Skip to main content

كرايستشرش: مدينة الأحلام

منذ أن دمَّر زلزالان الكاتدرائية ومعظم أجزاء وسط مدينة كرايستشرش في سبتمبر عام ٢٠١٠ وفبراير عام ٢٠١١ والمدينة تتعافى ببطء. تخبرنا جينيفر روبرتس في هذا المقال عن سكان المدينة الأوائل.

بدأ تشييد مدينة كرايستشرش ببناء مجموعة قليلة من المنازل الخشبية، ثم اتسعت رُقعتها على مر العقود لتصبح أكثر مدينة تتسم بالطابع الإنجليزي في المدن التي كانت مستعمرةً من قبل. وعند وقوع زلزال الثاني والعشرين من فبراير عام ٢٠١١، كانت هذه المدينة الأكبر في الجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا؛ حيث بلغ عدد سكانها نحو ٣٧٧ ألف نسمة.

بدأت مدينة كرايستشرش في عام ١٨٤٨ كفكرة ألمعية لدى رجلين هما: إدوارد جيبون ويكفيلد (الذي أسس «شركة نيوزيلندا»؛ مما أدى إلى ظهور المستعمرات في ويلنجتون ونيلسون ونيو بلايموث)، وجون روبرت جودلي (الذي عمل بوصفه مفوضَ لجنة قانون الفقراء لمقاطعة ليتريم خلال السنوات الأولى من مجاعة البطاطس الأيرلندية). أسَّس هذان الرجلان معًا جمعية كانتربري بهدف إنشاء مستعمرة في الجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا تتبع كنيسة إنجلترا. وجذب هذا المشروع، الذي كان الهدف منه تخفيفَ وطأة البطالة والفقر في إنجلترا، عددًا من المؤيدين المؤثرين؛ منهم الأساقفة ورؤساء الأساقفة، وأعضاء البرلمان، والأرستقراطيون، والأعيان ملَّاك الأراضي.

أبحر جودلي إلى نيوزيلندا في ديسمبر عام ١٨٤٩ للعمل بها كموظف مقيم تابع للجمعية. وفي الأول من سبتمبر عام ١٨٥٠ حصل المهاجرون الأوائل، الذين يُعرفون باسم «حجَّاج كانتربري»، على مباركة رئيس أساقفة كانتربري في كاتدرائية القديس بولس. وبعد ثلاثة أيام تحركت أربع سفن، تحمل نحو ٨٠٠ مسافر، من جريفسيند نحو نيوزيلندا، ووصلت إلى ميناء ليتلتون (وهو ميناء مدينة كرايستشرش المستقبلية) في شهر ديسمبر.

كانت الاستعدادات تجري في ليتلتون منذ ١٥ شهرًا، واحتوت المدينة الصغيرة على عدة منازل ومعسكرات للمهاجرين، وفندقين (لا يتعدى حجمهما حجم حانات صغيرة) وثلاثةِ محالَّ تجارية، وعددٍ قليل من المستودعات. كان جودلي وزوجته تشارلوت يعيشان في المبنى الوحيد ذي الطابقين، وهو منزل خشبي مثلث الشكل ذو شرفة كبيرة. وكانت تشارلوت ترى أن «فرشه مقبول لكن تنقصه المقاعد.»

وخَلْف ليتلتون تمتد بورت هيلز (حافة بركان خامد) بانحدار شديد فوق مستوى الميناء، ويصل ارتفاعها إلى ما يقرب من ١٥٠٠ قدم. تنمو مساحات صغيرة من الشجيرات القصيرة في طيات التلال، ويمتد طريق «يشبه في انحداره تقريبًا سقف المنزل» حتى القمة، ثم يتجه نزولًا إلى الجانب الآخر. ومع بناء المستوطنين للأكواخ والمنازل وتسقيفها بحُزَم من نبات «توتو» (نبات محلي) ونبات السرخس، دبَّت الحياة في المنحدرات مع انتشار الأكواخ بها، وغيرها من المساكن المؤقتة. استمتع الرجال بوقتهم، فكتب أحدهم يقول: «كيف لنا أن ننسى هذا الوقت المبهج والممتع؟» لكن بعض النساء كُنَّ أقل حماسة: «إن المستوطنين وحدهم هم من يدركون معنى وُعورة الأرض. إنها بيئة لا تلائم إلا الشباب والأقوياء والمفعمين بالحيوية. بإمكاني أن أسرد عليكم قصة ستدمع لها عيونكم عن التحولات والصعوبات المختلفة التي اضطُر المستوطنون لمواجهتها.»

