Skip to main content

برتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠)

أليستر ماكفيرلين يكشف مفارقات الحياة المديدة لإيرل راسل الثالث.

وُلد برتراند راسل، إيرل راسل الثالث، في الثامن عشر من مايو عام ١٨٧٢، في كليدون هول بمقاطعة مونموثشير، لواحدة من الأسر السياسية العريقة في بريطانيا؛ فقد تمكن جده — إيرل راسل الأول، وعضو حزب الويج — لورد جون راسل، الذي ترأس الوزارة مرتين، من تمرير «قانون الإصلاح» في البرلمان عام ١٨٣٢. كان أبوه بالمعمودية هو جون ستيوارت ميل، وقُدم بيرتي الصغير إلى الملكة فيكتوريا وهو في الثانية من عمره. وأصبح راسل فيلسوفًا مبتكرًا عظيمًا، غير أن السياسة كانت تجري في عروقه بالوراثة.

تُوفيت والدة راسل وهو في الثانية من عمره، وتُوفي والده وهو في الثالثة. كان له شقيقان يكبرانه؛ أخ يدعى فرانك، وأخت اسمها ريتشل، ماتت في سن صغيرة. نشأ راسل وأخوه في كنف جديهما في منزل «بيمبروك هاوس» في منتصف حديقة «ريجنتس بارك» (كان المنزل هدية من الملكة فيكتوريا على سبيل العرفان للخدمات السياسية التي قدمها اللورد راسل. كان هذا ملائمًا، لأنه بدون قانون الإصلاح، لعلها ما كانت ستجد عرشًا لتجلس عليه). هناك نشأ الصبي بلا أصدقاء، وتولى رعايته سلسلة متواصلة من المربيات ومديرات المنزل من سويسرا وألمانيا، وتلقى تعليمًا منزليًّا على يد مجموعة من المعلمين الإنجليز الخصوصيين. كان صبيًّا وحيدًا حزينًا نضج قبل الأوان.

في سن الحادية عشرة تعلم نظريات إقليدس، على الرغم من أنه شعر بإحباط شديد عندما اكتشف أن هذا الصرح المنطقي السامي في الهندسة يرتكز على مسلمات افتراضية لا يمكن إثباتها؛ وكانت تلك إشارة لما هو آت. وبجهوده الشخصية أعاد اكتشاف الهندسة الديكارتية، فاكتشف مبدئيًّا كيفية حساب مدارات الكواكب. وكان راسل واسع الاطلاع، ولكن بدون توجه عام. ومع أنه اختلف مع منطق أبيه بالمعمودية، فإن الأفكار السياسية التي وردت في كتاب ميل «عن الحرية» أثرت فيه بعمق.

كان الغرض من كتاب «الأصول الرياضية» هو إيجاد أساس سليم منطقيًّا للرياضيات. وكان أساس نظرية الأعداد لراسل ووايتهيد هو «نظرية المجموعات». فعلى سبيل المثال: يعني الرقم ٤ مجموعة كل المجموعات التي تتكون من أربعة عناصر. لكن في منتصف هذا المشروع الضخم، اكتشف راسل تناقضًا جوهريًّا في نظرية المجموعات زعزع أساسات بنيانهما قبل حتى أن ينهيا البنيان.

يتمثل تناقض راسل في السؤال التالي: «هل المجموعة التي تحتوي على {كل المجموعات التي لا تنتمي لنفسها} تنتمي لنفسها؟» هذه مفارقة لأنه إذا كانت هذه المجموعة لا تنتمي لنفسها، فهي إذن تنتمي لنفسها، وإذا كانت تنتمي لنفسها، فهي لا تنتمي لنفسها … أمضى راسل عامين يعمل على إيجاد حل لهذه المعضلة، وأخيرًا اكتمل المشروع، غير أن الأسس لم تبد مطلقًا سليمة بالقدر الذي كان يأمله في وقت ما.

