترح اختطافهم من قِبَل الكائنات الفضائية. وكذلك خُدع السير آرثر كونان دويل — مبتكر شخصية المحقق العقلاني شيرلوك هولمز — بسهولةٍ بجلسة استحضار الأرواح المخادعة وصور الحوريات المزيفة التي التقطتها طالبتان (نيكل ٢٠١١، ٦٨–٧٢؛ نيكل ٢٠٠٧، ٢٥١–٢٥٨؛ نيكل ١٩٩٤، ١٥٣، ١٧٥-١٧٦).

كما نرى، فإن العديد من مؤيدي هذه الأفكار أذكياء للغاية، مع ذلك يبدو أن ذكاء الفرد يمكن أن يعمل ضده — تمامًا كما في المصارعة اليابانية عندما يصبح وزن الشخص الثقيل عبئًا عليه ما إن يفقد توازنه — عندما يقع تحت تأثير متلازمة «عبور المرآة»: ربما يكون الشخص الذكي قادرًا على اختلاق تبريرات وتعقيدات نظرية تتطلب مهارة مدهشة، خادعًا نفسه أولًا، ثم الآخرين. كذلك الحال مع مؤيدي فكرة أن شكسبير لم يؤلف أعماله بنفسه، كما سنرى.

البيكونيون

ظلت فكرة أن شكسبير هو مؤلف المسرحيات والقصائد التي تحمل اسمه غير مشكوك فيها لما يقرب من قرنين بعد وفاته. وأول تشكيك مسجل في ذلك كان للقس جيمس ويلموت — الذي أخذ على عاتقه كتابة سيرة ذاتية للشاعر، لكنه لم يستطع إيجاد أي مخطوطة أصلية في ستراتفورد — وعبَّر عن شكوكه لأحد معارفه من جماعة الكويكريين، والذي بدوره نقلها إلى جمعيته الفلسفية المحلية في إبسويتش في عام ١٨٠٥. وقد نشر الكولونيل جوزيف سي هارت في عام ١٨٤٨ كتابًا حول حياة البحار، وتضمَّن هذا الكتاب أيضًا أفكاره حيال موضوعات أخرى متنوعة. كان هارت يحتقر شكسبير؛ إذ اتهمه بشراء المسرحيات أو سرقتها، وبأنه كان «يتبلها أولًا بإضافة الكلام الفاحش والسلوكيات البذيئة واللغة القذرة قبل تقديمها»، وكان يشعر بأن الأجزاء المثيرة للإعجاب، مثل مناجاة هاملت لنفسه، من تأليف شخص آخر (كيلر ٢٠٠٩، ١٣٨–١٤١).

صدر أول كتاب يهاجم الشاعر في عام ١٨٥٧ من تأليف امرأة تُدْعَى ديليا بيكون. وصف كتابها «كشف المستور في فلسفة مسرحيات شكسبير» — المكوَّن من ٦٧٥ صفحة — شكسبير بأنه «ممثل مسرحي غبي جاهل من الدرجة الثالثة» وسط «مجموعة من الممثلين الحقراء الدنيئين». وخلصت إلى أنه بالتأكيد لم يكن ليقدر على تأليف الأعمال التي تحمل اسمه. بالأحرى، اعتقدت بيكون (أخت القس ليونارد بيكون) أنه لا بد أن هذه الأعمال ألَّفتها نخبة سرية من الشخصيات الأدبية البارزة، برئاسة السير والتر رالي (١٥٥٢–١٦١٨)، وتحت إشراف وتوجيه السير فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦). وكانت ديليا بيكون تعتقد خطأً أنها تنحدر من سلالة السير بيكون، وكانت متعصبة للغاية لرأيها، لدرجة أنها قضت ليلة بائسة، ليس بحوزتها إلا مصباح ومجرفة، في قبر شكسبير في كنيسة الثالوث المقدس في ستراتفورد عازمة على التنقيب — «حرفيًّا» — عن الإجابات. وكانت عازمة تمامًا على نبش القبر اعتقادًا منها بأنها قد فكت رموز رسائل خفية في رسائل فرانسيس بيكون والتي أشارت إلى أسرار معينة — وربما حتى مخطوطات — مخفية في تجويف تحت شاهد القبر، ولكنها شقَّت طريقها بصعوبة باستخدام الدليل المفترض الذي لديها، وفي النهاية جبُنت عن فعل ذلك، وماتت مصابة بالجنون في سن ثمانية وأربعين عامًا (كيلر ٢٠٠٩، ١٤١-١٤٢؛ شونباوم ١٩٩١، ٣٨٥–٣٩٤).

