Skip to main content
جائحة كورونا تحيي أمجاد الفلسفة

جائحة كورونا تحيي أمجاد الفلسفة

 

احتفل العالم في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي باليوم العالمي للفلسفة، في أجواء فرض فيها فيروس كورونا أن تكون استثنائية، بدءا من طرق وكيفيات الاحتفاء، حيث تمت في أغلبيتها بطريقة افتراضية، وصولا إلى شعار هذا العام "أهمية الفلسفة في أتون الأزمة"، ما يعني أن التأثير امتد إلى موضوع اليوم الدولي، وكان ذلك مناسبة لاستحضار أهمية التفكير الفلسفي في التعامل مع التحديات العديدة التي تعصف بالعالم، وفي الآن ذاته دعوة إلى الوقوف على دلالات جائحة كورونا وسبر أغوارها.
استطاع فيروس كورونا أن يضع إنسان القرن الـ21 وجها لوجه أمام مرآة الحقيقة، فالعقل البشري الذي نجح في تطويع كل شيء لخدمته، في البر والبحر والجو بدا شبه عاجز أمام هجوم كائن مجهري، تسبب في أزمة صحية عالمية، لا سبيل للنجاة منها بغير استعادة أسلوب "الحجر الصحي" الضارب في الأصالة والقدم.
وجدت الإنسانية جمعاء نفسها، مع انتشار فيروس كورونا الكاسح، أمام مفارقة عجيبة تثير شكوكا وتطرح تساؤلات، بشأن عديد من جوانب الحياة في المجتمع المعاصر، إذ رافق هذا الانتشار سيل من الأسئلة المتولدة تباعا مع تزايد شدة هجوم الفيروس. لقد أتاحت العزلة داخل المنازل، بسبب الحجر الصحي للأفراد فرصة التفكير والتأمل والنقد والعودة إلى الذات، استفسارا واستفهاما واستشكالا.
نجح وباء كورونا في تحويل الفرد إلى ذات مفكرة، فالكل يسأل ويستفهم ماذا ولماذا وكيف حدث هذا؟ ويستفسر عن وعود التكنولوجيا والتقنية والرقمنة بالقدرة على التحكم في كل شيء. انتقلت هذه الذوات من مستوى السؤال العابر "اليومي" نحو أسئلة عميقة ومركبة، أوجبت الاستعانة بـ"أم العلوم"، رغم تراجع الاهتمام والعناية بها في العقود الأخيرة، نتيجة حصار الثورة الرقمية لها، فالدهشة أضحت من نصيب منجزات هذه الأخيرة، بعد أن رافقت الفلسفة على مدار قرون زمنية، فهي بحسب كثير من الفلاسفة أصل الفلسفة منذ اليونان.
أعادت جائحة كورونا الاعتبار إلى الفلسفة، بعدما تجددت المواجهة القديمة بين الإنسان والطبيعة، فقد كان هذا الصراع على مدى حقب زمنية مختلفة جوهر ديناميته. وأعاد الاعتبار إلى الفلسفة بدوره، وفي عز هذه الأزمة، تعريف علاقة الإنسان بالحياة بصورة معقدة، وبث الروح في الدهشة أمام الظواهر والموجودات، بشكل يدفع الإنسان إلى التوقف أمام معنى أو لا معنى ما يظهر على سطح العالم، للغوص في كنهه ومساءلة حقيقته.
ولطفت من تشنج العلاقة القائمة بين الناس والفلسفة، فقد اقترنت في أذهان الأغلبية بالتعقيد والغموض، حتى إنهم يقولون عمن يتكلم بغير بيان بأنه يتفلسف، أي يقول كلاما لا يفهمه إلا خاصة الخاصة. فالفلسفة حتى في أنظار المتعلمين مادة عسيرة ومعقدة، أشبه ما تكون بكتلة مجردة، تستعمل خطابا ومفاهيم بعيدة كليا عن الحياة الفعلية واليومية للإنسان. فقد تابع الجميع كيف ساعدت الفلسفة، بأدواتها وطرائقها، العالم على المضي قدما، من خلال تحفيز التفكير النقدي في المشكلات الموجودة.