كان راسل أيضًا رائد مجال المنطق الفلسفي. ففي مطلع القرن العشرين، طمح الفلاسفة إلى تمثيل مسائل اللغة العادية بطريقة دقيقة منطقيًّا، وكان راسل أحد الفلاسفة الذين انخرطوا في صياغة نظام الرموز اللازم لهذا الغرض. كان المرجو أن يتيح هذا التعبيرَ عن مسائل اللغة العادية بصورة تسمح بالتعامل معها بنفس الطريقة التي يتعامل بها الرياضيون مع المعادلات الرياضية. بيد أنه في الوقت الحالي بات معروفًا أن استخدام اللغة العادية شديدة المرونة والدقة والالتباس بحيث لا يمكن اختزاله بسهولة في رموز منطقية، والتعامل معه بطريقة مباشرة منطقية/رياضية.

عندما التحق راسل بجامعة كامبريدج وهو في الثامنة عشرة من عمره، دخل — على حد قوله — «عالمًا جديدًا من السعادة غير المحدودة». (من فصل «نموي العقلي»، المجلد الخامس من سلسلة الكتب المعروفة باسم «مكتبة الفلاسفة الأحياء»، ١٩٤٤.) وجد راسل نفسه فجأة وسط أناس يتحدثون اللغة المألوفة له، فحين كان يعبر عما يدور بخلده حقًّا، حسبما يقول هو: «لا يحملقون في كما لو كنت معتوهًا، ولا يتهمونني كما لو كنت مجرمًا»؛ على خلاف ما وجده من أسرته ومعلميه. وفي كلية ترينيتي، اكتسب أصدقاء دائمين، وكانت البيئة هناك «مناسبة تمامًا» (الاقتباسان الأخيران من فصل «التكيف: موجز للسيرة الذاتية»، في كتاب برتراند راسل «صور من الذاكرة ومقالات أخرى»، ١٩٥٦). لقد أعاق المناخ القمعي والكئيب الذي نشأ فيه نموه الاجتماعي، لكنه سرعان ما اكتسب الثقة بنفسه وصار متفائلًا ومعتمدًا على ذاته. وقد كرس السنوات الثلاث الأولى لدراسة الرياضيات، والسنة الرابعة للفلسفة. لقد ثبت قدميه، ولم يلتفت وراءه بعد ذلك.

عند التخرج، كان عليه أن يتخذ قرارًا: هل يكرس نفسه للفلسفة أم للسياسة، مع كون الأخيرة هي المهنة المألوفة لعائلته منذ القرن السادس عشر؟ وفي عام ١٨٩٤ تزوج من أليس بيرسول سميث، وهي من الكويكرز الأمريكيين. وظلت الضغوط العائلية مكثفة عليه، وبدا لبرتراند الشاب أن عدم امتهان السياسة سيكون بمنزلة خيانة. لقد رُتب كل ما يلزم لتمهيد الطريق أمامه؛ إذ منحه السفير البريطاني في فرنسا وظيفة في السفارة. لكن بعد مرور فترة وجيزة، اتضح أن سحر الفلسفة لا يُقاوم، فعاد إلى كامبريدج عام ١٨٩٥.

ومن أجل نيل زمالة كلية ترينيتي، قدم راسل أطروحة حول أسس الهندسة؛ واستحوذت الأسس المنطقية للرياضيات على عقله كليًّا طوال العقد التالي. وفي كتابه «مبادئ الرياضيات» (١٩٠٣)، قال إن الرياضيات هي منطق في الأساس. ومن ثم، سعى بالتعاون مع ألفريد نورث وايتهيد — أحد الحاصلين القدامى على زمالة الكلية — إلى ترسيخ هذه الفكرة نهائيًّا.