لقد تكبَّد المئات من الرجال والنساء والأطفال مشقة الصعود إلى قمة بورت هيلز وهم يحملون حُزَم الأمتعة مع ربط القدور والمقالي حول أعناقهم. وعند وصولهم إلى القمة كانوا ينزلون من الجانب الآخر؛ حيث يمرون بِكَمٍّ كبير من الأعشاب الطويلة المتيبسة، ثم يسيرون خمسة أميال فوق أرض مستنقعية، يغوصون فيها عادةً حتى رُكبِهم، حتى يصلوا في النهاية إلى موقع مدينة كرايستشرش المستقبلية على السهول.

خلال الأسابيع القليلة التالية بدأت المدينة الوليدة تزخر ﺑ «مساكن من مختلف الأنواع: خيام، ومنازل من حُزم القصب ومن العشب ومن الخُثِّ، ومنازل مصنوعة من الشرائح الخشبية ومن الجص والألواح الخشبية والطمي والطين الجاف … ويتكون بعضها من ألواح وأغطية معلقة على أعمدة.» كانت ثمة محالُّ للمواد الغذائية ومتاجر، وكانت الشوارع «مزدحمة بالعربات التي تجرها العجول، وبالأحصنة، وعدد لا يُحصى من الكلاب من جميع الأنواع الممكنة.»

خلال السنة الأولى من الاستيطان وصلت ١٩ سفينة تحمل ٣ آلاف مهاجر إلى ميناء ليتلتون. وإلى حين دخول قانون دستور نيوزيلندا (١٨٥٢) حيز التنفيذ، كان جودلي هو المسئول أمام جمعية كانتربري في لندن. سمح هذا القانون بالحكم الذاتي المحلي في نيوزيلندا، مع إنشاء ستِّ مقاطعات، كلٌّ منها يحكمه مجلس محلي منتخَب يرأسه مشرف. وفي الوقت نفسه عزمت الجمعية على وقْف عملها وتفويض أصولها ومسئولياتها لمقاطعة كانتربري المؤسَّسة حديثًا.

رمز المدينة

كان المستوطنون يأملون أن يترشح جودلي في الانتخابات؛ ليصبح أول مشرف لكانتربري، لكنه رفض وأعلن عودته إلى إنجلترا في ديسمبر عام ١٨٥٢. كتب قائلًا: «إن الناس هنا حريصون على بقائي، لكني أرفض بشيء من التردد والندم … وآمل أن يكون فيتزجيرالد هو المرشح الفائز في الانتخابات.»

عمل جيمس إدوارد فيتزجيرالد وكيلًا للهجرة لصالح الجمعية في لندن، وقد أبحر على متن أول سفينة للهجرة وصلت إلى كانتربري، وكان أول «حاج» يصل إلى الشاطئ. تولى تحرير أول جريدة صدرت (ذا ليتلتون تايمز)؛ حيث نشر العدد الافتتاحي بعد ٢٦ يومًا فقط من وصوله إلى المستعمرة. وبعد عشر سنوات أسس جريدة «ذا برِس» وهي ما تزال تصدر إلى الآن. تفاوض فيتزجيرالد أيضًا مع جورج جيلبرت سكوت على تصميم كاتدرائية كرايستشرش، وهو المبنى الذي أصبح رمزًا للمدينة وصار حطامًا في الوقت الحالي إثر الزلزال.

انتُخِب فيتزجيرالد أول مشرف في يوليو عام ١٨٥٣ متصدرًا التصويت بأغلبية ساحقة. وتجمَّع مؤيدوه في فندق «ذا ميتر»، وحسب رواية المحامي هنري سِيوُل فإنهم اجتمعوا «على بعض من شراب البنش الكريه وبعض من الخمر الجيدة جدًّا»، وعبَّروا عن سعادتهم بنجاحه «باحتساء كثير من الخمر وإلقاء الخُطب.» قدَّم فيتزجيرالد وصفًا أكثر تفصيلًا ذاكرًا أن مؤيديه «ثملوا لمدة ثلاثة أيام، وشربوا ٧٦ زجاجة من خمر ماديرا في ليلة واحدة.»