الشكل ١: أول كتاب يضم المجموعة الكاملة لأعمال شكسبير لعام ١٦٢٣.

الشكل ١: أول كتاب يضم المجموعة الكاملة لأعمال شكسبير لعام ١٦٢٣.

مهَّدت ديليا بيكون الطريق — إذا جاز التعبير — ﻟ «البيكونيين» اللاحقين؛ هؤلاء الذين أصبحوا مقتنعين بأن السير فرانسيس بيكون كان بالفعل يكتب تحت اسم «شكسبير». ثم ظهر على الساحة مهووس مينيسوتا المُسمَّى «أجنيشيوس تي دونيلي»، الذي «أثبت» من قبل أن الأزتيك والمصريين ينحدرون من سلالة عاشت في «قارة أطلنتس المفقودة» (الخيالية). درس دونيلي نسخة من مسرحيات شكسبير الكاملة؛ أول كتاب يضم الأعمال الكاملة لشكسبير، والذي صدر في عام ١٦٢٣ (انظر الشكل السابق)، وتنبأ بوجود صيغ رياضية معينة (تتضمن مجموعة من «الأرقام الأساسية» و«المعاملات العددية») مكَّنته من «فك شفرة» رسائل افتراضية من النص. وعندما جاءت النتائج غامضة — كما هي الحال غالبًا — عدَّل دونيلي القواعد؛ مما جعل متخصصي التشفير يسخرون من منهجه. وقال أستاذ التشفير فليتشر برات (١٩٤٢–١٩٨٧) موضحًا: «أشاروا إلى أن قواعده لفك الشفرة كانت جميعها متغيرات تقريبًا، وتكوَّنت حلوله في الواقع من الكلمات التي كان يرغب في أن تشكِّل جزءًا من «حله للشفرة»، ثم العثور على بعض تركيبات الأرقام الأساسية والعوامل التي ستؤدي إلى النتيجة المطلوبة. وبوجود كل هذا الكم من المتغيرات، كان من الممكن استخلاص أي رسالة تقريبًا من عدد كلمات بكبر حجم أعمال شكسبير …»

ورغم ذلك، جاء لاحقًا بيكونيون آخرون؛ إذ التقط أورفيل وورد أوين — طبيب في ديترويت — العدوى وقضى بقية حياته مستخدمًا طريقته الخاصة المحسنة افتراضيًّا لفك الشفرة. وكانت إحدى رسائل بيكون المفترضة التي أشار إليها أوين تنص على: «خذ سكينًا واقطع كل كتبنا إربًا، وضع الأوراق على دولاب دوار كبير ثابت/يلف ويلف.» فأنشأ أوين، بإلهام من الرسالة، بكرتين عريضتين مرفوعتين على منصة خشبية تحركهما ذراع يدوية، وبين البكرتين قماشة بطول ألف قدم، ووضع أوين عليها أعمال وليم شكسبير المطبوعة وأعمال بيكون وغيرهما. كان أوين — أو سيدة من ثلاث سيدات كن يمثلن فريق عمله — يشغل الآلة باستخدام كلمات «مفتاحية» من أجل استخلاص نص يُملَى على كاتب على آلة كاتبة. وبمرور الوقت نشر أوين خمسة من ستة مجلدات بعنوان «قصة شفرات السير فرانسيس بيكون»، وظل بعد ذلك يتلقى رسائل من شبح بيكون (شونباوم ١٩٩١، ٤١١–٤١٣).