عندما كان راسل لا يزال طالبًا، أصابه إحباط شديد متزايد من الطريقة التي يشرح بها المحاضرون والمعلمون الرياضيات؛ إذ بدا له أن افتقارهم إلى الدقة المنطقية يختزل الرياضيات إلى مجموعة من الخدع المصممة لحل المسائل الرياضية في امتحانات الرياضيات بجامعة كامبريدج «ترايبوز». وتحول شغفه إلى الحاجة الملحة لإرساء الرياضيات على أساس منطقي سليم، وهكذا تحول من الرياضيات إلى الفلسفة. غير أن الحاجة إلى أساس تقوم عليه الرياضيات كانت أكبر من مجرد تحدٍ فلسفي. تطلع راسل بشدة إلى يقين مطلق شعر أنه لن يصل إليه إلا بهذه الطريقة. وطوال ما يزيد على عقد من الزمان أضنى نفسه بالتعاون مع وايتهيد لإنجاز ذلك المشروع الهائل المتمثل في إيجاد أساس منطقي سليم للرياضيات. قلب عملهما المنطق الرياضي، لكنه تعثر فيما أصبح يعُرف باسم «تناقض مجموعة راسل».

كان الكيان المنطقي الأساسي الذي استخدمه راسل ووايتهيد هو المجموعة. إن معظم المجموعات لا تنتمي لنفسها، لكن بعضها كذلك، مثل مجموعة كل ما هو ليس رجلًا (لأن المجموعة ليست رجلًا). وكان الجبل الجليدي المنطقي الذي اصطدمت به سفينتهما الفلسفية الضخمة هو السؤال التالي: هل مجموعة كل المجموعات التي لا تنتمي لنفسها تنتمي لنفسها؟ كلتا الإجابتين خاطئة، وهذا هو التناقض (انظر الإطار السابق). وهكذا بات حلم راسل باليقين كابوسًا من التناقض. وبعد قرابة العامين، وجدا طريقة لترميم الخلل، عن طريق تعريف فئة من المجموعات المقيدة على نحو مناسب. غير أن تلفًا يتعذر إصلاحه قد حدث بالفعل وطال كلًّا من محاولة إيجاد أساس منطقي لا يقبل الجدل للرياضيات، ومحاولة إشباع توق راسل الشديد لليقين. غير أن النتيجة النهائية التي أسفرت عنها الجهود الهائلة لراسل ووايتهيد، وهي كتاب «الأصول الرياضية» (١٩١٠–١٩١٣)، كانت بمنزلة صرح فكري شاهق.

بعد أن عجز راسل عن الوصول لليقين المطلق الذي كان يلهث وراءه — تلك الصخرة التي كان ينوي أن يؤسس عليها فكره — تحولت اهتماماته على نحو حاسم نحو الواقعية وعلم دلالات الألفاظ. وبعد أن وجد أن المنطق لا يمكن استخدامه في نسج شبكة دقيقة تحتوي الرياضيات، لم يتخل عن المنطق وإنما طور منهجًا تحليليًّا نتج عنه ما يُطلق عليه الآن «منطق الفلسفة». وهكذا قاد راسل ثورة ضد مذهب «المثالية»، الذي كان سائدًا في الفلسفة في مطلع القرن العشرين، ووضعت الأساليب التي طورها أساس الفلسفة التحليلية في القرن العشرين.

على الرغم من الحياة المحمومة متزايدة التعقيد التي عاشها راسل، فقد واصل نشر أعماله بتوسع، وتنوعت مقالاته تنوعًا كبيرًا ما بين الفلسفة، وعلم الاجتماع، والسياسة. وتضم أعماله الفلسفية الرئيسية: «عن التدليل» (١٩٠٥)، و«مشاكل الفلسفة» (١٩١٢)، و«العقل والمادة» (١٩٢٥)، و«تحليل المادة» (١٩٢٧)، و«المعرفة الإنسانية» (١٩٤٨). وقد ألف كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» الذي حقق شهرة واسعة وأكسبه دخلًا طيبًا لبقية حياته، وفاز بجائزة نوبل في الأدب عام ١٩٥٠. أمضى راسل أيضًا الكثير من الوقت في تشجيع الشاب لودفيج فيتجنشتاين، على الرغم مما ترتب على ذلك لاحقًا من استنزاف لطاقته العاطفية، وقد دعم بقوة عمل فيتجنشتاين الذي أثمر كتابه الشهير «دراسة منطقية فلسفية». طور راسل نسخته الخاصة من الأفكار التي عرضها فيتجنشتاين في كتابه، وألقى مجموعة من المحاضرات عن «الفلسفة الوضعية المنطقية» عام ١٩١٨، فيما كان فيتجنشتاين لا يزال أسيرًا في أحد معسكرات الحرب. وادعى فيتجنشتاين فيما بعد أن أفكاره أُسيء فهمها ومن ثم أُسيء تقديمها، ولم تتحسن علاقتهما بعد ذلك مطلقًا.

