Skip to main content

الأفكار: فيروسات الدماغ

أسأل نفسي دائماً لماذا لا يقتنع البعض أن الإنسان تطور من كائنات آخرى وصولاً إلى الصيغة الحالية؟ ما هي المعضلة؟ نحن نقدم دلائل عن نظرية التطور أكثر من الدلائل عن نظرية الجاذبية و مع ذلك يوجد من هم غير مقتنعين بأن التطور حقيقة علمية يعتمد عليها القطاع الطبي بأكمله؟

في هذه المقالة سأقوم بتحليل ما يجري في الدماغ و لماذا نجد أنفسنا نقاوم تقبل الأفكار الجديدة المناقضة لمعارفنا الحالية. لماذا يشعر الكثير من الناس أنهم يقدمون طرح منطقي و علمي موثّق لكن الطرف الآخر يبقى غير مقتنع؟

أنا لا أريد التعمق كثيراً في العمل الدماغي لكن من المهم أن نذكر أن الوعي ليس إلا المرحلة الآخيرة من عدة مراحل سابقة له و أنك عندما تشعر و كأنك اتخذت قرار ما فهذا ليس إلا وهم دماغي يبرر آليات الوصول إلى القرار. الفكرة هنا أنك لست قبطان جسدك و أنما فقط في وظيفة المراقب الذي يشعر و كأنه مسيطر على الجسد. للمزيد من المعلومات اقرأ مقال سابق باسم “الأنا و الروح و الدماغ”

كيف يعمل الدماغ (مبسط جداً):

الدماغ يستقبل ألاف الرسائل القادمة من أقسام الاستشعار طوال الوقت (العيون، الأذان، الجلد، الأنف، العضلات، اللسان، الخ) هذه الرسائل يتم ترجمتها و تحويلها إلى قالب افتراضي يماشي أقرب تصور للواقع. يتم تحليل المعلومات و ارسالها للأقسام المختصة للبناء عليها و التفاعل معها.

في حال عدم القدرة على رسم قالب يماشي الواقع يقوم الدماغ بافتراض واقع يفسر الرسائل الواردة بأفضل طريقة ممكنة تؤمن سلامة الجسد بالدرجة الأولى.

دون الدخول في التفاصيل أكثر ما أريد ذكره في هذه المرحلة هو أن الدماغ عبارة عن مجموعة أعضاء عصبية تعمل على رسم قالب يماشي العالم الخارجي بأفضل طريقة ممكنة. هدف هذه العملية هو ليس الوصول إلى حقائق موضوعية و إنما رسم تصور يساهم في بقاء النظام على قيد الحياة. مثلاً في حال أنك سمعت صوت مجهول في منزلك فأول ما سيخطر في بالك هو وجود لص أو خطر ما يمكن أن يهدد حياتك. أنت لا تبدأ بافتراض أنها نافذة المطبخ المفتوحة و أنه صوت الريح.

Big Boy in Bushes_1

إن كنت تمشي في الغابة وحيداً و سمعت صوتاً من بين الأشجار وكأنه يتبعك أنت لا تفترض أنه لابد أن يكون غصن شجرة يتمدد بسبب الأمطار، على العكس ستفترض وجود الخطر حتى يثبت العكس. افتراض الخطر أولاً هي استراتجية رابحة لأن ارتكاب استناج خاطئ في حال وجود خطر حقيقي سيكون مكلف جداً (ربما الموت) بينما اكتشاف أن الشعور بالخطر لم يكن إلا انذار خاطئ فستكون تكلفته ليست سوى بعض الافرازات الهرمونية من الأندرنالين و يعود بعدها كل شيئ إلى طبيعته.

هذه الفقرة مهمة لتوضيح أن الدماغ ليس وسيلة للوصول إلى حقائق موضوعية و إنما لقيادة الجسد بشكل يضمن بقائه حتى مرحلة التكاثر على الأقل. كل من لم يكن دماغة كذلك تعرض للانقراض و خرج من المجمع الجيني. إذاً المنطق البشري و العمل الدماغي ليسا معيار تقاس به الحقائق.

طريقة بناء الأفكار:

أقرب تشبيه ممكن أن أقوم به لتوصيف الأفكار هي أنها فيروسات دماغية. الفيروس بشكل عام عبارة عن تعلميات نووية تتفاعل مع الحمض النووي داخل الخلايا الحية و لا قيمة له دون وجوده في حاضنة قادرة على ترجمة هذه التعليمات النووية. الفيروس الذي لا يحمل تعليمات تكون نتيجتها أن ينسخ نفسه عبر خلايا جديدة ينقرض و الفيروس الذي ينجح في نسخ نفسه يبقى و ينتشر بين الأحياء. لهذا نحن لن نجد يوماً فيروس يتضمن في تعليماته أن لا ينسخ نفسه.

conceptual virus illustration

conceptual virus illustration

مثلاً فيروس الرشح ينتج عنه حالة سيلان مخاطيه و عطس ليس كنتيجة للمرض و أنما كآلية للانتشار. أنت لا تعطس إلا لأن الفيروس الذي أصابك يحتاج أن ينتشر إلى أكبر عدد ممكن من الناس و لهذا يصيب جهازك التنفسي و يجبرك على العطس.

هذا بحث كبير جداً و شيق و ربما أخصص له مقال مستقل في المستقبل. لو كان فيروس الرشح يسبب احمرار للعيون فقط لكان قد انقرض منذ زمن لأنه لا وسيلة له للانتشار. طبعاً الفيروس في رآيي العلمي ليس كائن حي و إنما قطعة تعليمات ننووية تتفاعل مع مضيف حي و لهذا نجد أن قطعة التعليمات هذه ليست معنية ببقاء مضيفها على قيد الحياة طالما أن النتيجة النهائية هي انتقالها لمضيف آخر طوال الوقت.

يجدر التنويه أن الفيروس ليس واعي و ليس لديه مخطط استعماري وإنما هو نتيجة أخطأ في الحمض النووي استطاعت أن تبقى ضمن المجمع الجيني بسبب الأوامر المتضمنة في محتوها التي مكنتها من الإنتشار. هكذا يبدو لنا الآمر و كأنها عملية مخطط لها و مدروسة لكنها في الواقع عملية عمياء ناتجة عن انتقاء طبيعي بين الفيروسات. الفيروسات الأكثر قدرة على الإنتشار تبقى بغض النظر على تأثيرها على الجسم المضيف. طريقة عمل الفيروس هي أنه يغمس نفسه ضمن الحمض النووي للخلايا و يغير في تعليماتها بعض الشيئ.

هذا التغير إن لم يكن ينتج عنه استمرار للفيروس في خلايا آخرى سينتهي و لن نعرف عنه اطلاقاً، لذلك كل الفيروسات التي نعرفها اليوم هي بشكل من الأشكال ناجحة في نسخ نفسها بين الكائنات.

ملاحظة جانبية: من إحدى دلائل نظرية التطور هي دراسة مواقع الفيروسات في الحمض النووي للأحياء إذا أننا نجد أماكن تواجد هذه الفيروسات تاريخياً متتطابق لدى الكائنات التي تنتمي لسلسة واحدة مما يدل على أنها أتت من سلف مشترك كان يحمل هذا الفيروس ضمن حمضه النووي في مرحلة سابقة من تاريخه.

31 Aug, 2020 03:40:32 PM
0

لمشاركة الخبر