بعد ذلك أصدرت إليزابيث ويلس جالوب — سكرتيرة أوين — طريقتها الفريدة لفك شفرة رسائل بيكون الخفية الافتراضية. وفي الواقع استخدمت «شفرة ثنائية الحروف» اخترعها بيكون في الواقع. (إحدى الشفرات التي درستُها كمُشفِّر ناشئ عندما كنت في الثانية عشرة، وتستخدم خطين من خطوط الطباعة، مثلًا Roman وItalic، واللذان يمكن أن نرمز لهما ﺑ «أ» و«ب». والنص الذي سيحمل النص السري سوف يُميَّز بوحدات من خمسة أحرف، بحيث يمكن تمثيل الحرف أ عن طريق أأأأأ، والحرف ب عن طريق أأأأب، وهكذا [انظر جين ١٩٥٦، ٦-٧]).

لسوء الحظ، خضعت شفرة جالوب المفترضة بالكامل للتحليل الدقيق، من قِبَل خبيرَي الشفرات الأمريكيَّين الشهيرَين الكولونيل ويليام وإليزابيث فريدمان، وكانت نتائج التحليل مدمرة للشفرة. كانت الطباعة في العصر الإليزابيثي تعج بالعيوب؛ فكانت الحروف تصاب بالعطب، وغالبًا ما كانت تخلط عشوائيًّا، الأمر الذي بجمعه مع تأثير الورق الرديء وعوامل أخرى، كان يعني سهولة إيجاد «اختلافات» في الطباعة، حتى لو لم تكن موجودة (برات ١٩٤٢، ٩٠-٩١). وكما قال صامويل شونباوم (١٩٩١، ٤١٩) — الدارس لأعمال شكسبير — عن جالوب: «ما اكتشفته لم يكن شفرة ثنائية الحروف، وإنما كان اختبار رورشاخ (اختبارًا نفسيًّا) ثنائي الحروف.» علاوة على ذلك، أنتجت النصوص المكتشفة كلمات لم تُستخدم إلا بعد موت بيكون. واعترفت جالوب في وقتٍ ما أنه للتمييز بين خطَّيْ «أ» و«ب»، كان من الضروري استخدام «الحدْس» (برات ١٩٤٢، ٩١-٩٢). ويذكرنا مسعى البيكونيين الكامل نحو إيجاد نصوص سرية في كتابات شكسبير بكتابَي مايكل دروسنين بعنوان «شفرة الكتاب المقدس» (١٩٩٧ و٢٠٠٢)، الذي يعلن «تكهنات» حول أحداث حديثة يُزعم أنها كانت «مشفرة» في النص العبري للكتاب المقدس منذ حوالي ثلاثة آلاف عام (انظر توماس ٢٠٠٣ لتفنيد هذه المعلومات).

مارلو وآخرون

رغم عدم وجود أي دليل مقنع على أن بيكون كتب مسرحية واحدة، فإنه يوجد الكثير من المتمسكين ﺑ «نظرية» أن بيكون هو شكسبير. ومع ذلك، تبع ذلك اعتقاد آخر مهووس بأن كريستوفر مارلو (١٥٦٤–١٥٩٣) — أعظم المؤلفين المسرحيين في العصر الإليزابيثي قبل شكسبير — هو مؤلف «أعمال شكسبير». وحقيقةُ أن مارلو قُتِل في معركة في حانة قبل أن يُكتَب معظم مسرحيات الشاعر لم تُثنِ المؤمنين بهذه النظرية عما يؤمنون به؛ فقد تمكَّن أهم دعاة هذه النظرية — وهو مراسل صحفي من برودواي يُدعَى كالفين هوفمان — من وضع تفسير لها بعد أن «عبر المرآة».