تتميز السيرة الذاتية لراسل — التي نُشرت في ثلاثة مجلدات (١٩٦٧–١٩٦٩) — بالصراحة والموضوعية؛ إذ يصف فيها كيف أدرك بينما كان يقود دراجته أنه لم يعد يحب أليس. وكان تصريحه لها بذلك كفيلًا بأن يهدم زواجهما. بعد ذلك انخرط راسل في العديد من العلاقات العاطفية، التي كانت متزامنة في أغلب الأحيان، وكانت أشهرها مع الليدي أوتولين موريل والمتحررة دورا بلاك. ولمّا اكتشف أن دورا حامل في عام ١٩٢١، عجل بالطلاق من أليس وتزوج دورا بعدها بستة أيام فحسب، وبحسب اتفاقهما، كان زواجهما زواجًا مفتوحًا. أنجبت دورا العديد من الأبناء لرجال آخرين، وابنين لراسل. وأسس راسل ودورا معًا مدرسة بيكون هيل التجريبية في ساسكس عام ١٩٢٧.

تطلقا عام ١٩٣٢، وتزوج راسل في الحال من مربية الأطفال باتريشيا سبنس التي أنجب منها طفلًا صار فيما بعد مؤرخًا عظيمًا وديمقراطيًّا ليبراليًّا. دام هذا الزواج حتى عام ١٩٥٢، وسرعان ما تزوج راسل بعدها من إديث فينش التي كان يعرفها منذ عام ١٩٢٥.

إبان الحرب العالمية الأولى كان راسل مناصرًا قويًّا ومجاهرًا لمذهب «حب السلام». وقادته إحدى المقالات التي كتبها عن مناهضة الحرب إلى السجن مدة ستة أشهر، وحُرم من زمالة كلية ترينيتي. غير أنه نظر إلى الحرب العالمية الثانية على أنها مجرد حرب، معتبرًا الشمولية شرًّا عظيمًا. ولبقية حياته انخرط على نحو متزايد في المعارضة السياسية والمظاهرات المناهضة للسلطوية والحرب. ولمّا كان مناهضًا متحمسًا للأسلحة النووية، رَاسَل كلًّا من الكرملين والبيت الأبيض إبان أزمة الصواريخ الكوبية، وقد وصله رد من خروتشوف، لكن برقيته إلى كنيدي عادت دون أن تُفتح.

كان لأعمال راسل أثر دائم على المنطق، والرياضيات، ونظرية المجموعات، والحوسبة العلمية (نظرية الأنماط)، وفلسفة اللغة، ونظرية المعرفة، وعلوم ما وراء الطبيعة؛ وقلما ترك فيلسوف مثل هذا الأثر الدائم في مجالات عديدة كتلك. قدم راسل السلسلة الافتتاحية من «محاضرات ريث» الإذاعية (التي بثتها هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي) عام ١٩٤٨، ونال «وسام الاستحقاق» عام ١٩٤٩ (وهو شرف عظيم في بريطانيا)، وواصل سعيه السياسي حتى نهاية حياته المديدة. وكان من آخر أعماله العامة إصدار بيان إدانة للعدوان الإسرائيلي في الشرق الأوسط.

مات راسل إثر إصابته بفيروس الإنفلونزا في الثاني من فبراير عام ١٩٧٠ في بنريندايدرث بويلز؛ مسقط رأسه الذي ارتبطت به عائلته سياسيًّا منذ عهد أسرة تيودور، ونُثر رماده في منطقة مرتفعات سنودونيا المجاورة.

ما من فيلسوف عظيم آخر يضاهي برتراند راسل في العمل العام طوال كل هذه المدة وبكل هذا التأثير.

17 Dec, 2015 04:12:20 PM
0

لمشاركة الخبر