عثر فيتزجيرالد على مبنًى خالٍ على أطراف المدينة، و«من المثير للدهشة أنه خلال فترة زمنية قصيرة» حوَّله إلى قاعة اجتماعات للمجلس. كُسِيَت الجدران بورق الحائط، وفُرشت الأرضيات بالسجاد، وأضيفت الشرفات من أجل عموم الجماهير والصحافة. واشترى مقاعد ذات وسائد حمراء، وبنى منصة للمتحدِّث يوجد عليها «مقعد كبير وفخم كالموجود في القاعات الماسونية.» وأمام هذه المنصة كانت ثمة «طاولة خالية من الزخارف مغطَّاة بالورق، نُشِرت القوانين الإنجليزية على واجهتها على نحوٍ لافت بحيث تضفي مظهرًا تشريعيًّا على المكان.»

وصف فيتزجيرالد غرفة اجتماعات المجلس بأنها «مبنى فخم وأنيق للغاية.» لكن لم يوافق آخرون على هذا؛ فالمبنى من الداخل، كما كتب أحد زملائه، «يعطيك انطباعًا بالإتقان التام، لكنه مجهَّز على نحو مهلهل ورديء»؛ فالمقاعد كانت «صلبة كالحديد»، والمبنى نفسه كان «باليًا للغاية؛ فهو مبنًى خشبي سيئ ومهجور، يقبع وحده وسط مزرعة بطاطس … لا يمكن الوصول إليه إلا عبر قطعة أرض مفتوحة بلا طرق محددة … يصعب المرور بها في الطقس الجاف، وتكون مزرية للغاية في الطقس الرطب.»

أُجريت انتخابات المجلس المحلي في سبتمبر عام ١٨٥٣ وعُقِد الاجتماع الأول له عقب هذا بأسبوعين. أصرَّ فيتزجيرالد على إجراء وقائع المجلس «بأقصى درجة من الوقار واللياقة»، وأن تسير الاجتماعات وفقًا لبروتوكول مجلس العموم البريطاني في لندن، وقد أدت هذه السياسة إلى اضطراب بين أعضاء المجلس الذين لا دراية لهم على الإطلاق بالبروتوكول البرلماني.

خلال العقد التالي عمل المشرف والمجلس المحلي على بناء مجتمع سليم متكامل؛ حيث صدرت تشريعات لجميع المقومات المطلوبة لإنشاء مقاطعة جديدة وإدارتها؛ مثل اللوائح الخاصة بالأراضي، والمسائل المالية والقانونية، وتوريد العمالة، والهجرة، والتعليم، والطرق، والجسور، والتعامل مع جرب الأغنام. نمت كرايستشرش لتصبح مدينة فيكتورية صغيرة. كتب فيتزجيرالد في يناير عام ١٨٦٤: «لم يكن جودلي ليعرف المدينة على الإطلاق إذا رآها؛ فقد مُدَّت أميال من الطرق المستقيمة المرصوفة بالحجارة، تملؤها المنازل، واختفى كل أثر للريف القديم … منازل يصل ارتفاعها إلى طابقين أو ثلاثة. تقف سيارات الأجرة في الموقف الخاص بها وترش عربات المياه الشوارع … وثمة مسرح صغير يعرض مسرحيات شكسبير. كما يوجد مبنًى جديد لدار البلدية يسع ٧٠٠ أو ٨٠٠ فرد … الأمر كله يبدو كالحلم بالنسبة لي.»

وخلال الأعوام التالية، البالغ عددها ١٤٧ عامًا، اتسعت المدينة وازدهرت حتى دمَّرها زلزال عام ٢٠١١. سقطت بعض التماثيل الأخرى عن قاعدتها؛ مثل تمثال جودلي الذي وقع على وجهه في ميدان الكاتدرائية، لكن تمثال فيتزجيرالد ما زال قائمًا وبصره موجَّه نحو شارع كاشيل؛ حيث كان يعيش هو وعائلته فوق مطابع جريدته. والآن ينظر فيتزجيرالد إلى مدينة محطمة، لكنه سرعان ما سيشهد نهضتها من جديد.

29 Dec, 2015 12:13:15 PM
0

لمشاركة الخبر