تخيل هوفمان أن موت مارلو تم تلفيقه بقتل بحَّار أجنبي بدلًا منه، بينما هرب مارلو عبر فرنسا إلى إيطاليا حيث بدأ في كتابة المسرحيات قبل أن يعود في النهاية إلى إنجلترا متخفيًا. وكان من المفترض أن كل شيء معدٌّ عن طريق عشيقه مثليِّ الجنس الأرستقراطي الذي استأجر ممثلًا — ويل شكسبير — للسماح بكتابة اسمه على المخطوطات. كان هذا السيناريو الخيالي — كما وصفته «تايمز ليتراري سابليمنت» (٢٤ يناير ١٩٥٦) — «محض هراء»، وإن كان هذا وصفًا كريمًا (شونباوم ١٩٩١، ٤٤٥–٤٤٧).

وبعيدًا عن مارلو، ذُكر بضعة وسبعون مرشحًا آخرون، بدايةً من السير والتر رالي وكاردينال وولسي وبين جونسون حتى العديد من حاملي لقب إيرل من داربي وإيزيكس وروتلاند، وبالطبع، ساوثهامبتون (كان الأخير هو راعي شكسبير)، وانتهاءً بالملكة إليزابيث الأولى (ويلسون ١٩٩٣، ١٥–٢٠؛ كيلر ٢٠٠٩، ١٣٥-١٣٦؛ شونباوم ١٩٩١، ٣٩٥–٤٠٤). وهناك إيرل أكسفورد السابع عشر، المرشح المفضل حاليًّا لمعارضي الستراتفوردية.

إيرل أكسفورد

في عام ١٩٢٠، نشر معلم لغة إنجليزية يُدعَى جيه توماس لوني كتابَه «كشف هوية شكسبير»، مُقدِّمًا الادِّعاء بأن إيرل أكسفورد السابع عشر إدوارد دي فيري (١٥٥٠–١٦٠٤) كان المؤلف الحقيقي للمسرحيات والقصائد التي تحمل اسم شكسبير. وكما هو متوقع، جذب الكتاب الكثير من الأتباع رغم سذاجته الفكرية.

رأى مؤيدو هذه الفكرة «إيرل أكسفورد» على أنه المؤلف الحقيقي رغم أنه مات قبل تمثيل مسرحيات «الملك لير» و«ماكبث» و«أنطونيو وكليوباترا» وغيرها من المسرحيات الأخرى. وافترضوا أن الدارسين أَخطَئُوا في تأريخ مسرحيتَي «الملك لير» و«ماكبث»، وأن المسرحيات الأخرى تُركت غير مكتملة، وأكملها بعد ذلك مؤلفون مسرحيون أقل شأنًا (شونباوم ١٩٩١، ٤٣٠–٤٣٤).

وبقدر ما كانوا متحمسين لهذا المعتقد، حامت الشكوك حول دليلهم على أن إيرل أكسفورد هو المؤلف الحقيقي. فعلى سبيل المثال، اكتشفوا دليلًا كاذبًا في خطابٍ من عام ١٥٧٨ من شاعر آخر يُسمَّى جابرييل هارفي إلى إيرل أكسفورد؛ حيث كتب هارفي يمدحه: «عيناك تشعان نارًا، وإرادتك تهز الرماح …» “thy will shakes spears”، وفي ذلك إشارة واضحة للشاعر! ولكن للأسف، كانت هذه ترجمة خادعة عن اللغة اللاتينية التي كانت تقول في الحقيقة: «عيناك تشعان نارًا، ومحياك أقرب إلى هزة الرمح “Thine eyes flash fire. Thy countenance shakes a spear”» (كيلر ٢٠٠٩، ١٦٢–١٦٤).