وأزالت سوء فهم العامة للفلسفة والفلاسفة، بإتاحة الفرصة أمام الجميع لمعرفة حقيقة الأسئلة الفلسفية، لقد تحول التساؤل الذي تعاب الفلسفة بإثارته في كل وقت وحين إلى أعز ما يطلب في زمن كورونا، بعدما أيقنت الإنسانية أن الأزمات ما هي إلا أسئلة كبرى، تطرحها الطبيعة علينا، وتنقسم بدورها إلى أسئلة تحتاج إلى إجابات وافية، وأخرى تدفع بشكل أو بآخر نحو التأمل، لإعادة قراءة أوضاع العالم، في ظل الأزمات الملحة التي تجتاح حياتنا بدون أسباب مسبقة.
ودفعت الإنسانية إلى إعادة الاعتبار لمفاهيم طالما ساجل بشأنها الفلاسفة، دون أي عناية ولا اهتمام، حيث عد العامة كلامهم مجرد سفسطة. أدرك من عاش لحظة كورونا ما معنى الحرية والحق في الحياة.. وما مدى قوة الطبيعة وضعف الكائن البشري، فكلما اعتقد الإنسان أنه تقدم وتطور، وتبدّى له أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الإمساك بالطبيعة والتحكم فيها، وتسخيرها لخدمته، تباغته مذكرة إياه بحجمه وقدرته، ومدى هشاشته وضعفه.
يتبادر إلى الذهن عند كل حديث عن الفلسفة الفيلسوف اليوناني سقراط، الذي تسعى كورونا إلى استعادة الإنسانية إلى سؤاله الأول، إذ ينسب إليه التحول في التفكير الإنساني، حيث انتقل بموضوع التفكير الفلسفي من الطبيعة إلى الإنسان. فمن كان قبله من الحكماء انشغلوا بالطبيعة، محاولين البحث في العناصر التي يمكن إرجاعها إليها، بينما وجه سقراط التفكير نحو الإنسان الذي جعله الموضوع الأساس للفلسفة، فانشغل التفكير الفلسفي بعده بحقيقة الإنسان ككائن، ثم بفعالياته الأخلاقية والمجتمعية والسياسية.
يظهر التوجه العالمي لتجاوز مخلفات جائحة كورونا، أن الإنسانية استوعبت جيدا الدرس الفلسفي، وفهمت كنه السؤال السقراطي، فالكل يدرك أننا نسافر على القارب نفسه، ونعيش على الكوكب نفسه، ويتهددنا المصير المشترك ذاته.. ألم تصبح فجأة مقولة الفيلسوف الفرنسي الشهيرة "الجحيم هو الآخر" حقيقة واقعية في زمن كورونا، أم يصبح الحجر سجنا طوعيا يلوذ به الإنسان راضيا، ويسمح للسلطة بأن تفرضه عليه، مسلما ومستسلما؟
من حق الفلسفة أن تسجل في يومها العالمي، أنها لم ولن تكون أبدا جزءا من الماضي، بل يمكن أن توفر حلولا للأزمات التي يعيشها الإنسان في الوقت الحاضر، وبمقدورها أيضا أن تعيد إلى المجتمع اتساقه المفقود، وفي ذلك يقول الفيلسوف بول ريكور "كل الفلاسفة يعيشون معنا في الحاضر، وكل الكتب مفتوحة على موائدنا في وقت واحد، فلمَ لا نجري معهم حوارا دائما، قد يساعدنا على الإقامة بشكل أفضل في العالم الذي نعيش فيه؟".

 

 

 

المصدر: الأقتصادية 

28 Nov, 2020 04:08:56 PM
0

لمشاركة الخبر