بل إن أحد مؤيدي نظرية إيرل أكسفورد من أربعينيات القرن العشرين استعان بعالم روحاني. واستخدم الوسيط «الكتابة التلقائية» للربط بين شكسبير وبيكون وإيرل أكسفورد، الذين يفترض أنهم تعاونوا من أجل تأليف المسرحيات (ويلسون ١٩٩٣، ١٩-٢٠).

يؤمن مؤيدو هذه النظرية بأن إيرل أكسفورد استخدم «ويليام شكسبير» كاسم مستعار، لدرجة أن طريقة كتابة الاسم بشرطة تقسمه، والتي استُخدمت في حوالي نصف نسخ المسرحيات ذات الحجم الصغير (قطع الربع)، تسببت في أن يكتب أحد المؤيدين — تشارلز أوجبورن الابن — في عام ٢٠٠٩ قائلًا: «عندما نصادف اسمًا إنجليزيًّا مقسومًا بشرطة دائمًا ويتكون من كلمتين ليستا في الأصل اسمين وأيضًا تصفان فعلًا، يمكننا أن نتأكد أنه اسم مختلق والمقصود أن يُفهم منه أهمية مجازية.» وهذا منافٍ للعقل ويطرح السؤال: لماذا إذنْ لم يستخدم الاسم المقسوم بشرطة على كل الإصدارات المطبوعة من المسرحيات؟ في الواقع، كان هِجاء الأسماء الإبداعي حسب طريقة نطقها شائعًا في عصر شكسبير، وهو ما دلل عليه — على سبيل المثال — من خلال الهِجاء المختلف في ويل، وليم، ويليام، ويلمام، وما إلى ذلك، وكذلك شكسبير، شيكسبير، شاكسبير، شكسبر، شيجسبير، شاكسبر، شيك-سبير؛ وعلى المنوال نفسه، كان يوجد أحد عشر هِجاءً مختلفًا لاسم العائلة لدى كريستوفر مارلو (كيلر ٢٠٠٩، ١٥٦-١٥٧).

جرت مناظرة في محاكمة صورية في عام ١٩٨٧ حول الجدل الدائر عن إيرل أكسفورد مقابل شكسبير، وجرت أحداثها في الجامعة الأمريكية. وترأس المحاكمة ثلاثة من قضاة المحكمة العليا الأمريكية، هم: هاري بلاكمان وويليام برينان وجون بول ستيفنز، وانتهت بالحكم لصالح شكسبير، وأشار القاضي ستيفنز على نحوٍ واضح إلى أن: «حجة مؤيدي إيرل أكسفورد تعاني من عدم وجود نظرية واحدة متماسكة تؤيدها.» (مقتبَسَة في بيثيل ١٩٩١، ٤٧).

شكسبير الحقيقي

على الرغم من أن معارضي الستراتفوردية يهاجمون شكسبير بعنف (ولكن يمتعضون من أي نقد موجه لهم أو لمن يرشحونه كمؤلف للأعمال)، فالحقيقة أنه لا يوجد أي دليل (فالتلميحات والصدف وترويج الأمور الغامضة ليست أدلة) على أن «مؤلفات شكسبير» كُتبت بواسطة أي مؤلف آخر غير ويليام شكسبير. ويوجد الكثير من الأدلة على أنه هو كاتبها بالفعل.

الشخص الشهير الذي حمل هذا الاسم كان شخصية تاريخية وُلدت في ستراتفورد في عام ١٥٦٤، وعُمِّدَ (وفقًا لسجل التعميد في كنيسة الثالوث المقدس) في ٢٦ أبريل، كما كتب باللاتينية: «ويليام بن جون شكسبير» (شونباوم ١٩٩١، ٧-٨). وبينما لا يوجد أي إثبات لالتحاق شكسبير بمدرسة ستراتفورد، لا يوجد أي إثبات لالتحاق أي شخص بها قبل القرن التاسع عشر (ماتوس ١٩٩١، ٦٦)؛ فغالبًا ما تكون السجلات القديمة ناقصة أو ضائعة (كما تعلمت خلال سنوات عملي أخصائيًّا معتمدًا في علم الأنساب). وثَمَّةَ ترخيص زواج صدر في ٢٧ نوفمبر ١٥٨٢ لصالح «ويلمام شاكسبير وأنام هاتيلي من تيمبل جرافتون»، من الواضح أن الموثق سمع خطأً اسم عائلة العروس، والذي كان هاثاواي، وهو الأمر الذي تمت تسويته في اليوم التالي بوثيقة للسيدة «آن هاثاوي» للزواج من «ويليام شجسبير». وأشارت سجلات لاحقة إلى تعميد ابنتهما الكبرى سوزانا (في ١٥٨٣) والتوءم هامنت وجوديث (١٥٨٥) (شونباوم ١٩٩١، ١٠–١٢).

عرفت الفترة من ١٥٨٥ حتى ١٥٩٢ بالاسم الخاطئ نوعًا ما «السنوات الضائعة»، ومن المعروف أن شكسبير تواجد خلالها في لندن. وفي عام ١٥٩٢ حذر روبرت جرين زملاءه من المؤلفين المسرحيين من غريمهم الأدبي الشاب شكسبير، واصفًا إياه:

… غراب مدعٍ، مزين بريشنا، و«قلب النمر لديه مستتر تحت بشرة ممثل مسرحي» [مقتبسة من مسرحية «هنري السادس» لشكسبير (من الجزء الثالث، الفصل الأول، المشهد الرابع، السطر ١٣٧. كلمات شكسبير الصحيحة هي: «يا قلب النمر المستتر ببشرة امرأة!»)] يفترض أنه قادر أيضًا على صياغة كلام منمق من الشعر المرسل [البحر العمبقي ذو التفعيلة الخماسية غير المقفى] كما يفعل أفضلكم، ويوهم نفسه بأنه يقينًا «صاحب الصنائع السبع»، وأنه الوحيد القادر على صياغة مشهد شكسبيري في أرجاء البلد.

إن السطر المقتبس من مسرحية شكسبير — والذي يمكن تمييزه بسهولة — يمثل أقدم ذكر لشكسبير بوصفه ممثلًا وكاتبًا مسرحيًّا (ويلسون ١٩٩٣، ١٢٤-١٢٥).

وثَمَّةَ دليل آخر يكشف النقاب عن الحياة المتواصلة لشخص حقيقي جدًّا:

على سبيل المثال، ليس شكسبير بأي حال من الأحوال دون وثائق توثِّق ماضيَه، وإن كانت في الغالب مجموعة من الوثائق القانونية المملة. وتوجد جميع وثائق تعميد وزواج ووفاة أفراد عائلته المقربين — مع وجود استثناءات في بعض الأحيان — في السجلات الباقية في كنيسة الثالوث المقدس في بلدته ستراتفورد أبون آفون. أما بالنسبة لوثائق حياته بوصفه ممثلًا ناجحًا، فقد ظهر اسمه في صدارة قوائم ممثلي مسرحيات بين جونسون في الكتاب الأول الذي يحوي الأعمال الكاملة لجونسون التي أدتها فرقة شكسبير المسرحية. وفي بعض مسرحيات شكسبير — ولكن ليس كلها بأي حال — التي نُشرت خلال حياته، كان اسمه مرتبطًا بها رسميًّا على صفحة الغلاف، وكذلك في السجلات الرسمية الباقية من سجلات «ستاشنيرز كومباني»، الاتحاد الرسمي لبائعي الكتب والمطابع في عصره. وتشير وثائق دار الوثائق العامة في لندن إلى أنه كان شاهدًا في قضية في المحكمة، وتحمل توقيعه الموثق بهذا المعنى. وكذلك توجد في دار السجلات العامة في لندن وفي أماكن أخرى وثائق لاتفاقيات ممتلكاته (وتحمل توقيعين إضافيين له)، ووصايا زملائه الممثلين من لندن وأصدقائه من ستراتفورد، والتي تتضمن بعض الذكريات اللطيفة له، ووصيته الشخصية التي تحمل التوقيعات الثلاثة الأخيرة من التوقيعات الستة المتفق عمومًا على أنها توقيعاته. (ويلسون ١٩٩٣، ٩).

تُوُفِّيَ ويليام شكسبير في ٢٣ أبريل ١٦١٦ تقريبًا، ودُفن في ٢٥ أبريل. ونُشر الكتاب الأول الشهير لمسرحياته المجمعة (مرة أخرى، انظر الشكل السابق) في ١٦٢٣، والذي جمعه زميلاه الممثلان جون هيمنجز وهنري كوندل، وضم في طياته مجموعة من الأعمال الرائعة، لدرجة أن الكثيرين يؤمنون بأنه لا بد أنها أعمال شخص من الطبقة الأرستقراطية وليس من العامة.

كيف اكتسب هذا الشاعر المعرفة الواسعة التي تظهر في كتاباته؟ ربما اكتملت عبقرية شكسبير المتأصلة من خلال تعليمه الجاد في مدرسة تعلم اللغات الكلاسيكية (حيث ربما يكون قد تعلم بعض اللاتينية واليونانية) وإقامته بعد ذلك في لندن، مركز بريطانيا الفكري؛ حيث من الواضح أنه قرأ كل ما وقعت عليه عيناه. ولما كان هو نفسه ممثلًا، وكذلك مساهمًا في فرقة تمثيل ومسرح، صادق الكثير من كُتَّاب المسرحيات والشعراء والمثقفين والرحالة والنبلاء وغيرهم (كيلر ٢٠٠٩، ١٢، ٢٧١)، وهؤلاء هم مصادر المعرفة الحقيقية. (مع ذلك، لم يضع شكسبير دومًا الأمور في نصابها الصحيح. فعلى سبيل المثال منح لمنطقة بوهيميا ساحلًا ووضع الساعات في روما القديمة [إيفانز ١٩٤٩].)

يتعجب الأكسفورديون من عدم وجود أي مخطوطات أو خطابات أو يوميات بخط يد شكسبير، ولكن يوجد نقص عام في مثل هذه الأشياء لكل الكُتَّاب المسرحيين من العصر الإليزابيثي والحقبة اليعقوبية (كيلر ٢٠٠٩، ٤). ومن الواضح أنهم كانوا يعزون أهمية قليلة للاحتفاظ بمثل هذه الأشياء؛ إذ إن جمع المخطوطات الأدبية لم يصبح مسعًى جديًّا حتى الجزء الأخير من القرن الثامن عشر (ماتوس ١٩٩١، ٧٠).

خلاصة القول هي أنه كان يوجد شخص باسم شكسبير، والاعتقاد بأن شخصًا آخر ألف المسرحيات والقصائد التي تحمل اسمه — إنه يوجد في الواقع مؤامرة للقيام بخدعة متقنة — هو انتهاك غير مسوَّغ لمبدأ «شفرة أوكام»، القائل إن النظرية ذات الافتراضات الأقل هي الأفضل.

ولكن الأشخاص الذين أصيبوا بمتلازمة «عبور المرآة» لن يقتنعوا بذلك. وكما قال شونباوم (١٩٩١، ٤٥١): لا يوجد شيء «سيمحو الشكوك التي روجها على مدار قرن مجموعةٌ من الهواة الذين استسلموا للقوة المظلمة لهوس معارضي الستراتفوردية. ولكن ثَمَّةَ فكرة واحدة تمنحنا قدرًا ضئيلًا من الراحة المعوضة: الطاقة التي استهلكها هذا الجنون ربما كانت لتوجَّه بطريقة أخرى إلى عالم السياسة.»

17 Dec, 2015 02:37:31 PM
0

لمشاركة الخبر